محمد باقي محمد قراءة في مجموعة " ثقل الفراشة فوق سطح الجرس" للقاص المغربي أنيس الرافعي: مسكوناً بهاجس الحداثة يذهب " الرافعي" بعيداً في اجتراح الجديد، حتى على مُستوى العنوان، إذْ أطلق مجموعته هذه بعد أن وسمها ب " ثقل الفراشة فوق سطح الجرس"، فأيّ فراشة هي تلك التي تضغط بثقلها على جرس!؟ و أي جرس هو ذاك الذي يتأثر بفراشة حطت عليه ذات فجأة!؟ هل نحن بصدد وهم المُغايرة على حدّ تعبير الشاعر الكبير " أدونيس!؟ أي أيكون " الرافعي" قد وقع في وهم كهذا، لمُجرّد أنّه خالف المألوف، أم أنّه أقدم على ما أقدم عليه لأنّ الأساليب القديمة لم تعد تلبّي حاجته إلى التعبير!؟ وإذا اعترفنا له بمقدرته على استثارة فضولنا، ما يتيح للعنوان أن يكون عتبة لنصوصه، تحضّنا على قراءتها، وتدفعنا إلى أن نقرّ بنجاحه في تخير ذلك العنوان، ألن يكون السؤال - إذاك - ثمّ ماذا بعد!؟ بيد أنّ القاص يُتابع على المنوال ذاته - حتى - في الإهداء، على ولع باللعب على اللغة، إذْ كيف ليد " وحيد الطويلة" أن تُدفن في قفاز ضخم، لا لشيء - اللهم - إلاّ لتروّض القصص على اقتناص الحياة في جوهرها، بعيداً عن العارض!؟ وها هو - حتى - قبل أن نبدأ بقراءة المتن، يُحيلنا إلى دهشة أخرى، فما هو مبدأ " ثقل الخفة"!؟ وكيف يتلاقى النقيضان، الخفة والثقل!؟ وهل لفراشة تكاد تكون عديمة الوزن أن تُحرّك جرساً يحتاج في العادة إلى قوة مئة رجل للغرض ذاته!؟ ثمّ يُقدّم لقصّه بمُقدّمة غريبة، إذْ يقترح قراءة فصّة مينيمالية على سبيل التقديم، أو تقديم يصلح لأن يُقرأ كقصّة مينيمالية، ما يُذكّرنا بعصور مُتأخّرة وُسمت بالانحطاط، وصار قراءة البيت الشعريّ فيها من أوّله إلى آخره أو العكس وارداً في إفراط شكلانيّ، فهل نحن أمام الأسلوب ذاته، أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها!؟ تتلخّص المقدمة / القصة- إذن- في عالم من ورق أنتجه كتاب القصّة، والغريب أنّنا إذا تفكّرنا في المسألة ملياً لوجدناها صحيحة، إذْ غبّ أن اكتشف الإنسان الكتابة، ومن ثمّ الورق، لم يعد تصوّر العالم بلا كتابة ممكناً، حتى لكأنّ العالم أضحى عالماً من ورق! لكنّنا - وتحت بند آخر - إذا تفكّرنا فيه على أنّه تاريخ دم، لوجدنا الفكرة - تحت وطأة الحروب التي لا تنتهي، أيضاً - صحيحة، ولو قلبناه على وجوهه المختلفات في ظلّ ثورة المعلومات، لتفاجأنا بأنه فيض بلا نهاية من المعلومات! ولا شكّ في أن دهشتنا ستصل إلى ذروتها، حينما يقترح علينا قائمة إرشادية لقراءة المجموعة، فيلمّح إلى أنّها تتوفّر على مقترحين سرديّين، يقابل كل قصة في المقترح الأوّل تربها في المقترح الثاني، وذلك بعد أن يُقدّم لمنمّلته بمقولة لعباس كيروستامي جدّ غريبة، جاء فيها أنّ " النحلة لسعت جرح قدمي، حصتي من النحلة، حصة النحلة من الجرح"، وإذا بنا نقف أمام قراءة خطيّة، وأخرى ارتدادية، فقراءة عنقوديّة، ثمّ قراءة تناظريّة! نزوع إلى التجريب ليس له مدى ولا حدود ولا ضفاف، وها نحن - بعد جهد - نقف بنصّه الأول، الموسوم ب " احتياطات" الذي يأتي على حدث افتراضي يتلخّص في رجل رأى في حلمه سقوطه من شاهق في بركة شاحبة، تسبح فيها سمكة قرش، ثمّ يلعب على الحدث، فيأتي على حلم رجل آخر يقوم بتعديل الحلم، وإذا به يتلخصّ في بركة ناحلة، تسبح فيها سمكة قرش، تهاوى فيها رجل من شاهق عال جداً، رجل ثالث في حلمه المتموضع بين الحلمين يرى بأنّه - على سبيل توفير أسباب النجاة - هو البركة إياها، أمّا الرابع، وبعيداً عن افتراض العلو والحجم والعمق، فيزج نفسه في حلم شبيه بحلم الأول، فهل الإنسان مشدود إلى قدره بقيود لا فكاك منها!؟ أم أنّ الحياة في أحد وجوهها شبيهة مُستنقع نخلص منه إليه؟! أمّا في " عوليس" الذي يُحيلنا جهة التراث اليونانيّ فيأتي على حكاية سكير، اصطدمت أصابعه بكأسه السابعة فأهرقتها، وبسبب السكر تصوّر القليل من الويسكي، والبعض من الماء، ناهيك عن مُكعبات الثلج، على هيئة أنهار وجداول وبحيرات وجزر، ليرى فيها على نحو ما جغرافية يابسة وهمية محاطة بغمر بحريّ، وراحت أصابعه تتحرى الأشكال الهندسية التي تشكلت من الصبيب، لتقصيه الجزر فغدا مربعاً، ثمّ نهرين تربطهما جداول، أخذت تترسّم سمتها نحو البحيرات، ففاضت بنتيجتها على الجزر والأنهار والجداول، وتشكّلَ منها بحر، ليمخر عبابه وحيداً مع صدى خافت تصرّم لجزره وأنهاره وبحاره! وباستخلاص النتائج من النصين، يمكن القول بأنّ الفنيّ يحتل المقام الرئيس على سلم الأولويات بالنسبة لل "رافعي"، وأنّ الآيديولوجي ينأى كثيراً، طبعاً هو متحزّب لحرية التعبير، وعليه فالحرية تشكّل مفهوماً مركزياً في فكره، ولكنّه ككل مثقفي العالم الثالث مُحبط، ربّما لأنّه - مثلهم - ضحية العلاقة الشائهة والمنكسرة بين المثقف والسلطة، تماماً كما كان الحال عليه عند المتصوفة، إذ وقفوا حائرين أمام تحالف الفقيه مع السلطان، وكان أن تموضعوا في اللغة ، واشتغلوا على تفجيرها من الداخل، فأتحفونا بأحد أهم تيارات الشعر العالميّ، في ما سُمّي بشعر التصوّف، لكنّ التكلفة كانت باهظة، ومثال الحلاج أو السهرورديّ الشهيد حاضران في ذاكرة الماضي بقوة! وفي " فوطوكوبي" يؤكّد " الرافعي" ما ذهبنا إليه من بعد عن الآيديولوجي! كيف، وهو يتصدّى لإشكال علاقة المثقف بالسلطة!؟ نعم.. ولكنّه يشتغل على تلك العلاقة وفق مبدأ التقية، فرسّامه صينيّ، والصين أبعد ما تكون عن المغرب مثلاً، ثمّ أنّ الرسم مُنتهى التجريد، ولذلك فهو يحل محل الكلمة أينما وصل عسف السلطة إلى مداه! الرسام- إذن- يهرب عبر النافذة - أو الكوة - التي تتربّع في صدر لوحته المُعلقة على جدار القصر الملكيّ، ممّن!؟ من بطش السلطة ونزواتها، ولكن ما تأويل الخطاب القائل بأنّ الامبراطور أيضاً انسرب هارباً على الدرب نفسها، عندما تفاجأ بجيوش الغزاة!؟ وما تأويل المقولة التي ترى بأنّ التاريخ يكرّر نفسه بأشكال أخرى ربّما!؟ أهو عكس المعنى من مقولة الناصر صلاح الدين، التي جاءت على أنّ دولته قامت بقلم علمائها وأدبائها والنابهين من أبنائها، لا بسيوف قادتها العسكريّبن!؟ وأنّ الحكام إذ يجتثون عقول أمصارهم، ينحرونها وينتحرون في المُجتبى!؟ وهل مقولة الناصر تلك قابلة للتعميم!؟ فيما يأتي في " لا شعور" على انتحار مجازي لبطله، بأن نشر قدمه بمنشار كهربائي، فلا يتسنى له بعد أن يحتذي الحذاء الذي لم يُفارق قدمه لثلاثين عاماً - أو جنوناً - ونيف، حتى حين كان يُمارس الحبّ، فهل كان الحذاء - حقاًً - تعويضه عن الإخفاق في إقامة علاقات سوية مع العالم!؟ أم أنّ فرويد إذ راح يقسم النفس البشرية إلى " أنا عليا " متضمنة الضمير والأخلاق الجمعي، و " أنا " منضوية على النزوعات والغرائز، و " هو" التي تشكل حاوية للمشاعر والرغائب المكبوتة، سمح لل " رافعي" بالاشتغال على تلك المستويات، بدلالة القرين الذي يُحيل إلى الشخصية ذاتها!؟ أمّا في " تضليل" فيلعب على تبادل الأدوار، ثمّة رجل يقرأ قصّة بوليسية شيقة، عن قاتل محترف ينجو من فعلته، من غير أن تُعرَفَ الضحية التالية، بيد أنّ القصّة تتلبسّه، فهل كان ثمة ظلّ لمعطف طويل اختبأ في ركن مظلم، وهل كان ثمة حفيف لأقدام على الدرج أو في الردهة، ليتلصّص من ثمّ عبر فتحة في الباب، ويكسره!؟ وكيف انقلبت الأدوار، فوُجد القاتل مضرجاً بدمائه، واختفى رجل كان يقرأ في رواية بوليسية!؟ وهل سيتأتى لنا أن نفهم ونعقل، أم أنّ الرصاصة في اللحم لا تعرف من أين جاءت، ربّما لأنّ الحقيقة - أبداً - تسكن جسد الضحية، على حدّ تعبير أحدهم، وهل ثمّة تشابك لا انفصام فيه بين الأدوار، فالقاتل إذ يقدم على اقتراف جريمته، إنّما يُؤسّس للنقيض الذي سيحيله إلى ضحية!؟ أم أنّ العالم هو ما نتصوّره عنه!؟ وفي " رعاية" يأتي على الأفعال المكرّرة التي نقوم بها بحكم العادة، ثمة رجل راح يسقي الأصص، ويطرد القطة الملتصقة بالمكان كدبق، ثمّ يُخرج حاوية القمامة إلى الشرفة، ليجمع الثياب المنشورة فوق حبل الغسيل، ويحكم إغلاق صنبور الماء، ويتفقّد صمّام الأمان في اسطوانة الغاز، بعد أن اطمأنّ على غطاء ابنه النائم، ثمّ أطفأ المذياع، وها هو ينزع النظارة عن عيني عشيق زوجته، ويحمل مرمدة السجائر الملأى بعيداً، يقفل الباب الخارجي، لم يبق له إلاّ أن يضبط المنبه، ولأنّه كان يقوم بالعمل على شاكلة آلة ميكانيكيّة، انضمّ إلى البوم صور العائلة، ربّما لأنّ أفعاله كانت تفتقد إلى الإحساس بالحياة! ولأنّ الحياة لا يحدّها منطق واحد، فالفراغ لايتطابق مع الهندسة الإقليدية تطابقاً تاماً، والزمن لا يسيل قدماً إلى الأمام دوماً، وقد يفترق المنطق الأرسطي عن قانون السببيّة، ثمّ أنّ الإنسان كائن مثله في ذلك مثل بقية الكائنات، ناهيك عن أنّ الحياة لا تختزل في ثنائيّة الحياة والموت فقط، لنسمها بال " واقع"، جاء " الرافعي" على امرأة فقيرة لجأت إلى ساحر القبيلة، ليحولها إلى قطة، ولتتسلل إلى أحد المنازل بدفع من الجوع، فتأتي على الأطعمة المودعة في الثلاجة، وتنتهي قتيلة برصاصة صاحب المنزل، ما يُجبره على دفع فدية كبيرة للقبيلة عن مقتل القطة والمرأة والساحر برصاصة واحدة! ليعزف في " سراب"- المُهداة إلى الكاتب الأردني المعروف " الياس فركوح"- على وتر التجلي والغياب، ثمّة عازف ماهر على العود، ثمة فرقة تصطف وراءه، ولكنّ العازف راح يعزف عزفاً منفرداً، أودع فيه أسرار التشوف والحنين الإنسانيّين، وما إن انتهى حتى ضجّت القاعة بتصفيق حاد، فهل كان العازف أعمى، وهل كان العود بلا أوتار، وهل حقيقة لم يكن ثمة فرقة أساساً، وهل نحن مُجرّد عازفين في جوقة الحياة!؟ أمّا في " ارتجال" فثمة شاب عاشق صدمه قطار حرّ.. ثمة فتاة عاشقة تجثو على ركبتيها.. وبضراعة ما بعدها ضراعة راحت تترجى النبض الموشك على النفاذ أن يأخذ واقع الحال بالحسبان، بيد أنّ الموت الرؤوم تقدّم لا يلوي على شيء، لتطلق الفتاة في وجهه صرخة ملأى باللوعة! انتهى تصوير المشهد، بيد أنّ الشاب لم ينهض من استغراقه العميق في الموت، فهل كان حقاً عاشقاً ولهاً!؟ وإلامَ يرتبط العشق في مشرق الجهات بالموت، وهل الحياة محض تمثيليّة يقوم عليها ممثلون سذج!؟ ثمّ ينتهي إلى " بدرو بارامو"، و " بارامو" هذا هو الشخصية المحورية في رواية المكسيكي " خوان رولفو"، التي وضعها على اسم بطله، تحركت العظام المستكينة لطقطقتها إذن، لتنطلق بركابها إلى قرية " كومالا"، متعجباً كان هو من حافلة لا تتوقف في محطات راحت تتقهقر إلى الوراء.. ومن ركاب لم يعربوا عن رغبتهم في الترجلّ، سأل السائق عن وجهته، فأنبأه الأخير بها، ورجاه أن يعود إلى مكانه، ويتصرف كما يليق بميت، لتنطلق الحافلة نحو صحراء من ملح، تكاثرت في سمائها المنذورة للغربان سحب نذير ما، ربّما لأنّنا ميتون أكثر من كوننا أحياء! وفي " باربيكيو" يأتي على شيء من الخيال العلمي، إذ ثمة كائنات غريبة هبطت على سطح الأرض من كوكب آخر، ليشتغل على تفاصيل اللقاء بينهم وبين بني البشر، وما أسفره هذا اللقاء من معاهدات، وكعادته ينهي " الرافعي" نصّه بالمدهش، ذلك أنّ رائحة شواء اللحم البشريّ راح يصّاعد خلل الاحتفاء بأولئك " الضيوف"! ثمّ يأتي في " غريق" على رجل راح يتعرى على مرأى من الجمهور المعتقل داخل مدار الدهشة، صارخاً أنْ إنّّه القارب.. لقد نجونا! من غير أن يفصح عن كنه الخطر الذي كان يتهدّدهم! بينما يأتي في " خلود" على كائن أضحى في خريف العمر، بيد أنّه راح يزين للنفس أنّها في أوج الشباب والقوة ما يزال، لكنّ قلبه أضرب عن العمل تماماً في اللحظة التي وقع فيها - بحسبه - على فريسة، وعلى الرغم من ذلك لم يجرؤ أحد على اختراق منطقة نفوذه طويلاً، ربّما لأنّنا أسرى للماقبليات من أفكارنا وتصوّراتنا، وأنّنا نتعامل مع صورة الأشياء لا مع كنهها أو تحولاتها! ليلعب ثانية على دلالات الزمن، وتجليات الحضور والغياب في " تعويض"، ذلك أنّ بطله أنشأ يرسم صورته بالألوان، ويلهو بالأرجوحة، يغوص في مياه النافورة، أو يطعن لحاء الأشجار بعيداً عن عيني حارس ما، ليختتم نصه بالغريب المفارق، إذ نتفاجأ بأنّ الحديقة - حيث راح يلهو - كانت مُغلقة منذ أمد! وفي تناص مع " غوغول" سيأتي في " pastiche " على الحلاق " باكوفليفتش" - بطل غوغول - الذي حلم بأنّه مُسخ إلى ثدي، لكنّه إذ أفاق تفاجأ بأنّه إنّما كان قد مُسخ في إهاب صرصور - في إحالة لمسخ كافكا - وعلى مائدة الإفطار ألفى غريغور سامسا - بطل المسخ - و ديفيد كيبتش بطل فيليب روث في روايته الموسومة ب " الثدي" بعد أن فقدا أنفيهما، ربّما لأنّنا إذْ نُمسخ بحكم المجتمعي، نفقد البوصلة نحو الجوهري في الحياة! أمّا في " محو" فيأتي على رجل يضع كتاباً في آلة التصبين، على أمل أن ينام بلا كوابيس مُستمدة من قراءاته فيها، ربّما لأنّها تنضوي على المرعب، وعندما لا يكون ثمة جدوى يُعيد الكتاب إلى رفّه، ويلقي بنفسه في أحضان آلة التصبين تلك! ثمّة فنان اعتاد على أن يخلط الأكواريل بمياه البحر، ولذلك أعياه السبيل إلى إيقاف المدّ والجزر داخل اللوحة، هذا ما جاء عليه " الرافعي" في " تجاوز"، فنحن أسرى لما نصنعه، وقد يفلت زمام الأمور من أيدينا، فتحكمنا بدل أن نحكمها! والآن..! لقد أزف الوقت لأن نقف بمقترحه الثاني، الذي يبدؤه ب " فوستر هاريس"، وفوستر هذا ناقد أميركيّ يقول بأنّ القصة القصيرة شبيهة عملية رياضية، لا كلعبة أرقام، ولكن كجمع أو طرح مجموعة من العناصر النفسية المتناقضة أساساً على عرض السرد وطول الحبكة، فهل هي حقاً كذلك!؟ بمعنى ما قد يكون الجواب " نعم"، ولكن.. وفي الجانب الآخر نجدها على النقيض ممّا تقدّمَ، فواحد زائد واحد يساوي اثنين في علوم الحساب، فيما يساوي علاقة في الأدب.. علاقة حبّ، أو صداقة، أو ربّما عداء! ثمّة رجل متلبس بكابوس متكرّر، ينسرب منه جسده نحو آلة كبيرة لسلوجة الذرة، لتخرج من طرفها الآخر أشلاء على عرض بركة دم، وعلى قاعدة التناظر الذي جاء " الرافعي" عليها في المقدمات، ثمّة رجل آخر في الطرف المُقابل يُعيد تلك الأشلاء إلى الفتحة الأمامية، فيعود الرجل الأول حياً! الأول كان يقوم بجمع مشبوه بين الشقاء والتطهير، فيما يقوم الثاني بطرح نظيف بين حب الذات والخلاص، وها نحن نقف بقصّ يأتي على نهايات سعيدة حال الجمع، بينما يأتي على نهايات مأساويّة في حال الطرح، تماماً كما حدث لبطل هذه القصة، الذي وُجد ميتاً في فراشه، ربّما لأنّه - أو لأنّ قرينه - تعب من عمليات الطرح، فلم يقف عند الفتحة الخلفيّة للآلة ليُعيد نفسه ثانية إلى الحياة! أمّا في " جيشا" فيأتي على سيرة رجل تائب طوى صفحة الفجور، وراح يلوذ بأقرب زجاجة خمر، بيد أنّه يقع فريسة فتاة الجيشا - والجيشا دراسة تقوم على فنّ إمتاع الرجل - المتوضعة في اللوحة، وبخاصة في نقطة حمراء منها كانت تُعاند سواد الحبر الصيني الذي كان يطغى على الصورة، النقطة التي أنشأت تتحول إلى السواد، عندما تمكّن سرطان البحر من سحبها إلى خلفيّة اللوحة الجداريّة! ثمّة رجل شبه مُقعد - إذن - في " إرشادات"، لقد مرت خطوات الزمن ثقيلة فوق الجسد المهدم، لتخلف تنكصاً في المفاصل، وندوباً عديدة في النفس، وها هو في حوارية ذاتية يبث في نفسه الأمل، ويدعوها إلى أن تحلق الذقن، وتزيل ركام التجاعيد.. أن تغادر كرسيها المتحرك بجسد شاب، أن تلبس الزاهي من الألوان، وتغادر- وإلى الأبد- أسْرَ الحياة الأسَريّة المقيت، فتحيا - من ثمّ - حياة أفضل في المرة القادمة، هي دعوة للحياة إذن، بعيداً عن كوابح المجتمع وما قبْلياته! ليأتي في " مضاعف" على رجل راح يحلق ذقنه بانتعاش، لكنّ قطعة صابون مخاتلة أوقعته على زجاج المرآة، لولا أن تدخل القرين- أو الرجل المقابل له في المقترح الثاني، أو الوجه المطل عليه عبر المرآة ليزجر السقوط بكفاءة! ثمّ يتطرّق في " استباق" إلى رجل سيتعرّض لحادثة دهس عند المساء، لقد جلس إلى رجل أشعث، كان ذلك صباح اليوم ذاته، وفي فراغ عينيه، رأى على نحو مُبهم طريقاً فارغاً مُظلماً، ورأى رجلاً يشبهه يقطع ذاك الطريق، من غير أن يتنبّه للشاحنة المسرعة التي كان يقودها الرجل المشعث، في إشارة إلى الحاسة السادسة، التي تتجلى أكثر ما تتجلى عند دنو المنيّة! وفي " فقيد" يأتي على امرأة مُسنة، مشدودة إلى كرسيها الهزاز، راحت تتأمل في كفّها وجه ابنها الذي غيبه الموت منذ نصف قرن، فتسقط في الرجعى، وتتذكّر تفاصيل عزيزة على قلبها، لم يتمكّن النسيان من سلبها! ولكن لماذا تهرع كل ليلة مع طيفها إلى غرفته، لتعيش التوزّع، من غير أن تفتح الباب له!؟ ألأنّنا كشرقيّين نستمرىء العذاب!؟ وفي " كريشنا" ثمة رجل وامرأة تحت مطريّة يعيشان لحظة الوداع المُبهظة، فهما يعلمان بأنّ فراقهما سيطول، وعلى غير مبعدة كانت امرأة - سيقيض لها في حياة قادمة أن تكون الرجل المُفارق - تحدّق في عناقهما المتكرّر! أمّا في كوسموس" فثمّة راقصة باليه قُدّت من المهارة، راحت تخطّط لقفزتها الأخيرة، كان الجمهور يُصفق مأخوذاً بما يرى، فيما صالبت هي بين قدميها، ورفرفت لائبة، ثمّ أفردت ذراعيها كمروحة أو كطير، من غير أن يلحظ أحد الثقب الأسود المُؤهّب لرحيلها النهائيّ، فهل كانت الأنموذج للمرأة، عموم المرأة في مُحاولتها المُخفقة للإفلات من قيود ليس لها عدد أو حدود!؟ وفي " ثغرات" ثمة جرذ مرعوب، راح بنو البشر يلاحقونه، وعندما وصل إلى الجحر انهالوا على الجرذان ضرباً حتى الموت، بيد أنّ ما قد يستعصي على التفسير هو كيف نما لأولئك البشر ذيل قصير متشابك، وكيف راحوا يجرجرون أنفسهم بلا جدوى، ومن أين جاءت العصا لتستلقي على سرير السارد، ثمّ كيف امتلأ فمه برائحة الدم!؟ وبالتالي ما هي المسافة بين الجرذ والإنسان الخائف ربّما، وما هي الإحالات بينهما!؟ ثمّ يأتي قي " خذلان" على رجل لا يريد أن يُصدق فكرة رحيل أحدهم، فراح يتصل برقمه كل يوم، إلى أن ردّ الهاتف على إلحافه ذات فجأة، ذلك أنّه ظلّ يردّد من بين دموعه بأنّهما لم يكونا قد اتفقا على أن يغادره هكذا من غير مقدمات، إذْ كيف لشبح أن يتحمل فظاظة الحياة من دون قرينه! ليأتي في " فينومين" - عبر العامية المغربية - على أحدهم، كان الله قد ابتلاه بأذن كبيرة، راح يتعذب منها، ربّما لأنّها تسمع الكثير، بيد أنّ كثيراً من التفاصيل تذهب ضحية اللهجة المحليّة غير المفهومة خارج إطار جغرافيتها المحدودة، من غير أن تعجز المُخيلة عن تصوّر كنه المشكلة، ذلك أنّ حقائق الحياة قد تكون صعبة الاحتمال! ويأتي في " أنابيب" على متوالية قصصيّة، تتصدى الأولى منها لزوج وزوجة، هو يراهن على تسعة عشر عاماً عقيمات، وهي تأمل في عشرين عاماً عقيمات أيضاً، فيما تأتي الثانية على رجل أخذ يحفر نفقاً من مطبخ بيته نحو المنزل المجاور، ليتفاجأ بأنّ جاره هو الآخر كان يحفر نفقاً نحو منزل تال! أمّا في الثالثة فثمة رجل تخلى عن ذاته تدريجياً لامرأته، محتفظاً - فقط - بشبح أو خيال داخل ثيابه، على أمل أن يستعيد ذاته يوماً بلا ذاكرة! ثمّ يأتي في الرابعة على رجل أنشأ يرسم صورة لزوجته على الورق، ليذيقها مرّ البكاء، بيد أنّ وقع الحذاء ذي الكعب العالي، والقرع العنيف على الباب حرماه من أوهامه تلك! ثمة رجل في المتوالية الخامسة يضع يده في جيبه الأيمن، ثمة طفل يضع يده الصغيرة في الجيب الأيسر لسروال الرجل، وامرأة تمسك باليد اليسرى للصغير، ولا شيء سوى خواء خربة! وفي المتوالية السادسة ثمة امرأة توغل في الثرثرة حول مواضيع قديمة معروفة للرجل، لكنّ لياقته كانت تمنعه من الإبحار- ككل مرة- مع سحائب الدخان، التي راحت تعلو عن سيجارته، نحو المجهول والمرغوب فيه، نحن إزاء تبصّر في علاقة شائكة ومرتبكة وعصية على التفسير في منعرجاتها، يتداخل فيها الاجتماعي الناظم بالغريزي المقموع ، والنفسي في تناقضه جموحاً وانكساراً ونكوصاً، لتنتج لوحة مُلغزة! ثمّة في " صقر" اشتغال على قصيدة " الصقر" للشاعر " محمد الصابر"، اشتغال يأتي على مكابدات جيل، وذلك من خلال اشتغاله على الشخصية المركزية المكابدة، بيد أنّه إذ بلغ من العمر أرذله، من غير أن يتخلى - في غيبوبته - عن حلمه بريش أخذ يكسو جسده، ظل يتوق إلى نافذة مفتوحة على الأمداء، ليطير نحو ابتهالاته! أمّا في " حرص" فثمّة طفلة وسنة تفتح عينيها على سعتهما، لتتأمّل في النجوم التي كانت تُرصّع سماء