كتبت هذا المقال بالانجليزية في دجنبر 2016 ونشرته على موقع "الجزيرة انجليزي" المشهور وكان ذلك مباشرة بعد فوز دونالد ترامب الذي فاجأ الكثير وصدم العديد. سنتان ونصف بعد ذلك لا زالت الأفكار التي تناولتها آنذاك معبِّرة عن الوضع السياسي الحالي عبر العالم بل وأن الكثير من القضايا التي تحدثت عنها آنذاك ظهرت بقوة أكثر وتم التأكد من صحتها من خلال خطابات الساسة وقراراتهم، خصوصا سياسات الرئيس ترامب وقراراته وأفكاره. في المغرب نرى كيف يتم ليُّ عنق الواقع يوميا على صفحات الفايسبوك والمواقع الإلكترونية بأرقام خيالية وأنصاف الحقائق وفيديوهات مفبركة حول تقاعد الوزراء وجشع البرلمانيين واستعمال الشطط من طرف الشرطة وأرباح الشركات وتعويضات هؤلاء و أولئك دون أدنى اهتمام بصدقية المعطيات وموضوعيتها ومصدرها...لقد دخلنا أيضا عصر "ما بعد الحقيقة" من بابه الواسع.
أضفت إلى المقال الأصلي ل2016 فقرتين في الأخير حول "مدقق الحقيقة" لصحيفة الواشنطن بوست كمثال عن الهجوم الدي تتعرض لع الحقيقة من طرف أقوى رجل في العالم، أي رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية.
دجنبر 2016:
"ما بعد الحقيقة" هي الواقع الجديد الذي يجب علينا جميعا التعامل معه إذا ما أردنا إنقاذ روح الديمقراطية ورسالتها النبيلة.
فالمشهد الانتخابي في عدة دول ديمقراطية عبر العالم يشهد تنامي ثقافة سياسية جديدة قائمة على المشاعر والخوف، بدلا من الحقائق والسياسات.
وحتى وإن كان الوضع غير جديد برمته، فإن الانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة، خصوصا ارتفاع نسبة البطالة والفقر منذ العام 2008، قد تسببت في تفاقم اللجوء إلى المخاوف اللامنطقية وردود الأفعال تجاه واقع سياسي واقتصادي قاتم.
ويعمل الساسةُ على إضفاء الشرعية على مخاوف الطبقتين العاملة والمتوسطة من احتمالية مواجهة مستقبل مظلم من خلال التلويح بفزاعة الهجرة وجشع بورصة وول ستريت والساسة الفاسدين ومكر أصحاب المصالح الخارجية.
ولا تكتسي هذه المخاطر المزعومة أية أهمية جوهرية ما دامت تؤكد أسوأ مخاوف وكوابيس الطبقة الناخبة. ولأن واقع الخوف والإحساس الفردي والجماعي بخيبة الأمل والإحباط والغضب أصبحت أكثر أهمية من الحقيقة الموضوعية، فإن تحريف الحقائق من خلال المبالغة فيها أو حتى اختراعها أصبح أمرا مسموحا به.
إننا نعيش عصر ما بعد الحقيقة. ولا تدل كلمة "بعد" هنا على فترة زمنية أَعقبت عصر الحقيقة، بل جاءت لتعوض غيابها أو تراجعها إلى مستوى ثانوي غير ذي شأن فيما يتعلق بمخاطبة عواطف الناس لاستثارة حالات الاستياء العارم والإحساس بانعدام الأمن والضياع.
أنصافُ حقائقِ دعاة البريكست
إن البريكست وكذا الانتخابات الأمريكية، التي فاز بها دونالد ترامب وأثارت دهشة النقاد ومنظمي استطلاعات الرأي والرأي العام الدولي، تقدمان أمثلة صارخة عن استعمال الحقائق المغلوطة للي عنق الواقع حتى يتناغم مع مخاوف الشعوب التي تعيش أصلا حالة من الغضب والإحباط.
بل بلغ الأمر بمعجم أكسفورد إلى اعتبار مصطلح "ما بعد الحقيقة" كلمة العام لسنة 2016 نظرا لاستعمالها المفرط من طرف المحللين.
وقدم مؤيدو حملة البريكست في المملكة المتحدة وعودا قائمة على أنصاف الحقائق وهي وعود صدقها معظم الناخبون، بل وصموا آذانهم عن تحذيرات المراقبين والمحللين الإعلاميين حول عدم دقة "الحقائق" التي بنيت عليها تلك الادعاءات.
فقد ادعى مؤيدو حملة البريكست أن المملكة المتحدة تحول أسبوعيا مبلغ 437 مليون دولار إلى الاتحاد الأوروبي، أي ما يكفي لبناء وتجهيز مستشفى بالكامل في المملكة المتحدة. لكن لم يتم التحقق من صحة هذه الأرقام. وحتى لو كانت أرقاما صحيحة، فإن نصف هذا المبلغ يعود إلى المملكة المتحدة على شكل مساعدات للفلاحين والجامعات والمختبرات البحثية والشركات.
