"دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحقيق خاص ب"الأيام"..طريق الموت من أعماق إفريقيا إلى المغرب
نشر في الأيام 24 يوم 30 - 09 - 2019

ينتشرون عبر ربوع المملكة في جماعات مختلطة أو كأفراد، يسكنون مخيمات عشوائية في الغابات أو مستودعات مهجورة أو يفترشون زوايا من شوارع وأزقة معزولة، قبلوا أن يكونوا شهودا على الطريق التي سلكوها، طريق محفوفة بجميع أنواع المخاطر في سبيل الوصول إلى الفردوس المنتظر، فشاركونا جزءا مما تحفظه صدورهم وأجابوا عن معظم أسئلتنا الحارقة: لماذا قرروا الرحيل؟ كيف استعدوا للسفر؟ ماذا حملوا معهم؟ أي تجارب قاسية مروا منها قبل الوصول إلى المغرب؟

هنا شهادات حصرية صادمة حاولت «الأيام» من خلالها إعادة تشكيل مسارات الهجرة غير الشرعية بدول جنوب الصحراء، في رحلات رعب لا تقدر الكلمات على إيصالها دائما لرجال ونساء ينتهي المآل ببعضهم صرعى.

كان «صامويل» الكاميروني يجلس في هدوء على الرصيف المقابل بأحد الشوارع الرئيسية لفاس، وكلما توقفت السيارات عند الإشارة الحمراء، كان يسارع ليطل برأسه على أصحابها، يتوسلهم أن يمنحوه ولو درهما واحدا، فتمتد عبر النوافذ بعض الأيادي لمنحه ما يجود به أصحابها، في حين تسارع أياد أخرى بمجرد اقترابه لإغلاق زجاج السيارة خوفا منه، فسكان المدينة مازالوا لليوم عاجزين عن نسيان حادث مقتل حارس ليلي لقيسارية «العلج» التجارية من طرف ثلاثة مهاجرين غير شرعيين، بغرض السرقة بتاريخ 13 ماي 2017.

«صامويل» واحد من آلاف المهاجرين السريين المنتشرين عبر ربوع المملكة، في غياب أرقام رسمية تحدد عددهم اليوم بدقة، علما أن وزارة الداخلية قدرت عددهم سنة 2015 ب25 ألفا كحد أدنى و40 ألفا كحد أقصى، وقد وصلوا جميعا للمغرب قادمين من أكثر من عشر دول إفريقية، بعد أن قطعوا آلاف الكيلومترات أغلبها مشيا على الأقدام بين دروب الموت، هاربين من الجوع والفقر والعنف والحروب..، حالمين بفرص أفضل وحياة أجمل وأمان أكبر.. وبفردوس لطالما رسمته أحلامهم، بعد أن فضلوا المجازفة بكل شيء في سبيل الانطلاق في رحلة ليس لهم ضمانات الوصول إلى نهايتها.

قرر بعضهم الرحيل فجأة كما هو حال «صامويل»، الذي حمل حقيبته الصغيرة، بعدما كنزها بكل ما استطاع التفكير فيه في تلك اللحظة المباغتة، وانطلق يجر خطاه في رحلة نحو المجهول بعيدا عن جحيم الفقر والوضع غير المستقر في قريته، دون أن يخبر أحدا من أفراد أسرته خوفا من رفضهم، فجاب الصحاري والقفار لأربع سنوات طوال قبل أن ينتهي به المطاف في ملتقى الطرق هذا دون أي مستقبل يبشر بالخير، ولكنه مازال -كما يقول- مستعدا لكل أنواع التضحيات مقابل بلوغ أرض الأحلام، أوروبا.