غرفتها، ولمّا ضغطت مثانتها على الخروج، سارت بتؤدة حتى لا تدهس تلك النجوم التي تسّاقطت شظايا على أرضية الغرفة! وفي " بوستيش" يأتي على رجل التحق بحلمه عند منعطف، وراح يتفكّر في الرؤوس المعلقة على مشجب، متدثرة بأقنعتها المُختلفة، ليتخيّر أحدها، ويستهل نهاره بها، ربّما لأنّ الإنسان محكوم بازدواجيات تبدو بلا نهاية! بينما يأتي في " قناع" على عاهرة عنّ لها أن تنتحل شخصيّة كاتب ، فإذا بها تعجز عن النوم، وتلتف بدخان السجائر الذي لا ينتهي، ربّما لأنّها أخفقت في كتابة القصة التي كان الكاتب بصدد كتابتها، وهرباً من كوابيس وخيالات ووساوس ليس لها نهاية، فضلت ألاّ تستمرّ لأنّ مهنة العهر أكثر بهجة من الإغراءات المزيّفة لصورة الكاتب! ويختتم مجموعته ب " تناسب" التي يستعير فيه شخصية الفنان التشكيلي البلجيكي ماغريت، الذي كان يوقع لوحاته بعبارة " هذه ليست سماء! هذه ليست تفاحة! هذه ليست قبعة!" وعندما عنون إحداها ب " سماء تشبه تفاحة فوق رأسها قبعة" اضطر إلى توقيعها بعبارة " هذه - أيضاً - ليست قصة قصيرة جداً"! فكيف لنا أن نُجْمل عالمه القصصي في هذه المجموعة!؟ وهل يكفي الإقرار بما أسلفناه - عن رهانه على الحرية كضرورة " الصقر - مثالاً"، ما يُحيلنا إلى حسّ ليبرالي نام، ينفر من السياسي في تجليه الآيديولوجي، الذي يذهب بنا جهات الخندقة والتحزب الضيّقيْن- لتلخيص ما لا يُلخّص، فنتذكّر مقولة النفّريّ، القائلة بضيق العبارة عندما تتسع الرؤية أو الرؤيا!؟ وإذن فلا للرياء والازدواجية كما في " بوستيش"، ولكن حتّامَ وإلى أين، وما هي الأسس وأين هي التخوم الفاصلة!؟ ذلك أنّ الحياة ذاتها لا تسير وفق خطّ مُستقيم، ولأنّ القاصّ يُدرك بأنها تقوم على التناقض، فقد أسْلمَ أبطاله إلى أقدارهم، وسَلّمَ بها على قاعدة أنّهم أسرى المحتوم الذي لا فكاك منه حيناً، أو راح يصلبهم إلى موات يفوق الموت الماديّ قسوة وفظاظة، ليشير إلى أحياء هم في واقع الحال أكثر مواتاً من الأموات، بحكم المجتمعي مرّة " إرشادات ورعاية وبدرو بارامو وباستيش- على سبيل المثال"، والاقتصادي أو السياسي " فوطوكوبي" أو الثقافي في كثير من المرّات! وهو في هذا كله يتجاوز الآني ، نحو العميق والمُستديم " صقر - مثالاً"، فينتصر لطيران الإنسان في تحلل من الشكلي، بهذا المعنى أشرنا إلى حياده حيال السياسي، باعتباره مرحلة مرهونة بظروفها، مُتعيّرة بتغيّر تلك الظروف، وانحيازه إلى الإنساني الذي لا ينضب، وبهذا المعنى المُنضوي على بعد فلسفيّ، يقف على مأزق الإنسان المُبهَظ بالحياة ذاتها، ككتلة تفتقد إلى الانسجام، ربّما لأنّه أحسّ - في لحظة مُحتكمة لمنطقها الخاص- بأنّ الخيبات أضحت قيمة، غبّ أن كانت ذات يوم معياراً، فكيف اشتغل " الرافعي على موضوعاته تلك فنياً!؟ وما علاقة الشكل بالمضمون في نصوصه!؟ وما مُبرّر انشغاله بهاجس الحداثة على هذا النحو!؟ قد يكون أول ما يُلفت الأنظار في مجموعته، هو اتكاؤها على عناوين مفردة، لإدراكه بأنّ الكلمة في إفرادها حمالة أوجه لا تُحدّ، ذلك أنّها لا تكون قد أدرجت في سياق - بعد - يُكسبها معنى مُحدّدا، ليس هذا فحسب، بل أنّه عمد إلى نسخ التعريف عنها، فجاءت نكرة ر بّما لأنّ التعريف يُسهم بحدود في ضبط المعنى، وإذا كان إنكار نجاحه في تخيّر معظمها مُجاف للواقع، إلاّ أنّ الجزم بتحصّلها كلها على النجاح تبرير- هو الآخر- لا يذهب إلى كبد الحقيقة! لقد اشتغل " الرافعيّ" على المسافة المُفترضَة بين العنوان والمتن لمصلحة التشويق، أي لتوريط قارئه في لعبة مُضمرّة، تنتهي به إلى قراءة النصوص بالإيحاء والحضّ، فحقّق لعناوينه وظيفة معرفية وسيميائيّة بآن! أمّا الملاحظة الثانية، فهو حسّ " الرافعيّ" النامي بالتشكيل، ولأنّه يُعلق على الشكل أهمية كبيرة، أفرد للمُقدّمات بياضاً يشغل ثلثي الصفحة، فهل كان في ذهنه تصوّر ما حول الكتلة والحجم، ليترك ذلك " الفراغ" في مُستهّل كلّ نصّ!؟ ما قرأناه للقاصّ من نصوص تالية على المجموعة تشي بشيء من هذا القبيل، كما في "رؤية السمكة"! حتى المبثوث داخل النصوص من مبنى ومعنى يخضع لتشكيل نثريّ، بقصد أن يُحدث تأثيراً بصرياً من خلال مزج محسوب للأبيض بالأسود، بيد أنّ الحكم بنجاحه في هذا الجانب مسألة أخرى! وفي المتون ستلاحظ العين البصيرة بأنّها تتوضّع بين ال " ق ق ج" و القصة القصيرة، فهل هي لوحات قصصيّة مثلاً!؟ وإذا كانت فما الذي يُميزّها عن هذه وتلك!؟ أمّا عن ال " ق ق ج" فالجواب واضح، ذلك أنّها لا تكتفي بالاشتغال على التضاد، الذي يشم كمّاً كبيراً من المُنتَج الأدبي في هذا المجال، بيد أن فضّ الاشتباك بينها وبين القصة القصيرة لن يكون عملية سهلة، فهي تنضوي من كلّ بدّ على حدث مركزيّ واضح الملامح، ولكنّها تتجنّب الزمن المُمتدّ، المُتكىء إلى المونتاج المزدوج، الذي يسمح باتساع زمن الفكرة، والمضبوط بزمن القصّ، وذلك باعتماد تقنيات شتى كالتداعي والتذكّر والخطف خلفاً! ولأنّها جاءت على هذا النحو فلقد أوكأها " الرافعي" إلى تقنيّة الكشف المُتدرّج بهدف التشويق، صحيح أنّها ليست بديلاً للزمن المُنكسر، أو الدائري، أو حتى الفيزيائيّ التقليديّ، الذي يسير من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل، لكنّها لا تفتقد إلى الفعالية في سدّ المنافذ على الملل، وذلك بالإضافة إلى اللعب على التشويق، أي ضخّ المتون بالمزيد من التوتّر الدراميّ! أما ما عدا ذلك، فإنّ الرجل لم يُوفّر أسلوباً أو تقنية توهّمَ بأنّهما يخدمان نصوصه، ولم يكتف بما تقدّمَ، بل عمد إلى هدم المألوف الذي اعتدناه، وأقام محله الغريب من الأشكال والملغز، ربّما لأنّ الغموض أضحى مطلوباً اليوم، حتى أنّنا إذا قرأناها وفق أدواتنا النقدية التقليديّة، سقط عدد غير قليل منها أو كاد، ولهذا حاولت هذه القراءة أن تقف بهذه القصص وقفة مُتأنيّة، بهدف استنباط الخطوط والملامح الرئيسة التي تُحيلنا إليها من دواخلها، ومن ثمّ تلمّس المؤتلف فيها والمختلف، عبر الوقوف بكل تفصيل، بما هو تفكيك ، لنتمكّن من اكتناهها، بهذا المعنى نحن نُسائلها من خلال قراءتنا الذاتية هذه، من غير أن ندّعي بأنّنا أتينا على تحليل ناجز لها، لأنّنا نتعاطى معها كمثال توضيحيّ، أو حقل اختبار، وهي في النهاية قراءة ذاتيّة تحتكم في غير قليل منها للهوى.. قراءة مُحتمَلة من قراءات لا حصر لها، قد لا يتأتى لها في اجتماعها أن تستنفذ مسيرة طويلة قطعها " الرافعي" راجلاً، لكنّها - إلى ذلك - تحاول أن تضْمرُ نقدَ النقد، لتنتقل من خانة أحكام القيمة البلهاء والساذجة إلى قراءة مُعمّقة تُضاهي النصوص الإبداعية، مُحقّقة ل / و مُتحايلة على قول التوحيديّ أن " ما أصعب القول على القول"! قد أذهب إلى أنّ " الرافعي" في نصوصه، كان يسعى إلى تجسيد دعوة الشاعر الكبير" أدونيس" إلى إنجاز نصّ يتجاوز الأجناس الأدبية، إذ ها هو يأتي على مقدّمة تحمل الكثير من سمات وعلامات المقال في نصّه الموسوم ب " تناسخ"، الذي استهله بكلام عام عن " منهج الياكي" الذي " ينهض على تضارب في الافتراضات الميتافيزيقيّة، فالفراغ لا يتوافق تماماً مع الهندسة الاقليدية، والزمن لا يُشكل سرياناً سرمدياً بلا مرواغة، والسببية لا تتطابق دائماً والمنطق الأرسطي.." ثمّ أنّه يستعير من التصوّرات البشرية الثنائيات القائمة على التضاد والتقابل، كثنائية الحياة والموت كما في نصّه الموسوم ب " تناسخ"، أو ثنائية الضحية والقاتل بمجازها الواسع، وقد تتصاحب باللعب على تبادل للأدوار، فإذا بالأول يحل محل الثاني، ليلحق الثاني بالشاغر المتوفّر في " تضليل"، أو على تقنية القرين، التي تطلّ برأسها في غير نصّ، لنُشير إلى " خذلان" على سبيل المثال لا الحصر، الفنّ السابع بدوره حاضر كملهم، ليمحض " الرافعيّ " المشهديّ على شكل كادرات سينمائية كما في " احتياطات"، ناهيك عن التصوير إن على مستوى التشكيل النثريّ، أو على مُستوى الاشتغال على اللون " فوطوكوبي - مثالاً"، أو استعارة عناصر من الخيال العلميّ، كما في " بارابيكو"، أو تناص واضح ينهض بالبناء على البناء، فيتكىء