Getty Imagesصورة من نسخة "النيجاتف" لكفن تورينو "الكفن المقدس" الذي يسعى علماء إلى كشف أسراره من خلال إجراء دراسات علمية وتاريخية تهدف إلى التحقق من أصالته يُعَدُّ "الكفن المقدس" واحداً من أبرز الأثار الدينية غموضاً وإثارة للجدل، إذ يُعتقد أنه قطعة القماش التي لُفّ فيها جسد يسوع المسيح عند دفنه بعد أحداث الآلام، بحسب العقيدة المسيحية، وهو يحوي صورة باهتة لرجل يحمل علامات جروح نتيجة تنفيذ عقوبة الجَلد والصلب ضده، مما جعله موضع اهتمام واسع بين المسيحيين والعلماء، فهل حُسم الجدل بشأنه أم يظل الغموض يلاحق هذا الكفن الذي يُعرف ب "كفن المسيح"؟ في الوقت الذي يعتبر فيه مؤمنون مسيحيون الكفن "رمزاً مقدساً" وتذكاراً لآلام المسيح، يسعى علماء إلى كشف أسراره من خلال إجراء دراسات علمية وتاريخية تهدف إلى التحقق من أصالته، وهو ما جعلهم يطرحون أسئلة أبرزها: هل الكفن شهادة مادية حقيقية تعود إلى زمن المسيح بالفعل، أم أنه مجرد قطعة أثرية من العصور الوسطى؟ ونستعرض هنا تساؤلات العلماء والمؤرخين، ونرصد تاريخ "الكفن المقدس"، والآراء المؤيدة والمعارضة لأصالته، اعتماداً على عدة دراسات متخصصة أبرزها دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة، الطبعة الثانية 2003، ودراسة إيان ويلسون "الكفن المقدس بتورينو"، ودراسة فارس حبيب ملكي "لغز كفن المسيح"، ودراسة سيرج إم مورفييف "كيفية تشكّل الصورة على كفن تورينو"، ودراسة معهد البلورات الإيطالي، التابع للمجلس الوطني للبحوث، بعنوان "استخدام الأشعة السينية لتحديد عينة من كتان كفن تورينو"، التي نشرتها دورية "هيرتدج" العلمية. "أكثر الآثار الدينية غموضاً" Getty Imagesصورة للكفن المقدس من داخل كنيسة سان لورينزو في إيطاليا يُعرف هذا الكفن، بعدة أسماء أبرزها "الكفن المقدس" أو "كفن المسيح" أو "كفن تورينو"، نظراً لوجوده في كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في مدينة تورينو بإيطاليا منذ القرن السادس عشر، كما عُرف بتسمية قديمة تعود إلى القرن العاشر الميلادي، بحسب مخطوطات، وهي "المنديل"، بل أصبح له علم خاص لدراساته يعرف بعلم دراسات الكفن المقدس "سندونولوجي Sindonology". ويتضح من وصف الإنجليزي إيان ويلسون في دراسته المتخصصة بعنوان "الكفن المقدس بتورينو" لمظهر الكفن بوجه عام أنه قطعة قماش "طولها 4.35 متر وعرضها 1.09 متر، وصُنعت من قطعة واحدة من قماش الكتان ماعدا شريحة عرضها 3.5 بوصة (أي نحو 9 سنتيمترات) بطول الجانب الأيسر للقماش ومتصلة به بخياطة يدوية بسيطة". ويضيف: "أهم ما شد انتباهنا هو الصورة المزدوجة التي شاهدناها مطبوعة على الكفن، والصورة على هيئة ظلال ساقطة على القماش تشبه طبعاً باهتاً لشكل رجل من الأمام والخلف، له بنية قوية وشعر مسترسل ولحية طويلة وهو مسجى في حالة موت". ويقول ويلسون: "مما يثير الدهشة عند رؤية الكفن ذاته (وليس الصورة الفوتوغرافية له) أن الصورة تبدو باهتة ودقيقة، وأفضل وصف للون الصورة هو أنها بلون واحد هو البني الفاتح، وكلما أراد الإنسان فحصها عن قرب تلاشت الصورة مثل الضباب". ويلفت إلى أن فحص صورة الرجل الذي لُفّ بالكفن أظهر أن "الوجه في الصورة الأمامية يشبه شكل قناع بعينين واسعتين، ويبدو مفصولاً عن باقي الجسد لعدم وضوح الكتفين، بينما نجد تقاطع اليدين فوق الحقوين واضحاً جداً، والأرجل بلون باهت أسفل الركبتين كما تبدو القدمان كظلال