آخرون ك»دايفيد» القادم من غينيا، فكروا مطولا قبل القيام بهذه الرحلة التي دفع أهله كل ما يملكونه للمهربين ليصل إلى هذه البلاد التي انتهى به المطاف فيها متسولا يجوب الطرقات، خائفا يترقب قادم الأيام، عاجزا عن إخبار أهله الذين تركهم يقاسون الجوع والعراء، وهم يأملون أنهم سيتقلبون في النعيم ذات يوم بفضله، أن ما كانوا يعتقدونه جميعا جنة هو في الواقع صراع يومي من أجل البقاء، دون أن يدري إلى متى سيستمر على هذا الحال، وهل يشد الرحال نحو أوروبا يوما أم يستمر بالعمل الجاهد كبائع متجول بالرباط، وهو الذي قصد المغرب ذات يوم آملا أن يكون مستقره الأخير، في وقت يعبر فيه كثير من شباب الوطن عن استعدادهم التام لركوب قوارب الموت نحو الملاذ الأوروبي. إنها مفارقة كثيرا ما يستعصي فهمها عن بلد «يصدر» و«يستورد» في الآن نفسه المهاجرين.

«عثمان» (اسم مستعار) القادم من السنغال جاب بلدانا كثيرة على طول رحلته وقاسى مطولا، حتى إنه اضطر لبيع كليته لمواصلة رحلته، وفقد أخاه في طريقه بعد أن تعرضا رفقة آخرين للتعذيب والاختطاف من طرف عصابة تنشط على الحدود الليبية-الجزائرية، ولكنه اختار في الأخير أن يستقر في المغرب في انتظار تسوية وضعيته القانونية، وها هو اليوم يعرض بعض الملابس التقليدية للبيع على الأرض بأحد الأسواق الشعبية بالعاصمة الرباط، ويبرر اختياره بقوله: «رغم المعاملة العنصرية التي أتلقاها أحيانا من بعض المارة، لكني أجد نفسي قادرا على الاندماج في هذا البلد لكوني مسلما مثل غالبية سكانه وأتحدث بالعربية بطلاقة»، معتبرا أن «الله كتب له حياة جديدة بالمغرب».

الحياة الجديدة التي تحدث عنها «عثمان» لم تدخل في سياق المبالغة المعهودة عند الحديث، بل كانت تؤكدها آثار رصاصة خرجت من سلاح حرس الحدود الجزائري ووجدت مستقرا لها في ذراعه اليمنى. ورغم أنه نسي الكثير من تفاصيل رحلته الطويلة، كما يقول، إلا أنه لم ينس أبدا تلك اللحظة التي غطت فيها الدماء ملابسه، وشعر فيها بالفزع وهو يراقب عن قرب الأجساد الجريحة حوله، وضغط بكل قوته على أسنانه كي لا يصرخ من شدة وجعه ويفضح أمره، مخبئا كل ألمه بين عينيه اللتين كانت تتراءى أمامهما بوضوح حينها صورة شقيقه الذي عذب حتى الموت على حدود ليبيا.

فصول العذاب

ليس «عثمان» الوحيد الذي يرغب في تسوية وضعيته الإدارية بالمغرب، بل يوجد الآلاف غيره، حسب وزارة الداخلية، ومنهم «إريك» الكاميروني الذي قابلته «الأيام» خلال إحدى رحلات القطار المتجهة من فاس نحو العاصمة، فمع الاضطرابات في ليبيا وتشديد الإجراءات على الوافدين في أوروبا، تحول المغرب من «بلد عبور» للمهاجرين إلى «بلد استقبال»، بحسب المندوبية السامية للتخطيط.

ويعتبر «إريك» أن أصعب ما واجهه في رحلته كان تضاريس الصحراء الوعرة وبردها القاسي الذي ظل ينخر عظامه وصوته المخيف الذي كان يتردد في أذنيه كذئب يعوي قريبا منه. هز رأسه في ثقة وهو يعبث بكتلة الشعر الكثيف التي كانت تعلو رأسه، وأخبرنا أنه كان خائفا لكنه ظل يردد في أعماق نفسه أنه «لن يدفن نفسه هناك تحت ذلك الصقيع وزمهريره، كتلك الجثث المترامية المجهولة الهوية التي مر عليها في طريقه دون أن يتوقف حتى للترحم على أصحابها، كأنها مجرد صخور صحراوية ملقاة بالمكان، أو يبذل جهدا لإغلاق عيونها المفتوحة التي مازالت لليوم تطارده وتقض مضجعه»، قالها «إريك» في أسى وهو يشد بقوة على تلك السلسلة الفضية المعلقة على رقبته التي يتدلى بآخرها صليب يؤمن أنه نجا بفضله لمرات كثيرة من موت محقق.