ولم يكن تراجع قيم الصدق والأخلاق والمسؤولية هو أكبر الأضرار الجانبية لصعود الحملات المعادية للإعلام وما بعد الحقيقة، بل تمثلت أكبر الأضرار في تواري الخطط السياسية الواقعية والبراغماتية التي تتوخى حل المشاكل المجتمعية لصالح الأفكار "العظيمة" التي قد تكون غير ممكنة عمليا مثل بناء الجدران العالية وترحيل الملايين خارج البلاد وتقويض سياسات الرئيس السابق. (كثير من المغاربة يرددون كذلك أن إلغاء تقاعد الوزراء والبرلمانيين سيكون كفيلا ببناء المستشفيات والمدارس بل سيساهم في حل مشكلتي الصحة والتعليم في وقت قصير.)
ويتعلق أحد الوعود الأخرى الكاذبة بكبح جماح الهجرة مع الاستمرار في توقع أن الاتحاد الأوروبي سيقبل بحرية تنقل البريطانيين عبر دول الاتحاد. بالإضافة إلى وعد آخر يزعم تحقيق انسحاب سريع من الاتحاد، في حين أن العملية قد تأخذ عدة سنوات.
وقد نكث قادةُ الحملة وعودهم في اليوم الموالي لنجاح التصويت على البركسيت. حيث صرح نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP) وأحد أقوى دعاة البريكست، أن الوعد بإعادة استثمار المال الذي يحول إلى الاتحاد الأوروبي في إطار الخدمات الصحية كان خطأ اقترفته حملة البريكست. لكنه لم يصرح بهذا أبدا خلال الحملة لأن الأمر المهم آنذاك هو الزخم العاطفي والإحساس الجماعي بالتعرض للأذى.
ظاهرة ترامب
يعد ترامب حالة نموذجية عندما يتعلق الأمر بتوظيف "ما بعد الحقيقة". فقد عمد موقع "بوليتيفاكت" إلى التحقق من صحة تصريحات ترامب خلال السنوات الخمس الماضية ( 2012-2016)واستنتج أن 70 في المائة من ادعاءاته كانت باطلة نسبيا أو كليا، و15 في المائة منها أنصاف حقائق و15 في المائة المتبقية صحيحة نسبيا أو كليا.
ووفقا لنيورك تايمز، فقد ادعى ترامب أن عدد القتلى في صفوف رجال الشرطة ارتفع بنسبة 50 في المائة سنة 2016، لكنه عند التحقق من الإحصائيات تبين أن الرقم هو 68 سنة 2015 و69 سنة 2016. ووفقا لنفس الصحيفة، فقد بنى ترامب ادعاءه حول ارتفاع نسبة الجريمة بنسبة 50 في المائة في واشنطن العاصمة و60 في المائة في بالتيمور على بحث لم يتضمن التوزيع حسب المدن.
وتربط ترامب بالحقيقة علاقةٌ مشوبة بالغموض ونزعة البتر، إن لم تكن صراحة وعن سبق إصرار "صناعية". فقد أصبحت الحقائق تُصنع لتُلائم اللحظة الراهنة وتستجيبَ لتطلعات الحشود الغاضبة وخيبة آمالها.
إن أهم حقيقة بالنسبة لترامب وأعضاء حملته هو صورة القائد المنقذ الذي لا تمثل سماته مثل الأبيسية الذكورية وكراهية الأجانب والعنصرية والتعالي والقوة والعنف جميعها إلا أوجه مجازية تُستعمل لتعزيز صورة مُعدَّة بعناية حول الاستعداد والقدرة على إعادة البناء والإصلاح والتطهير وإقامة العدالة لضحايا حركة "الصواب السياسي" والأفكار الليبرالية ونخبة واشنطن الفاسدة ومصالح قوى خارجية متمكنة.
إن السبب وراء نجاح "ما بعد الحقيقة" في مواجهة التدقيق الإعلامي هو انعدام ثقة الدوائر والجماعات المحافظة بشكل متجذر وقوي في وسائلالإعلام الكلاسيكية المعهودة.
إن الإعلام، حسب اليمين، يناصر التيار الليبرالي، بل إنه يلعب دورا في تشويه المعنى الحقيقي للتيار المحافظ والمعاناة الحقيقية لرجل الطبقة المتوسطة والمتجسد في الرجل الأبيض البسيط (الذي صار مشهورا الآن) الذي لم يُكمل تعليمه وجُرح إحساسه الذكوري وتأذَّت هويته بسبب الحركات النسائية وحركات المثليين والسود ومناضلي حقوق الإنسان ودعاة "الصواب السياسي" في الجامعات وجماعات الضغط الليبرالية.