باهتة". ويواصل ويلسون وصفه لمظهر الكفن: "لنأت الآن إلى بقع الدم الظاهرة على الكفن، نجدها ذاتها تفتقر إلى وجود أية مادة تدل على طبيعتها. ففي أعلى قمة الجبهة نجد تدفقات لدماء نتجت من إصابة الجمجمة بشيء ما في مواضع مختلفة. وكذلك نجد الدماء السائلة في الصورة الظهرية تتدفق من الجزء الخلفي للرأس". ويضيف: "هناك دماء تنزف أيضاً من الرسغين والقدمين، كذلك نجد الجانب الأيمن مثقوباً بثقب نافذ، وهناك كمية غزيرة من الدماء سالت من جرح على شكل قطاع ناقص (قوس دائري) بعرض نحو 5 سنتيمترات. وكمية أخرى من الدماء سالت من أعلى الجانب الأيمن من الصورة الظهرية (وهي من نفس الجرح)". Getty Imagesصورة تفصيلية لكفن تورينو التقطت في عام 1974 وتشير دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة إلى أن صورة الشخص: "تُظهر العديد من الجروح الصغيرة التي تغطي الجسد من الأمام والخلف، من الكتفين إلى الأسفل، وهي تتماشى مع رواية جَلد يسوع بواسطة الجنود الرومان تمهيداً لصلبه بحسب ما ورد في إنجيل (القديس متى 27:26 وما يتبعه)". وتضيف: "بالنظر إلى العديد من أوجه التشابه بين رواية الإنجيل والأدلة الموجودة على الكفن، يتفق العلماء على أن هذا الكفن لا يمكن أن يكون سوى كفن دفن يسوع الفعلي أو تقليد متقن صُنع لاحقاً". خضع الكفن لدراسات علمية مكثفة، ما يزيد على 170 دراسة أكاديمية منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، وخلُصت العديد من تلك الدراسات إلى أنه "كفن يسوع الحقيقي"، بينما خلُصت دراسات أخرى إلى إنه "كفن مزيّف"، وكان من أبرز تلك الدراسات المشككة دراسة باختبار الكربون-14 أُجريت في عام 1988، والتي أشارت إلى أن القماش يعود إلى العصور الوسطى، مما أثار تشكيكاً في أصالته، بيد أن دراسات لاحقة أكدت وجود آثار دماء وعناصر تتفق مع العصر الروماني، وزمن المسيح بالفعل، مما فتح باب الجدل العلمي من جديد. أثار الكفن عدة تساؤلات رئيسية لم تُحسم، مما جعله أحد أكثر الآثار الدينية غموضاً، كان من أبرز تلك التساؤلات، هل يعود الكفن فعلاً إلى زمن المسيح؟ وهل يمكن أن تكون الدراسات العلمية، مثل اختبار الكربون-14، قد أعطت نتائج خطأ أو غير دقيقة بسبب التلوث أو عمليات الترميم التي خضع لها الكفن عبر العصور؟ وأيضاً هل تكوّنت الصورة على الكفن نتيجة تفاعل كيميائي طبيعي أم ظاهرة غير مفسّرة علمياً؟ وهل يحمل الكفن آثاراً حقيقية لصلب المسيح؟ وهل تطابق علامات الجروح والجَلد والثقوب الناتجة عن دق المسامير مع الطريقة التي صُلب بها المسيح كما رواه الإنجيل؟ "ظهور مفاجئ في فرنسا" Getty Imagesنسخة ملونة من نقش في أواخر القرن السادس عشر "للكفن المقدس" في تورينو حوالي 1578 ميلادياً لم يتفق العلماء على بداية ظهور "الكفن المقدس" محل الدراسة، إذ لا توجد أدلة تاريخية مؤكدة على وجوده في القرون الأولى للمسيحية، بيد أن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أنه كان محفوظاً في الكنيسة الأولى، ونُقل من أورشليم إلى أماكن مختلفة لحمايته. ويلفت الفرنسي سيرج إم مورفييف في دراسته "كيفية تشكّل الصورة على كفن تورينو" إلى أن السجلات التاريخية "لا تثبت وجود كفن تورينو بشكل قاطع إلا منذ عام 1357، لكن هناك شواهد عديدة تدل على امتداد تاريخه إلى عصور أقدم بكثير". ويقول: "وردت إشارات إلى وجوده في مدينة الرُّها، المعروفة الآن بأورفة التركية، حتى عام 944، ثم في