ولتحقيق آمال أهله، صبر «إيريك» على الجوع والعطش وتحمل التعذيب والضرب لأكثر من مرة على يد حرس الحدود بعدة دول، ولم يستسلم لما وضع في حافلة ألقته رفقة آخرين بقفار بعيدة على الحدود الجزائرية النيجرية، أو حين قضى شهورا قاسية في مخيم مليء بالثعابين وكل أنواع الحشرات المؤذية على الحدود الجزائرية، في انتظار الوقت المناسب للعبور من مغنية نحو قرية «بني درار» القريبة من وجدة.

رحلة وصول «إيريك» للمغرب مأساوية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فالرجل دخل وجدة حافيا، يحمل بين يديه حذاءه الممزق الذي رافقه طيلة رحلته التي امتدت حوالي عشرة أشهر، والذي لم يستطع رميه لأنه لا يملك ما يشتري به سواه. وبعد أن أقام بمخيم قريب من جامعة محمد الأول لأسابيع، انتقل إلى طنجة حيث أقام صحبة مجموعة مختلطة بشقة بمنطقة العرفان، قبل أن يقصد الرباط حيث يقيم حاليا بحي يعقوب المنصور ويعمل في مجال البناء.

هذا الاصطدام بالواقع القاسي ليس إلا جزءا ضئيلا من فصول قصص مروعة عامرة بالألم والحرمان والتعذيب وكل أنواع الاعتداءات من قبل المهربين وتجار البشر والمجموعات المسلحة وقطاع الطرق، والجماعات الإرهابية المنتشرة على طول طريق وعر محفوف بكل أنواع المخاطر، في ظروف صحية قاسية يضاف إليها سوء التغذية وسوء المعاملة، علما أن هناك حوالي 17 اتفاقية دولية تنص على حماية حقوق المهاجرين أطفالا ونساء وشبابا، وصادقت عليها جميع دول العالم.

لكن يبدو أن كل تلك الترسانة الحقوقية مازالت حبرا على ورق، فالشيء الوحيد الموجود في الواقع هو الانتهاكات مقابل الإفلات من العقاب، والتي –رغم بشاعتها- لم تنه معاناة الهاربين من البؤس والجوع وأنواع المظالم المجحفة، الذين يقتنعون بأن الهجرة السرية رغم مخاطرها سبيلهم الوحيد للنجاة، حتى لو نقصت 5 سنوات من عمرهم، حسب دراسة أنجزتها الجامعة الدولية بالرباط بين خريف 2015 وبداية شتاء 2016، شملت عينة من 1453 مهاجرا قدموا طلبات حصول على الإقامة، ينتمون إلى جنسيات مختلفة.

ومكنت السياسة الجديدة للمغرب في مجال الهجرة التي انطلقت سنة 2014 من تسوية وضعية 23 ألفا و96 شخصا، يتقدم فيهم السينغاليون الرجال دول إفريقيا جنوب الصحراء ب21 في المائة.

للنساء نصيب من العذاب

ورغم أن الرجال عموما يشكلون حوالي ثلاثة أرباع المهاجرين الأفارقة على التراب الوطني، حسب نفس الدراسة، فإن المهاجرات اللواتي أظهرت تقارير ارتفاع أعدادهن بشكل مستمر، يقاسين أشد أنواع التعذيب على طول رحلتهن الطويلة، فمعظمهن -حسب الشهادات التي وثقتها «الأيام»- يتعرضن لمختلف أشكال العنف والاغتصاب من قبل المجموعات المسلحة وقطاع الطرق، وفي مرات عديدة من طرف عناصر الشرطة وحراس الحدود ببعض الدول الإفريقية التي يكون عليهن عبورها قبل الوصول إلى هدفهن، وقد يتطور الأمر في مرات كثيرة إلى اغتصابات جماعية، وعمليات بيع وشراء واختطاف لمرات ومرات، قد تطال حتى قاصرات.

