أبانت الموجة الممتدة من الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية بالمغرب، والتي انطلقت منذ أكتوبر 2006، عن خيبة أمل المواطنين اتجاه المسارات السياسية داخل البلاد خلال السنوات الخمسة الأخيرة. فالتعبئة الشعبية (أو الحراك) سواء في الريف أو مناطق أخرى كجرادة في شرق المغرب، كانت تدور، وبالأساس، حول مطالب لخلق فرص الشغل والخدمات الاجتماعية وتأهيل البنية التحتية، إلا إن القمع الذي واجهت به الحكومة هذه الاحتجاجات زاد من تأجيج الوضع، وقد تزداد حدتها إن لم تتم الاستجابة لمطالب المحتجين بالشكل اللائق. تكشف التظلمات السوسيو-اقتصادية التي عبر عنها المحتجون عن عدم الثقة المتجذر في سياسات الحكومة وفي العملية السياسية الرسمية ككل، وكذلك عن تأكل دور الأحزاب السياسية كوسائط موثوقة بين الدولة والمجتمع. هذه الورقة البحثية، تبحث في كيف ساهم تصرف السلطات المغربية في تقويض الثقة في سياسات الأحزاب وبالتالي إذكاء موجة الاحتجاجات المستمرة داخل البلاد.
بين 2011 و2016: ما الذي تغير؟
هناك فرق شاسع بين القمع القاسي الذي سلكته السلطات المغربية لوقف احتجاجات الريف والمناطق الأخرى سنة 2016، وبين تعاملها مع حراك 20 فبراير سنة 2011. ففي ظل الربيع العربي، أطلقت المؤسسة الملكية رزمة من الإصلاحات السياسية، تضمنت تعديلات دستورية وانفتاحا سياسيا كان الغرض منه امتصاص الغضب الشعبي. وكان من ضمن أهم التعديلات التي طالت دستور 2011 بنود تضمن ممارسة الحريات العامة والحق في الاحتجاج، كما أنها ضمنت الحق للمواطنين في اقتراح بعض التشريعات عبر تقديم عرائض، وحدّت من سلطات الملك في تعيين رئيس للحكومة والوزراء وتم تعزيز سلطات البرلمان، في هذه الظروف كانت طريقة قمع النظام لاحتجاجات حركة 20 فبراير مخففة وناعمة.
في ظل هذه البيئة السياسية، استفاد حزب العدالة والتنمية، الذي كان في صفوف المعارضة حينها، من هاته التغييرات وصعد بشكل سريع إلى دفة السلطة التنفيذية بعد تصدره انتخابات 2011 التشريعية. وتم تعيين قائد الحزب آنذاك عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة، بحيث قاد الحزب إلى كسب نجاحات انتخابية متتالية بعد ذلك سنة 2015 في الانتخابات المحلية وسنة 2016 في الانتخابات البرلمانية.
إلا أنه ومنذ أواخر 2013، بدأ يتراجع مكسب الانفتاح السياسي الذي أطلق سنة 2011 يتراجع. فقد تأثر المغرب سلبا بالمناخ السياسي الإقليمي المتوتر، لا سيما التطورات اللاديموقراطية في الشرق الأوسط، وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، والضغط الذي مارسته بعض دول الخليج خوفا من المكاسب الانتخابية المتتالية للأحزاب الإسلامية في المنطقة. ولذلك حاول القصر تقوية الطابع التنفيذي للملكية من خلال إضعاف حكومة العدالة والتنمية المنتخبة وحشد الأحزاب السياسية المقربة من النظام لمواجهة هذا الأخير.
لقد أدت هذه السلوكات إلى التشكيك في جدية المسار السياسي الذي قطعه المغرب بعد 2011 وأدى إلى مزيد من إضعاف دور الأحزاب والمؤسسات السياسية الرسمية. فالحضور المتزايد للمؤسسة الملكية في السياسة اليومية أثار شكوكا حول الجدوى من الانتخابات ومن فعالية الحكومة المنتخبة في حل المشاكل السوسيو-اقتصادية. إن الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية المستمرة ليست إلا أعراضا لغياب تحمل الحكومة مسؤولياتها وتقصيرها في تقديم خدمات عمومية.