القسطنطينية، حيث ظل محفوظاً من عام 944 إلى 1204، عندما اجتاحت الحملة الصليبية المدينة". ويتحدث الإنجيل عن يوسف الرامي، وهو شيخ يهودي من أعضاء المجلس الديني، أو مجمع السنهدرين اليهودي، وهو أول من اشترى كفناً للمسيح، وكان من بين أولئك الذين أحبوه وآمنوا به، فاشترى كفناً من الكتان الخالص للف جسد المسيح تمهيداً لدفنه في مقبرته الخاصة. ويرد ذكر الكفن في إنجيل القديس متى (27: 57) كما يلي: "ولما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان هو أيضاً تلميذاً ليسوع. فهذا تقدم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع. فأمر بيلاطس حينئذ أن يُعطى الجسد. فأخذ يوسف الجسد ولفّه بكتان نقي، ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر ومضى". ويقول فارس حبيب ملكي في دراسته "لغز كفن المسيح"، إنهم استعملوا طريقة لف الجسد بهذه الطريقة، وهي غير مألوفة في ذلك العصر، نظراً لعدم وجود وقت يكفي لإتمام مراسم الدفن كاملة، بسبب اقتراب موعد السبت عند اليهود في ذلك الوقت. Getty Imagesلوحة دفن المسيح في كنيسة القديس يوحنا الإنجيلي في فيينا للرسام كارل غيغر عام 1876 وتستعرض دراسته مراحل انتقال الكفن عبر العصور، التي تضع حداً فاصلاً قبل وبعد عام 1357 ميلادياً، إذ يقول ملكي في دراسته: "لدينا معلومات كثيرة عن هذه المرحلة ولكنها ليس كلها أكيدة، وقيمتها هي في جمعها بعضها مع بعض. أهم محطتين في تلك المرحلة هما دخول الكفن إلى القسطنطينية في عام 944 ميلادياً، ومغادرة الكفن القسطنطينية في عام 1204". المرحلة الأولى تبدأ بوصول الكفن إلى القسطنطينية تحت اسم "منديل إديسّا"، وسبب تسميته بذلك، بحسب الإنجليزي إيان ويلسون، أن الكفن كان مطوياً أربع طيات ومعروضاً داخل برواز، ولم يكن باستطاعة المشاهد أن يدرك حجم القماش فسموه بالمنديل. المرحلة الثانية لانتقال الكفن يحددها العلماء من سنة 1204 إلى 1357، وهي تستند إلى شهادة فارس فرنسي يعرف باسم روبير دو كلاري، ونصها محفوظ في المكتبة الملكية في كوبنهاغن، وهو فارس اشترك في الحملة الصليبية الرابعة، وفي كتابه "قصة الذين دخلوا القسطنطينية"، بحسب دراسة ملكي، روى ملابسات سياسية رافقت دخول المدينة، كما تحدث عن "الكفن المقدس". ظل الكفن مجهولاً حتى ظهوره مجدداً في مدينة ليراي بفرنسا عام 1357، إذ قال مؤرخون إنه بعد موت الفارس الفرنسي جوفروا دو شارني الأول، في معركة موبيرتوي في 19 سبتمبر/أيلول عام 1356، سلّمت زوجته الكفن إلى رهبان مدينة ليراي الفرنسية، وأضاف مؤرخون أن الكفن عُرض للجمهور للمرة الأولى في عام 1357، ونُقشت وقتها أيقونات خاصة عليها شكل الكفن، واحدة منها لا تزال محفوظة في متحف كلوني في باريس. Getty Images عُرض الكفن، بعد تلك الفترة، في أماكن عديدة إلى أن وصل كنيسة قصر شامبري، مقر أمراء السافوا، في 11 يونيو/حزيران عام 1502، بعد أن اشتراه الدوق لويس دو سافوا من مرغريت دي شارني، حفيدة جوفروا دي شارني الأول، وهكذا استقر الكفن لفترة هناك. وتشير دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة إلى أن الكفن "نجا بأعجوبة من حريق خطير نشب في عام 1532. وعلى الرغم من أن التابوت الفضي (المحفوظ بداخله) جرى إنقاذه من الكنيسة المحترقة، إلا أن قطرة من الفضة المنصهرة احترقت وتسللت إلى طيات الكفن". وتضيف: "استدعى الأمر خضوع الكفن بالكامل، الذي عانى أيضاً من أضرار كبيرة بسبب الحريق