وقد طورت الجماعات المحافظة ومؤيدوهم شبكاتِ معلوماتٍ بديلة خاصة بهم على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو فضاء شبيه إلى حد ما ما أطلق عليه الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، "المجال العام"،وهي مساحة بديلة لتبادل المعلومات والتشبيك وإنتاج الأفكار و"القيم" والتي تعارض بشدة التيار الرئيسي.
لقد كانت معاداة الإعلام درعا خطابيا استعمله مؤيدو ترامب للاحتماء من الحقائق والواقع المرير.
توجه عالمي
أصدر مؤخرا الفيلسوف الإسباني دانييل انيراريتي مقالة رأي بعنوان "For a Complex Democracy" (نحو ديمقراطية مركبة، 2016)، أطلق فيها على ما يقع في معظم ديمقراطيات العالم مصطلح "السيادة السلبية": أي أن التصويت لم يعد من أجل البحث عن الحلول، بل للتعبير عن القلق؛ فقد أصبح الرفض أكثر أهمية لدى الناخبين من جميع المشاريع والسياسات.
وليست هذه الظاهرة حبيسة المملكة المتحدةوالولاياتالمتحدة، بل سرت أيضا على اليونان وإسبانيا وأستراليا. وسيأتي الدور عما قريب على فرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا وهنغاريا.
إن مفهوم "ما بعد الحقيقة" هو الحساسية السياسية الجديدة على ساحة السياسات الانتخابية في مختلف ديمقراطيات العالم. فهو الواقع الجديد الذي يجب علينا أن نتعامل معه إذا أردنا أن ننقذ روح الديمقراطية ورسالتها النبيلة. لكن هذا المفهوم يمثل طفرة ثقافية عميقة نحتاج إلى فهمها بشكل أفضل إذا أردنا أن نتجاوز شبح الماضي المخيف، حيث تسبب نفس الخطاب في أفعال وحشية لم يشهد مثلها التاريخ البشري من قبل.
26 أبريل 2019
وضعت صحيفة الواشنطن بوست منذ نجاح دونالد ترامب في انتخابات نونبر 2016 قاعدة معطيات سمتها "مدقق الحقيقة" للتأكد من صحية ما يقوله هذا الأخير. في 26 أبريل 2019 وصل الرئيس ترامب عشرة آلاف ما بين كذبة و"نصف حقيقة" وخبر زائف وافتراء، أي أنه يقوم بالهجوم على الحقيقة 12 مرة في اليوم. "خُمُس هاته الأكذوبات يتعلق بالموضوع الذي يهمه أكثر، أي الهجرة؛ بل إن نسبة الافتراءات على موضوع الهجرة عرف ارتفاعا ملحوظا منذ توقفت الدوائر الحكومية بسبب خلافه مع الكونغريس حول الحائط الذي ينوي تمويل بنائه بين الولاياتالمتحدة والمكسيك". فالرئيس الأمريكي، حسب نفس الصحيفة، يقول (ويعيد ذلك حوالي 172 مرة إلى حدود أبريل 2019) بأن الحائط هو في طور البناء وهذا شيء غير دقيق لأن الرئيس ترامب يقدم أعمال الصيانة التي تقام بشكل منتظم على بعض الحواجز الموجودة على الحدود على أنها عملية بناء الحائط.
ميل الرئيس ترامب على التحامل على الحقيقة ومحاولته طمسها وحجبها أو الإجهاز عليها هي معضلة لم تواجهها الديمقراطية الأمريكية بنفس الحدة منذ نشأتها في القرن الثامن عشر. ما يجعل الكثير قلقا بشأن هذا الأمر هو إيمان شرائح عديدة بصدقية هذا الادعاءات الكاذبة رغم أن وسائل الإعلام أصبحت متخصصة في التدقيق فيها بشكل يومي. لقد أصبحت المعلومات المغلوطة والكاذبة جزءا من الخطاب السياسي الشعبوي.
وهذه المعطيات الملفقة التي يتداولها كثير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب والولاياتالمتحدة وغيرهما صارت أنجع وسيلة لخلق واقع جديد، تكون ضحيته الأولى هي الحقيقة.
الشعبوية هي أكبر عدو للحقيقة وألذ عدو للديمقراطية وثاني أكبر خطر على مستقبل كثير من الشعوب بعد التحولات المناخية.
يورغن هابرماس، "المجال العام"،وهي مساحة بديلة لتبادل المعلومات والتشبيك وإنتاج الأفكار و"القيم" والتي تعارض بشدة التيار الرئيسي.
لقد كانت معاداة الإعلام درعا خطابيا استعمله مؤيدو ترامب للاحتماء من الحقائق والواقع المرير.