وكثيرا ما تعصف متاهات الطريق بأخريات وتتقاذفهن بلا مال ولا معين لمواصلة المسار، فيخترن طواعية بيع أجسادهن مقابل الحصول على مصاريف الرحلة، لتبدأ بذلك مآسي أخرى أبطالها ضحايا جدد لم يختاروا طواعية هذا المصير: أطفال رضع يرون النور في الغابات والقفار ويجهلون نسبهم ومصيرهم، كما هو حال الصغير «ماكس» ذي الأربع سنوات الذي خرج للنور من رحم «أماندا» (اسم مستعار اختارته لنفسها)، التي اضطرت- حسب تعبيرها- لممارسة الجنس بمقابل مالي ب «أغاديس» في النيجر، لتوفير المبلغ الضروري لمتابعة رحلتها نحو أوروبا، قبل أن تكتشف في الجزائر أنها تحمل بين أحشائها روحا صغيرة لم تتأكد من هوية والدها، إذ تشك في ثلاثة أشخاص كما أخبرتنا، ولكنها لا تعرف حتى أين هم اليوم.

«أماندا» القادمة من بوركينافاسو، والتي تتسول حاملة ابنها بأحد المدارات بالعاصمة العلمية، مازالت تتذكر بوضوح أنها اختارت الانطلاق في رحلتها نحو النعيم المنتظر بعدما رأت بنات عماتها قد عدن من أوروبا محملات بالهدايا ومرتديات أجمل الملابس، تقول ل «الأيام»: «في البداية شعرت بالسعادة لأني سأتمكن من مساعدة والدي، اللذين وضعا كل مدخراتهما بين يدي عند توديعهما، لكن بعد أن تعرضت للسرقة بالنيجر لم يعد لي خيار لأتابع رحلتي سوى تقديم خدمات جنسية لأجني المال».

ظلت «أماندا» تتجنب النظر في عيوننا وهي تسرد فصول قصتها المثيرة التي عبرت فيها الحدود الجزائرية حاملا، قبل أن تنجب صغيرها بأحد المخيمات بغابات الناظور، الذي تنتظر أن يشد عظمه لتحاول الانطلاق معه نحو أوروبا.

وخلال رحلة إعداد هذا التحقيق، علمت «الأيام» ممن قبلن تقديم شهاداتهن أن عددا منهن لجأن طواعية لاحتراف الدعارة بعدد من محطات العبور التي مررن بها في انتظار أن تصل رحلتهن الكبرى نحو أوروبا إلى نهايتها بعد أن سافرن آلاف الكيلومترات، والتي كان يلخصها معظمهن بقولهن بدم بارد لا يظهر أي نوع من استنكار الأمر أو استغرابه: «ليس سهلا أن تكوني امرأة وحيدة في رحلة طويلة بين الصحاري والقفار، فعندما تكونين امرأة، وتقررين خوض هذه المجازفة، عليك إما أن تملكي رجلا يساندك ويوفر لك الحماية طيلة الطريق، وإما أن تبيعي جسدك، لأنه في كل الأحوال ستترصدك العيون المفترسة حولك».

وبعيدا عمن اتخذن بأنفسهن سلوك هذا الدرب، تتحدث العديد من الدراسات والمنشورات عن الكثير من الاتفاقات المأساوية التي تجعل النساء في عبودية مقابل الديون المتعاقد عليها في رحلتهن، والتي يجب عليهن سدادها غالباً عن طريق الدعارة، كما هو حال «جونيتا» من نيجريا.

بالمقابل، هناك من حالفهن الحظ، ونجحن في الوصول سالمات للمغرب عبر مدينة مغنية غرب الجزائر، بعد طول معاناة على دروب الصحراء القاسية، كما علمت «الأيام» من بعض الشهادات أن بعض قوافل المهاجرين ضمت أطفالا وقاصرين، وأنها كانت تتراوح بين عشرة أفراد إلى 60 في القافلة الواحدة، تنقص في محطة وتزيد في أخرى، بعضهم يبقى ليعمل لانقضاء أمواله، وبعضهم يتوه في الصحراء أو يموت في اللامكان دون أن ينتظره أحد أو يدفنه.

قوانين إفريقيا الصغيرة بالمخيمات

يعتقد كثيرون أن مخيمات المهاجرين غير الشرعيين بعدد من المدن لا يسود بها أي قانون ولا تعترف بأي ضوابط، لكن الحقيقة تماما عكس ذلك، فقانون أقرب لقوانين الغاب ينظم تلك المخيمات، يحكم فيه الأقوياء الضعفاء وتسيطر فيه المجموعة على الأفراد، كما أكدت شهادات المهاجرين الذين قابلتهم «الأيام».