والتلف الناتج عن المياه، لعملية ترميم استمرت عامين. ورغم كل هذا، ظلّت صورة الجسد على الكفن سليمة بشكل عام". وترصد دراسة "لغز كفن المسيح" مراحل انتقال وعرض الكفن إلى أن وصل إلى مدينة تورينو، إذ تقول إنه عندما انتقل ملوك السافوا من شامبري إلى تورينو عام 1578، اصطحبوا معهم "الكفن المقدس"، ومنذ ذلك الوقت عُرض على الجمهور في عدة مناسبات. ظل "الكفن المقدس" ملكاً لأسرة السافوا منذ عام 1453 وحتى آخر ملوك هذه السلالة وهو أومبرتو الثاني، الذي توفي في عام 1983، ويقال إنه كتب في وصيته بنداً يقضي بالتنازل عن حقه في ملكية الكفن لبابا روما متمنياً بقاء الكفن في تورينو. "علامات وآيات تكشف أسرار الكفن" Getty Imagesلوحة "دفن المسيح"، للرسام فيدال غونثاليث أرينال عام 1895، متحف الفنون الجميلة الإقليمي في سالامانكا، إسبانيا سعى العلماء، أثناء دراسة الكفن، إلى الربط بين الآثار التي وجدوها على النسيج وبين روايات الآلام الواردة في الكتاب المقدس، في محاولة لحل اللغز وتفسير العلامات الظاهرة أمامهم. تحدث العلماء عن وجود آثار تشير إلى وجود نتف من منتصف اللحية، فضلا عن وجود علامات لرضوض وأورام ظاهرة على الوجه، وأهمها خد متورم أكثر من الثاني، وجفن متورم أكثر من الثاني، كذلك آثار رضوض في الأنف، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 67) "حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه وآخرون لطموه قائلين: تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟"، وأيضاً ما ورد في نبوءة سفر إشعياء النبي (50: 6) "بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق". وتحدثوا عن علامات تشير إلى عملية جَلد ظاهرة من الظهر حتى القدمين، وتمثّلها بقع دم داكنة اللون منتشرة على طول الجسم، وقالوا إن آثار الجَلد في صورة الكفن تتطابق مع وسيلة الجَلد الرومانية المعروفة وقتها، وهي عبارة عن مقبض ينتهي بثلاثة أطراف من الجِلد، وعلى كل طرف قطعة من عظام أرجل الغنم أو كرتان متلاصقتان من الرصاص، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 26) "حينئذ أطلق (الوالي بيلاطس البنطي) لهم باراباس، وأما يسوع فجَلده وأسلمه ليُصلب". Getty Imagesلوحة "جلد وضرب المسيح" للرسام الإيطالي جياندومينيكو تييبولو عام 1772 ويرى البعض أن عقوبة الجَلد لا معنى لوجودها في ظل الحُكم على الشخص بالصلب في البداية، بيد أن وجود أثار تدل عليها قبل تنفيذ عقوبة الصلب يدل على أن هذا الشخص هو المسيح بالفعل، لأنه لم يُعرف تاريخياً جَلد شخص قبل صلبه سوى المسيح، بحسب ما ورد في رواية الإنجيل، إذ كان هدف الوالي بيلاطس البنطي من عقوبة الجَلد في البداية أن تكون تأديبية تمهيداً لإطلاق سراحه، لا لصلبه. كما تحدث العلماء عن علامات تشير إلى جروح من جهة الرأس وبالأخص من الجهة الخلفية على طول الشعر، أرجعوها إلى حدوث نزيف بسبب غرز الشوك في الرأس، وقالوا إن هذا يتطابق مع الوضع على الصليب، لأن المصلوب عندما يتحرك على صليبه يلقي رأسه غالباً إلى الخلف، الأمر الذي يحدث ألماً ونزيفاً، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 29) "وضفّروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه". ويقول ملكي في دراسته: "إكليل الشوك لم يكن من العذابات التقليدية التي كان يتلقاها المصلوب، إذ لم يذكر التاريخ، أن أحداً من الذين صُلبوا وُضع على رأسه إكليل شوك. أما