على العظام المستكينة إذ تطقطق عند " خوان رولفو" في رائعته " بدرو بارامو" كما في نصّ " الرافعي" الذي يحمل العنوان ذاته، أو على " غوغول" في " قصص بطرسبورغ" و " فرانز كافكا" في رائعته " المسخ" أ و " فيليب روث" في روايته " الثدي"، كما جاء في نصّه " باستيش"، من غير أن يُوفّر ما قبل الأدبيّ بتعبير" رينيه ويليك"، فيتكىء على الحكاية أو الأسطورة ، ليتجلى في غير محل، فنتذكّر منها - على سبيل المثال - " فوطوكوبي" أو" فينومين"، وهو - إلى ذلك - يستعير من الشعر التكثيف والصورة، من غير أن يُهمل قدرات النثر على التحليل، والأمثلة هنا لا تُحصى! أمّا لغة " الرافعي" فتجمع التعبيري المُؤسّس للنثر، إلى التوصيف، لتستعير الرصانة في مقام استلهام المقال، والدال إذ يتطابق مع المدلول في مقام التحليل النثري، بدلالة المستقيم كأقصر سبيل بين طرفي العلاقة، وهي -بين هذه وتلك - تشي بشغف القاصّ بالشاعريّ، فتتمثل قصيدة التفعيلة حيناً، وذلك حين يعمد القاصّ إلى ما يشيه اللازمة، ليبثها في متونه بحساب، أوتقتنص الفيض الغنائي الدراميّ من قصيدة النثر، إذ يتماهى بموسيقى الكلمة، باعتبار اللغة أصواتاً، لكنّها في حالة الموسيقى تحتكم إلى الانسجام والتناغم، ومن هنا جاءت على تكرار مقصود ومحسوب، قصد الإيهام بجرس موسيقيّ، ومن هنا - أيضاً - جاء إيغالها في المجنح ذي الأفياء والظلال والتوريات، فهي تقول ولا تقول، تومي حيناً، وحيناً تقرّر، وتلحف في السعي خلف المبتكر من سياقات وعلائق، وتنأى بنفسها ما أمكن عن الأنساق التعبيريّة المألوفة، بهذا المعنى فهي تهدم، ثمّ تعيد البناء، ربّما لترقى إلى توهّج مرجعها الواقعيّ، لكنّها تقف على مسافة من النحت - مثلاً - أو التوليد والاشتقاق، لأنّ المنظومة ما تزال تراهن على دور الشاعر في هذا الجانب، وترتّب الناثر في مرتبة تالية عليه! فإذا وقفنا بالمكان في نصوصه، طالعتنا المعضلة ذاتها، التي تواجه جلّ النثر القصصيّ العربيّ، ذلك أنّ المكان فيها لا يتجاوز في كثير من الأحايين حضوره الواقعيّ، الذي يقوم بدور الحاضن البيئيّ للأحداث والشخوص، ولذلك ثمة مدينة ما أو زقاق.. شارع ربّما.. وربّما بيت .. مطبخ أو حمام، ولكن ماهي تفاصيل ذاك الحمّام أو المطبخ، ولماذا أدرج في السياق على هذا النحو، وما علاقته بدواخل الشخوص، ما قد يساعدنا على إكسابه حضوراً نفسيّا، يضاف إلى حضوره الواقعيّ، ومن يدري.. فقد يُقيّض له أن يهتبل اجتهاد صاحبه، ليكتسب حضوراً سحرياً!؟ً فلا جواب يردّ للنفس المفطورة على الفضول قوامها! ولذلك لم يُغادر هذا العنصر- الذي استأثر بجماع " غاستون باشلار" ، فأفرد له كتاباً مهماّ بالعنوان ذاته - في النصوص مقام الحضور الواقعيّ ، ليتحوّل إلى فضاء قصصيّ يندغم بمصائر شخوصه، ويقف معهم كندّ يُقاسمهم البطولة! حتى إذا هلت الخواتيم، جاءت على المدهش الذي يفرش بصمته الواشمة على كامل مساحة النصوص، بالاتكاء على المفارق والصادم، الصادم الذي يُقلق اليقينات الراسخة ويهزها، لتغادر النفس مُعتكفها المُؤثث بفتنة الصمت وفطنته، وتشلح عن جسدها رداء الحكيم، فتقف في حضرة الكشف والتنوير بابتهال، يجتمع له في تشابك عناصره الوظائفي إمكان أن يشكّل نقطة تقاطع، فهل أوغل " الرافعيّ " في لهاثه خلف الحداثويّ، ليتاخم وهم المُماثلة.. المُماثلة مع الغربيّ هذه المرة!؟ حتى إذا كان الجواب سيتوضّع في خانة الإقرار، أو إذا زعمنا - على وثوقية إيمانيّة - بأنّه لم يكن يتبيّن تماماً ملامح الدرب بمنعرجاته، وهو في إبان مغامرته الحداثويّة تلك، فإنّنا لن ننكر بأنّها - أي مغامرته تلك - أنتجت - في المجتبى - نصوصاً من مقام " رؤية السمكة" ، في ااشتمالها على نقطة تقاطع وبؤرة تفجير بآن، فهل نحن بصدد اقتراح يومي إلى القصة القصيرة في مُستقبلها، أم أنّنا نقف بمحطة على هذا الطريق، ستجد تجليها المكتمل - بعد لأي - في النصّ المُشار إليه، ما اقتضى التنويه!؟. محمد باقي محمد/ ناقد وقاص من سوريا سوريا /الحسكة في الأول من مايو2009