فالخيام تتوزع حسب الدول وحسب الديانات دون أن تفصل بين الجنسين، حيث لا توجد خيام للرجال منفصلة عن خيام النساء، وكل مجموعة خيام ينتمي أهلها إلى نفس المنطقة يعملون على إعادة إنتاج النظام والعادات السائدة بأراضيهم أينما ذهبوا، ويخضعون لسيطرة رئيس يختارونه إما لأنه الحكيم أو الأقوى، مهمته تنظيم شؤونهم وتطبيق القانون على المتمردين، وحماية مجموعته من كل ما قد يهدد أمنها، أمثال «فريدي» الذي قابلته «الأيام»، وكان لفترة من الزمن رئيس مجموعة الكاميرونيين بمخيم المهاجرين بمحطة القطار بفاس الذي تم إخلاؤه مؤخرا، وكشف لنا أنه هو الذي أبلغ الشرطة عن مكان الكاميرونيين الثلاثة المتورطين في حادثة قتل حارس قيسارية العلج ليستطيع بذلك حماية البقية.

لكن المخيم بكل مجموعاته يخضع في الأخير لرئاسة قائد أعلى يلقب ب»تشيرمان»، وهو المسؤول عن فض النزاعات بين المجموعات من جنسيات مختلفة وصاحب الكلمة الفصل الذي يجب على الجميع بلا استثناء طاعته.

وبالإضافة لذلك، فإن هناك لجانا مختلفة تقوم بعدة مهام، كتوفير الخيام للقادمين الجدد، أو الحفاظ على النظام وضمان انضباط الجميع للقوانين، ومعاقبة المتجاوزين، لكن هذه المخيمات لا تخلو من عنف، وفي مرات عديدة وثقت جمعيات حقوقية حالات ضرب حتى الموت.

وتبقى النساء أكثر المتضررين من قانون الغاب بالمخيمات، فالقوي يستطيع الحصول على أي امرأة يرتضيها لنفسه، بشرط أن تكون من داخل المجموعة التي ينتمي إليها، وهذا ما يجبر معظم النساء على اختيار شريك لهن يمنع عنهن الوحوش الآدمية التي قد تفترس أجسادهن في أي لحظة.

حقوقي: أغلب المهاجرين يصلون المغرب مرضى

قال عبد الرحيم لمرابط، رئيس فرع فاس للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إن «أغلب مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء يصلون إلى المغرب في ظروف صحية صعبة، تفاقمها معاناتهم مع الجوع والعطش لأشهر»، مؤكدا أن «عددا كبيرا منهم يحتاج إلى تدخل طبي مستعجل، ويعانون من أمراض مزمنة».

وأوضح في حديث مع «الأيام» أن «الفاعلين الحقوقيين يتوسطون لهم من أجل استفادتهم من خدمات طبية، خصوصا أن وضعيتهم غير القانونية تكون عائقا أمام ولوجهم الخدمات الصحية العامة».

وخلال يوليوز الماضي، أخلت السلطات العمومية بمدينة فاس واحدا من أهم المخيمات العشوائية التي شيدها المهاجرون وأقاموا بها لسنوات فوق عقار تابع للمكتب الوطني للسكك الحديدية، بمحاذاة محطة القطار وسط المدينة، وكان يضم أزيد من 4000 مهاجر من جنسيات مختلفة، واضطرت السلطات إلى إخلاء المخيم بعد صدور حكم قضائي يقضى بإفراغ العقار.

وأوضح لمرابط، الذي كان على تواصل مع مهاجرين قبيل إخلاء المخيم، أن «السلطات أشعرت المهاجرين بضرورة الخروج من المخيم ثلاثة أيام قبل تنفيذه، فاستجاب إلى النداء حوالي ثلثي اللاجئين، فيما واجه الآخرون عمليات الترحيل».

ولفت إلى أنه كان يعاين عددا من النساء مرفقات بأطفالهن داخل المخيم الذي كان مبنيا بالبلاستيك، ويفتقر لأبسط شروط العيش السليم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.