يسوع فقد جعلوا عليه إكليل الشوك .. ليسخروا منه". Getty Imagesلوحة "المسيح وعلى رأسه إكليل الشوك" من الأعمال الفنية للكنيسة الرعوية في فينيتو بإيطاليا ولاحظ العلماء أيضاً وجود علامات على الكتفين أرجعوها إلى احتمال أن حِملاً ثقيلاً ربما كان يضغط عليهما، وربط العلماء هذا الحِمل بعادة حمل المحكوم عليه بالصلب لصليبه، في ذلك الوقت، من مقر المحكمة إلى موضع صلبه، الذي كان غالباً خارج أسوار المدينة. ويقول العلماء إن المتهم كان يحمل القطعة الأفقية من الصليب فقط، نظراً لعدم قدرته على حمل الصليب بالكامل، لأن وزنه كان يتجاوز 200 كيلوغرام، وهو ما اعتبروه يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس متى (27: 31) "بعد ما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه ومضوا به للصلب". كما استنتج العلماء وجود علامات على دق مسامير في اليدين والرجلين تشير إلى عقوبة الصلب، لاسيما وأن طريقة الموت على الصليب لم تكن معروفة عند اليهود، الذين كانوا يعاقبون بالرجم فقط، أمام الرومان فكانوا يستعملونها مع الغرباء، ويقول ملكي في دراسته: "نظراً لشراسة تلك الطريقة، كان يُمنع تنفيذها في المواطنين الرومان". Getty Imagesلوحة "تكفين المسيح" وتظهر طعنة الحَربة على جسده من الأعمال الفنية بكنيسة سان روش في باريس ولاحظوا أيضاً وجود علامات توحي بطعنة في الجنب الأيمن، ربما طعنة الحَربة التي كان يتيقن بها الرومان من موت الشخص بالفعل على الصليب، وهو ما اعتبره العلماء يتفق مع ما ورد في إنجيل القديس يوحنا (19: 35-34) "لكن واحداً من العسكر طعن جنبه بحَربة وللوقت خرج دم وماء. والذي عاين شهد، وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم". ويقول ملكي في دراسته :"الطعنة كانت مدروسة من قِبل الجنود الرومان، فلكي تصيب القلب مباشرة، كانت تدخل من الجهة اليمنى بين الضلعين الخامس والسادس فتصيب الأذين الأيمن حيث يتجمع الدم بعد الموت". "معارك علمية وآراء متضاربة" Getty Imagesاتفق العلماء على أن قماش الكفن مصنوع من الكتان كان العلماء الفرنسيون هم أول من اهتموا بدراسة الكفن، وتضاربت جهودهم بين مؤيد ومعارض، أبرزهم الراهب والمؤرخ أوليس شوفالييه (1841-1923) الذي قال إن الكفن من صنع أحد الرسّامين، بيد أن آخرين اعترضوا على هذا الزعم، لكن دراسات شوفالييه ساعدت في معرفة رحلة الكفن بطريقة أدق. ومن بين العلماء الفرنسيين الذين دافعوا عن صحة الكفن بول فينيون (1856-1943)، أستاذ علم الأحياء في المعهد الكاثوليكي في باريس، فخلال معرض للكفن عام 1933، سُمح له بفحص الكفن عن كثب، بعدها أصدر كتاباً ضخماً بعنوان "الكفن المقدس في تورينو: العلم، علم الآثار، التاريخ، الأيقونات، المنطق" عام 1938، وهو عمل نال عنه جائزة من الأكاديمية الفرنسية. واكتشف فينيون أن البقع الحمراء على الكفن هي نتيجة التصاق الجسم بالقماش، كما لاحظ أن كل ملامح وجه يسوع المسيح في الأيقونات بدأت تتشابه ابتداءً من القرن السادس، في حين كانت قبل هذا التاريخ، تختلف بين أيقونة وأخرى، واستنتج أن رسامي الأيقونات ربما استوحوا رسومهم من شكل واحد هو شكل الوجه الظاهر أثره على الكفن، وبرهن على ذلك بعشرين علامة مميزة مشتركة بين وجه الكفن ووجه المسيح في الأيقونات. كما برز اسم الطبيب الفرنسي بيير باربيه (1883-1961)، الجراح في مستشفى القديس يوسف في باريس، وهو أول من أثبت أن مكان دق المسمار