يثير هذا العنوان مجموعة من القضايا، فهل هناك حقًّا ما يسمى المعنى الشعري، وما حدود قرينه؛ "المعنى اللا شعري" القابع فيما يثيره العنوان من أسئلة! وهل يمكن أن يحمل النص معنى شعريًّا وآخر غير شعري؟ وماذا عن الشعر، أهو المعنى، أم إيقاع المعنى؟ وما الذي يخلق النص الشعري؟ هل هو النظم؟ وما الذي يتبقى من الشعر إن خلا من الإيقاع, هل هو المعنى بما يحمله من نية سابقة للنظم؟ بداية, أرى أن الجمال حاضرٌ دائمًا لإدهاشنا، وإنه إذا كان لدينا ما يكفي من الحساسية، فبإمكاننا أن نتلمس الجمال في شعر اللغات كلها. ذلك على الرغم من اختلاف التقاليد الشعرية بين الأمم, هذا إذا كانت رؤيتنا إلى النوع الأدبي محملة بسماحة تقبل حضور الآخر من جهة, وترفض فهم النوع الأدبي بصفته حاملاً لمكونات لا تتغير, مثل مكونات الهوية البيولوجية من جهة أخرى. وأذهب إلى أن افتراض وجود مشترك بين التقاليد الشعرية في مختلف اللغات, وعديد أساليبها بين الأمم, أمر ممكن, وصحيح على الدوام, وقد اخترت لإيضاح ما أذهب إليه هنا نموذجًا شعريًّا من شعر "الواكا" الياباني لسببين الأول هو حيدة القاريء العربي تجاهه، وهذا ما قد يجعله مستقبلاً جيدًا لهذا الشكل الشعري دون موقف عدائي تجاهه، والثاني لأنه شكل شعري –على الرغم من قدمه- قريب من قصيدة النثر المعاصرة، في شكولها القصيرة بخاصة. أتناول هنا قصيدة "واكا" ترجمها محمد عضيمة, يدور مضمونها حول موضوع الكتمان، وتجدر الإشارة إلى أن شعر الواكا الياباني لا يقوم على الإيقاع الكمي الذي ينهض عليه أساس شعرنا العربي، ولا يقوم على النبر أيضًا، ونقصد بالنبر هنا مقاطع الكلمات التي يقع عليها التشديد الصوتي، ولكن يُحدّدُ طولَ البيت في هذا الشكل عددُ مقاطعه فحسب. وهو شكل نثبت من خلاله قدرة ما نسميه في طرحنا هذا "بالمعنى الشعري" على الإشارة إلى الدلالة النصية للنوع الشعري، وهو مشير نوعي يطرح السؤال عن صحة تطبيقه على مختلف شكول القصيدة المعاصرة. يقول الشاعر: (مثلُ الريفِ المزروعِ بأشجارِ الكستناءِ الفتيةِ، في هيكيو- تا، أشْرَفا عَلى النّومِ فِي شَبابِهِما، آهٍ.. كمْ شِخْنَا). تبدو هذه الكتلة النصية الصغيرة قطعة نثرية مباشرة وبسيطة, لا شعر فيها, يمكن أن تمرّ على القاريء العادي دون أن ينتبه إلى المعنى الشعري الخافق فيها، بل يمكن الزعم أن هذه القطعة تبدو خالية من فنيات الكتابة الأدبية, نظرًا إلى تقشفها البلاغي الشديد موازنة بكثافة المجاز التي يحتفي بها الشعر بعامة, ربما يتوقف القاريء أمام كلمة "هيكيو- تا"، ومغزى وجودها في النص، وربما يحتاج الربط بين السطر الأول في النص؛ "مثلُ الريفِ المزروعِ بأشجارِ الكستناءِ الفتيةِ"، والسطر الثالث؛ "أشْرَفَا عَلى النّومِ فِي شَبابِهِمَا" بعض الجهد، مثله في ذلك مثل الالتفات الذي عبر عنه السطر الأخير؛ "آهٍ.. كمْ شِخْنَا"، لكننا نشعر مباشرة بخلو هذه المقطوعة من الشعر, خصوصًا إذا كُتبت أسطرُها على نحو متتابع, دون مشير شكلي على مستوى الكتابة يثير الانتباه إلى كونها شعرًا. ولهذه القصيدة حكاية قد توضح المعنى الشعري الخجول فيها. "خرج امبراطور ياباني ذات يوم يبتغي النزهة، وحين وصل إلى نهر "ميوا"، رأى فتاة شابة، فائقة الجمال، تغسل الثياب، فسألها عن نسبها فقالت: أدعى أكائيكو، وأنا من قبيلة "هيكيه- تا"، فقال لها لا تتزوجي، سأطلبك فيما بعد، ثم عاد إلى قصره، ونسي ما وعد به, أما أكائيكو فقد ظلت