الفراغ السياسي
هناك مثال قوي وصارخ يظهر غياب ربط مسؤولية بالمحاسبة لدى الحكومة، وذلك من خلال ما سمي في وسائل الاعلام ب” البلوكاج الحكومي” (أزمة تشكيل الحكومة) والتي دامت لأكثر من ستة أشهر بعد انتخابات أكتوبر 2016. ففي مارس من العام 2017 أقال الملك محمد السادس رئيس الحكومة المنتخب عبد الإله بنكيران بعدما فشل هذا الأخير في تشكيل الحكومة الجديدة. وقد كان السبب وراء ذلك عدم تعاون الأحزاب الموالية للقصر مع رئيس الوزراء المعين في مهمة تشكيل حكومته الثانية، الشيء الذي أدى إلى استبدال بنكيران بوجه آخر من حزب العدالة والتنمية، وهو سعد الدين العثماني، الذي كان مجبرا على قبول شروط مجحفة قبل السماح له بتشكيل حكومة الأغلبية. هذا التحرك لم يضعف فقط حزب العدالة والتنمية، ولكن أكد كذلك أن القصر يبقى أقوى مؤسسة في البلد. كما أكد أن النتائج الانتخابية ليست كافية من أجل تشكيل حكومة ائتلاف من دون رضا القصر. ومن هنا، فإن سيطرة القصر على النخب السياسية حط من قيمتهم ونزع عنهم المصداقية في أعين المواطنين، الشيء الذي أدى إلى فراغ كبير في التمثيلية السياسية وإلى انعدام الثقة في العملية السياسية ككل.
لقد انطلقت شرارة احتجاجات الريف خلال فترة الفراغ السياسي أثناء “البلوكاج الحكومي” بين أكتوبر2016 ومارس 2017. فعندما كان القصر منشغلا بإضعاف واحتواء حزب العدالة والتنمية، استطاع المتظاهرون احتلال الشوارع ومقاومة قمع الدولة. ومباشرة بعد انتخابات 2016، قام الملك بعدة زيارات لبلدان إفريقية دامت عدة أسابيع، في إطار الترتيبات التي كانت تسبق رجوع المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي. وفي ذلك الحين، كان بنكيران يحاول جهده في بناء ائتلاف حكومي، وكان هدفه كرئيس حكومة معين هو تشكيل الحكومة، بينما في المقابل كان القصر يركز جهوده على التخلص منه.
أما في منطقة الريف، فقد استغل المحتجون هذا الفراغ السياسي من أجل التعبير عن تظلماتهم ومطالبهم، وقد فتح حادث موت بائع السمك محسن فكري، الذي لقي حتفه جراء سحقه وسط شاحنة للنفايات عندما كان يحاول استرجاع سلعته التي تمت مصادرتها من طرف السلطات المحلية فرصة مواتية للخروج للشارع والتظاهر في الشارع بشكل يومي. لقد بدأت الاحتجاجات في منطقة الريف في أواخر شهر أكتوبر من العام 2016 الذي شهد تنظيم الانتخابات وتعيين عبد الاله بنكيران رئيسا للوزراء للمرة الثانية، تطالب بالعدالة وتقصي الحقيقة في موت بائع السمك محسن فكري، لكنها سرعان ما انقلبت إلى مطالب سوسيو-اقتصادية، ومطالب من أجل توفير التشغيل وتحسين الخدمات الاجتماعية وتأهيل البنى التحتية. وكما عبر عن ذلك أحد المحتجين لوسائل الإعلام: “هناك سبب واحد وراء احتجاجات الريف وفي أي مكان آخر في المغرب، وهو هذا الإحساس ب”الحڭرة” (أي الظلم، والقمع، والتهميش)، والاضطهاد ضد المواطنين في منطقة الريف. أما موت (الشهيد) محسن فكري فقد كانت فقط تلك القشة التي قسمت ظهر البعير.”
رفض المحتجون في الريف التفاوض مع ممثلي الحكومة بصفتهم وسطاء بينهم وبين النظام بسبب غضبهم اتجاه قصور الأحزاب السياسية، وطالبوا عوض ذلك بمخاطبة الملك مباشرة عبر لجنة يختارها ويشكلها هو. رغم أن قادة الاحتجاجات في مدينة جرادة التقوا بممثلين عن الحكومة، لكنهم استمروا في احتجاجاتهم على الرغم من تلك اللقاءات، لأنهم يعتقدون أن الاحتجاج هو الطريقة الوحيدة من أجل ممارسة الضغط على الحكومة لتحقق وعودها. كما أن قمع السلطات للاحتجاجات السلمية دمر أي ثقة متبقية لدى المحتجين في الحكومة.
أدى تصرف القصر، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى هذه النتيجة. ففي صيف 2017، هاجم الملك محمد السادس الأحزاب السياسية بسبب عدم مصداقيتها.، وقد أكد انتقاده هذا بعد بضعة شهور ووعد ب”زلزال سياسي”، وقد كانت النتيجة هي إقالة العديد من الوزراء والموظفين السامين. ورغم أن المحتجين ثمنوا هذا التحرك الملكي ورأوا فيه رغبة صادقة من أجل تثبيت مفهوم ربط المسؤولية بالمحاسبة، إلا أن القمع المستمر للمحتجين السلميين وللنشطاء السياسيين زاد من حدة فقدان الثقة في السلطات.