في يد المصلوب ليس في الكف، بل في الرسغ حيث توجد عظام صغيرة بينهما مكان فارغ يعرف باسم "فراغ ديستو Espace de Destot"، كان الرومان يعرفونه ويدقون فيه المسمار لحمل الجسم على الصليب. Getty Imagesرسم توضيحي يُظهر تفاصيل اليدين المثقوبتين بالمسامير، خلال معرض أُقيم في تورينو، إيطاليا، عام 1978 واتفق العلماء على أن قماش الكفن من الكتان، وكان أول من فحصه في سبعينيات القرن الماضي البلجيكي غيلبر رايس، ولاحظ بواسطة الفحص بالمجهر، بحسب دراسة "لغز كفن المسيح"، وجود ألياف قطنية من النوع المزروع في الشرق الأوسط، وعلل وجودها في النسيج الكتاني للكفن بأن الصانع، الذي نسج القطعة، ربما نسج قبلها على النول ذاته، قماشة من القطن تركت أثراً منها، واستنتج بأن لا شيء يمنع أن يكون الكفن قد حيك في الشرق الأوسط في زمن يسوع المسيح. كما أجرى السويسري ماكس فراي، خبير الأدلة الجنائية، في عام 1969 فحوصاً ولاحظ وجود حبوب لقاح على النسيج، وفي عام 1973، بعد إجراء فحص شمل 12 عينة من الكفن، توصل إلى وجود 58 نوعاً من حبوب اللقاح، من بينها حبوب لقاح أزهار لا تنبت إلا في مناطق بالقرب من أورشليم، وهو ما دفعه إلى محاولة رسم مسار محتمل لانتقال الكفن من تلك المنطقة وصولاً إلى أوروبا. بيد أن علماء اعترضوا على استنتاجاته وقالوا إن حبوب اللقاح تتأثر حال تعرضها للهواء الطلق ويتغير شكلها مما يصعب التعرّف عليها، فكم بالحري قماش تنقل خلال ألفي سنة بين قارة وأخرى وتعرض عدة مرات للهواء الطلق؟ وكان رد فراي أنه وجد الحبوب بين خيوط الكفن، وهو ما حفظها من التعرض للهواء وهي من نوع الحبوب المتحجرة، بيد أنه توفي عام 1983 دون إثبات صحة نظريته. Getty Images كما يحمل "الكفن المقدس" آثار بقع قرمزية اللون مختلفة الشكل، خاصة عند الرأس والظهر والمعصمين وأسفل الرجلين، واستطاع الأمريكيان جون هيلر وآلان أدلير أخذ عينات من هذه البقع وفحصها وتوصلا إلى أنها بالفعل بقع دم. وأجرى الأمريكي والتر ماكرون دراسة اعترض فيها على صحة هذا الزعم، وقال إن البقع القرمزية هي مادة تلوين اصطناعية استعملها رسّام في قرون ماضية، وأضاف أن دراسته أظهرت وجود مادة أكسيد الحديد التي استعملها الرسّامون قديماً، فرد عليه العالمان هيلير وآدلير أن هذه المادة ليست مادة تلوين لسببين: الأول أنها موجودة بكمية ضئيلة جداً، والثاني أنها موجودة في كل مساحة الكفن، لا في مكان البقع القرمزية فقط، وهي بالتالي جزء من النسيج. وتلفت دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة إلى أن "العلماء الذين شاركوا في دراسة الكفن عام 1978 لم يجدوا دليلاً على وجود ضربات فرشاة أو أي علامات تشير إلى أن البقع الدموية أو صور الجسم ككل قد رُسمت على القماش". كما تنفي دراسة "لغز كفن المسيح" مزاعم وجود مادة تلوين، وتقول إنه لو كان هناك مادة تلوين لسال مع ارتفاع درجة الحرارة عندما تعرض الكفن للحريق عام 1532، كما لا يوجد تطابق مع أي مادة تلوين استُعملت في هذه الفترة. Getty Images أما عن الجدل الذي أثاره فحص الكفن بالكربون-14 عام 1988، فهو فكرة سبق وطُرحت في خمسينيات القرن الماضي، واعترضت عليها الكنيسة في البداية نظراً لأنها تتطلب اقتطاع مساحة من القماش بحجم كف اليد، لكن بعد اختراع أساليب حديثة للفحص أوكلت المهمة لثلاثة مختبرات علمية: مختبر تاكسون الأمريكي تحت إشراف العالمين دوغلاس دوناهو وبول دامون، ومختبر جامعة