تنتظر استدعاءه لها، حتى بلغت الثمانين، ولما يئست, حدثت نفسها "شاهدت انقضاء سنوات وسنوات عديدة في انتظار إشارة منه، وقد نَحِفَ وجهي، وهرم جسمي, ولم يعد لدي أمل، ولا أستطيع احتمال هذه الكآبة، وهذا الكتمان, فحملتِ الهدايا التي جمعتها لخطوبتها، وذهبت إلى القصر، تقدمها إلى الامبراطور، فسألها، وقد نسى ما كان بينهما، من أنت أيتها العجوز، ولِمَ أتيت إلى هنا، فأجابته أكائيكو، تلقيت من الامبراطور أمرًا، ورحت أنتظر إشارته إلى اليوم، حتى بلغت الثمانين، وشاخ وجهي، ولم أعد أنتظر شيئًا، فجئت إلى الإمبراطور كي أعبر عن خواطري"، [فقد وارت حبها، وكتمت ما اعتمل في نفسها كل هذه السنين] فذهل الامبراطور حين سمع ذلك، وقال لها "لقد نسيتُ حكاية الماضي هذه، ومع ذلك أطعتِ بوفاء، وانتظرت إشارتي، بل تركت أجمل الأعوام تضيع منك عبثًا، إنه لأمر محزن".. فقد منع عائق شيخوختها الزواج بها، عندئذٍ أنشأ لها القصيدة السالفة، ففاضت عينا أكائيكو بالدموع، وغمرت أكمام ثوبها، وقالت شعرًا جوابًا على شعر الامبراطور, بعد أن أثقلها الكتمان، فهي تعلم الآن أن الرباط بينهما محال، لكن البوح الذي أثقل كاهلها هو ما دفعها إلى رؤيته، فأنشأت قائلة ردًّا على قصيدته: (اللوتس ِفي خَليجِ "كسَا كايه"، اللوتس المُزهِرَة, كمْ أحْسُدُ النّاسَ عَلى أعمارِهِم الفَتِيّة).. يقول الشاعر الياباني "باشو" في قصيدة من قصائده، إنه بدلاً من قطف زهر اللوتس ووضعه على المذبح، يجب أن نتركه في مكانه في البركة قرابين لأرواح الموتى. فهل يشير زهر اللوتس هنا إلى موت معنوي، إلى قربان ما وإلى نهاية. لقد انسرب عمر أكائيكو، وهي تحتفظ بمشاعرها حتى بلغ عمرها الثمانين، قبل أن تقرر البوح، هذا البوح في حقيقته هو قربان عمرها، الذي ضاع في الانتظار، لكن عمرها لم يضع هباءً، بعد أن تركت لنا هذه المشاعر النبيلة في قصيدتها، فهي وإن زال شبابها, وهرم جسدها، تظل بتضحيتها, وإخلاصها النبيل, شاهدة على جمال لا يزول.. تختلف قراءة هاتين القصيدتين قبل هذه الحكاية, وبعدها, فهذه الحكاية هي ما تجعل المعنى شعريًّا، وأخّاذًا، وقابلاً للتأويل، بعد أن كان غامضًا، وخجولاً, لا يبين، فقد يسرت هذه الحكاية العثور على ما أسميه "المعنى الشعري". وفي هذا ما يعيدنا إلى مسألة مهمة نؤكدها في هذا السياق وهي أنه "من المحال الفصل بين الثقافي واللغوي"، عند تأويل النص الشعري بخاصة. وهذا ما يربط على نحو وثيق مضمون الدلالة بشكلها من جهة، وبسياقها الثقافي من جهة أخرى. في هذا العصر, يصبح النظر من مدخل جانبي جديد إلى قضية النوع الشعري, في ضوء هذا التداخل بين الأنواع الأدبية والفنية، ضرورة لا مفر منها، وهذا ما نحاول أن نقوم به من خلال حدود مفهومنا عما نسميه "المعنى الشعري" بصفته مشيرًا مهمًّا إلى النوع الشعري في شكول الكتابة الشعرية الجديدة والمعاصرة. لأن هناك من يغيب عنه الانتباه إلى حضور هذا المعنى في نصّ يغيب عنه مشيره الدلالي التقليدي الذي اعتاده في شعره القومي، كمشير الوزن والقافية في الشعر العربي التقليدي، حينها يظل المعنى الشعري في القراءة السريعة لمثل هذه النصوص, خبيئًا خجولاً، يحتاج إلى من ينفض عنه غبار العماء، وما خلقته خشونة الألفة, وبلادة الاعتياد, يقول جلال الدين الرومي "المعنى في الشعر لا يكون خاليًا من الغموض، وهو كحجر المقلاع، لا يمكن السيطرة عليه".. ====================== د. علاء عبد الهادي