أعراض الفساد الممنهج؟
إن مسألة استمرار الاحتجاجات بالرغم من وجود وعود رسمية تعد واحدة من أعراض عدم الثقة المتجذر في السياسيين بالمغرب. ويرجع مصدر عدم الثقة هذا إلى الإحساس بالظلم علاوة على تفشي الفساد بشكل منهجي في جميع القطاعات.
إن هذا الإحساس ليس محصورا فقط في منطقة الريف لكنه منتشر في جميع أنحاء البلاد، خصوصا ضمن صفوف الشباب. لقد أبانت دراسة قام بها المعهد الديموقراطي الوطني (NDI) بعد انتخابات 2011 أن العديد من الشباب المغربي غير راض عن أداء الأحزاب السياسية. كما أن معرفتهم بمرجعيات وإيديولوجيات الأحزاب السياسية سطحية، ومعرفتهم بالانتخابات والمنتخبين ضئيلة. لكن الأهم من ذلك، هو كشفهم عن حقيقة أن مسألة التشغيل تبقى أكبر مشكل يواجه البلاد. فقد أكد المشاركون في هذه الدراسة أن الحكومة قد تفقد مصداقيتها في أعين الشباب إذا أبانت عن عجزها في خفض معدل البطالة.
إضافة إلى كل هذا، شكل الأداء الضعيف للحكومة في مجال الخدمات الاجتماعية خصوصا الصحة، والتعليم، والقضاء، إلى انتعاش الوساطات غير الرسمية، والمعروفة في الشرق الأوسط ب”الواسطة”، والتي أدت بدورها إلى تعزيز ظاهرة الفساد الممنهج داخل بيروقراطية الدولة. لقد صنف المغرب في هذا المجال خلال الفترة ما بين 2008 و2017 بين الرتب 80 و 90 في مؤشر الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية (Transparency International)، ما يفسر مدى ضعف ثقة المغاربة في حكومتهم وفي أحزابهم السياسية (تقرير الباروميتر العربي لسنة 2017).
علاوة على ذلك كله، فإن معدل البطالة الأكبر من نوعه تم تسجيله في المناطق التي انطلقت منها الاحتجاجات، كما أن أداء الخدمات الاجتماعية يبقى الأفقر في نفس المناطق. ويبدو يبدو ذلك جليا وواضحا لكل متابع. فبالنسبة لسكان تلك المناطق، لم تفعل الأحزاب السياسية ولا المنتخبون المحليون الكثير من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية. وقد تزامن هذا مع تراجع دور الوسطاء التقليديين، لا سيما الأعيان المحليين، والأحزاب السياسية والنقابات وجزء من جمعيات المجتمع المدني، مما أدى إلى غياب وسطاء موثوقين بين المجتمع والدولة، وخلق هذا فراغا يتم ملؤه الآن من طرف الفاعلين غير الرسميين.
بالرغم من نجاح النظام في استقطاب الإسلاميين المعتدلين، وقمع العناصر المتشددة، وربح إذعان الأحزاب السياسية، فإن جيلا جديدا من النشطاء قيد التشكل والظهور. فجيل الألفية (الشباب الذي ولد بعد سنوات الثمانينات) لم يعد يثق في الأحزاب السياسية، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في انفتاحهم على العالم الخارجي. ومن هنا، فإن التحدي الأكبر للملكية لا ينبع من الأحزاب السياسية أو الإسلاميين، بل من الفراغ الذي تملؤه احتجاجات الشارع.
لم يكن رد الدولة على هاته الاحتجاجات مبنيا على استراتيجية واضحة المعالم، الشيء الذي أدى إلى إرتباك خططها. فمن الواضح أن الدولة لم تختر إعادة سلك طريق الانفتاح السياسي التي سلكه سنة 2011، بل التجأت لسياسة القمع من أجل استعادة سمعة أو “هيبة الدولة” أو (الخوف من الدولة)، والتجأ كذلك إلى البحث عن قنوات غير مباشرة للتفاوض مع بعض المجموعات المتفرقة من المحتجين. إلا أن غياب الثقة بين الأطراف وغياب وسطاء صادقين، يجعل الاتفاق بين المحتجين والنظام مسألة صعبة.
إن الاستراتيجية التي ستتبناها المؤسسة الملكية في تدبير هذه الأزمة السياسية هي التي ستقرر في التوجه المستقبلي للسياسة في البلاد. وفي حالة استمرار غياب ربط حقيقي للمسؤولية بالمحاسبة، وفشل الأحزاب السياسية في لعب دورها في ممارسة السلطة والاستجابة للتظلمات التي يعبر عنها المواطنون، فإن القصر سيجد نفسه في فوهة المدفع وسيضطر للتواجه مع الاحتجاجات بشكل مباشر، الأمر الذي يتضمن كلفة عالية بالنسبة لضمان الاستقرار.