أكسفورد الإنجليزي تحت إشراف إدوارد هال وروبرت هدجز، ومختبر زوريخ السويسري تحت إشراف فولغلي. وتلفت دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة إلى أن مختبر أبحاث المتحف البريطاني أجرى تحليلاً إحصائياً لنتائج هذه المختبرات وخلُص إلى أن "تاريخ الكفن لا بد أن يتراوح بين عام 1260 وعام 1390 ميلادياً، ولا يمكن أن يكون أقدم من ذلك". وأضافت: "طعن المدافعون عن أصالة الكفن في هذه النتائج، ورأوا، على سبيل المثال، أن الحريق الذي نشب في عام 1532 أسهم في إضافة نظائر كربون إلى الكتان، وأن الألياف الموجودة في الكفن ربما غلفتها البكتيريا والفطريات بمرور الوقت ... وبالتالي نتج عن ذلك تحديد تاريخ غير دقيق". Getty Imagesأجريت دراسات عديدة لمعرفة أسرار كفن تورينو كما اعترض آخرون على الطريقة التي أُجري بها هذا الفحص بالكربون-14، وطرحوا بعض الملاحظات من بينها أنه كان من الأفضل أن يُعهد بالمهمة إلى مختبرات مختلفة تستعمل طريقتي الفحص بالكربون-14، وهي طريقة قديمة تعرف اختصاراً ب PCM، وتعطي نتائج دقيقة لكنها لم تُستعمل في فحص الكفن لأنها تتطلب اقتطاع عينة كبيرة وتحتاج إلى وقت أطول. أما الطريقة الثانية وهي حديثة تعرف اختصاراً ب AMS، ابتكرها الأمريكي هاري غوف عام 1977، ويشير ملكي في دراسته إلى أنها طريقة "لم تُجرّب كفايةً (في ذلك الوقت) واعتُمد عليها في فحص الكفن لأنها لا تتطلب إلا عينة صغيرة، كما أن نتيجتها سريعة". ومن بين الاعتراضات أيضاً على نتائج فحص الكربون-14 أنه كان من الأفضل أخذ عينات من أماكن مختلفة من الكفن لتفادي التلوث، بدل من أخذ عينة واحدة من مكان واحد. وبناء على ذلك، استنتجت دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة، في نهاية استعراضها لتاريخ الكفن وما أُجرى عليه من دراسات، في صفحة 97، المجلد 13، تحت مادة "SHROUD OF TURIN"، حتى تاريخ إصدار الطبعة الثانية، 2003، التي اعتمدنا عليها في إعداد التقرير أنه "باختصار، على الرغم من أن العديد من الأسئلة لا تزال عالقة بلا إجابة، وأهمها سؤال كيف ظهرت الصور على القماش منذ البداية، فإنه من غير المحتمل أن يكون هذا القماش هو الكفن الحقيقي ليسوع...، لكن ذلك لا ينفي احتمال أن يكون قد أُنتج ليكون شيئاً تعبدياً، تذكاراً تقوياً يذكرنا بكيف أن يسوع ضحى بحياته من أجل خلاص البشر". "مفاجأة جديدة غير متوقعة" Getty Imagesلم تجزم الدراسة بأن كفن تورينو هو بالفعل الكفن الأصلي الذي لُفّ به جسد يسوع المسيح لم تهدأ الجهود العلمية الرامية إلى حل لغز "الكفن المقدس" ومعرفة تاريخه، وهو ما دفع علماء معهد علم البلورات في إيطاليا، التابع للمجلس الوطني للبحوث، إلى إجراء دراسة على ثمانية خيوط صغيرة من الكتان المصنوع منه الكفن، واستعانوا بتقنية الأشعة السينية في تحديد تاريخه، وأثمرت نتائجهم عن "مفاجأة جديدة غير متوقعة" في عام 2022. ونشرت دورية "هريتدج" العلمية نتائج الدراسة تحت عنوان "استخدام الأشعة السينية في تحديد تاريخ عينة من كتان كفن تورينو"، والتي استطاع من خلالها العلماء قياس تحلل السليلوز في الكتان بفعل الزمن، ثم تحويل تلك النتائج إلى تقدير زمني يكشف المدة التي انقضت منذ لحظة صناعته. كما استعان العلماء بمعايير جديدة من بينها درجة الحرارة التي احتُفظ فيها بالنسيج، وافترضوا أن القطعة حُفظت في درجة حرارة تتراوح بين 20 و22.5 درجة مئوية، ورطوبة نسبية تتراوح بين 55 و75 في المئة على مدار تاريخه، وخلُص العلماء إلى أن الكفن صُنع قبل نحو ألفي عام، أي في زمن المسيح تقريباً. وقال العلماء إنهم اتبعوا في دراستهم أساليب علمية أكثر دقة مقارنة باستخدام الطريقة السابقة لتحديد تاريخ الكفن بالكربون-14، نظراً لأن أقمشة مثل الكتان تتأثر بالتلوث وبعوامل بيئية، وهو ما يمكن أن يجعل استخدام الكربون-14 غير دقيق في تحديد التاريخ. وأعلنت الدراسة في استنتاجها النهائي نصاً: "أن تحديد التاريخ بالأشعة السينية يشير إلى أن كفن تورينو أقدم من تاريخه الأوروبي الموثّق الذي يمتد لسبعة قرون، ويمكننا القول إنه كان من حسن الحظ أن كفن تورينو نُقل إلى أوروبا قبل سبعة قرون". وأضافت: "أظهرت فحوصاتنا أنه منذ القرن الرابع عشر وحتى اليوم، كان تقدم العمر الطبيعي لسليلوز كتان الكفن منخفضاً جداً، بسبب درجات الحرارة المنخفضة نسبياً في أوروبا، مما منع تلاشي صورة الجسد على الكفن بشكل كامل، وهو ما كان سيحدث لو حُفظ في درجة حرارة متوسطة عند 22.5 درجة مئوية". وعلى الرغم من ذلك لم تجزم الدراسة بأن كفن تورينو هو بالفعل الكفن الأصلي الذي لُفّ به جسد يسوع المسيح، بل اكتفت بالقول بأنه صُنع في نفس الفترة التي عاش فيها المسيح. "رمز لآلام المسيح" Getty Imagesرسم يعود لعام 1870 للرسام غوستاف دوريه، لمشهد إنجيلي يظهر لفّ المسيح بالكفن تتفاوت نظرة المسيحيين من مختلف الطوائف بشأن "الكفن المقدس"، فمنهم من يراه أحد الرموز الدينية المهمة والشاهدة على أحداث آلام المسيح، ومنهم من يتعامل معه بحذر شديد نظراً لعدم حسم الجدل العلمي الدائر بشأن تاريخه، من منطلق أن الإيمان لا يعتمد على وجود أدلة مادية تدعمه. وعلى الرغم من عدم إصدار أي إعلان رسمي من الفاتيكان يدعم أو ينفي نتائج الدراسات التي أُجريت على الكفن، وصف البابا يوحنا بولس الثاني، بابا الفاتيكان السابق (1978-2005)، الكفن في يوم الأحد 24 مايو/أيار 1998، عندما زار تورينو لمشاهدة الكفن، بمناسبة مرور مئة عام على التقاط أول صورة له، قائلا، نقلاً عن النسخة الفرنسية المنشورة على موقع الفاتيكان: "ما يهم المؤمن في المقام الأول هو أن الكفن المقدس يُعد بمثابة مرآة تعكس جوهر الإنجيل". وأضاف: "الحقيقة أنه إذا كانت صورة المسيح قد انطبعت على هذا القماش المقدس، فلا يمكن التغاضي عن علاقتها العميقة بروايات الأناجيل حول آلامه وموته، الأمر الذي يلامس الوجدان ويثير مشاعر التأمل العميق لدى كل من ينظر إليه". Getty Imagesالبابا فرنسيس بابا الفاتيكان أثناء مشاهدة كفن تورينو في عام 2013 وفي 29 مارس/آذار عام 2013، وجه البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، رسالة فيديو قال فيها، نقلاً عن أرشيف موقع الفاتيكان باللغة العربية: "أعين هذا الوجه مغلقة، وهو وجه متوفى، ولكنه وبطريقة عجائبية ينظر لنا، وفي الصمت يكلمنا. كيف يكون هذا ممكناً؟ كيف يمكن للشعب المؤمن، ولنا، أن يرغب في الوقوف أمام هذه الأيقونة لرجل مجلود ومصلوب؟ ولماذا يدعونا رجل الكفن إلى تأمل يسوع الناصري؟ إن هذه الصورة - المنطبعة على القماش - تتكلم مع قلبنا وتدفعنا لصعود جبل الجلجثة، للنظر لخشبة الصليب، لنتأمل أنفسنا في الصمت المتكلم عن المحبة". ظل "الكفن المقدس" لغزاً أثار تساؤلات الكثيرين على مر العصور، وشجّع علماء على إجراء دراسات لم تتوقف حتى الآن، بل أصبح في جوهره رمزاً قوياً يدعو إلى التأمل في أحداث آلام المسيح، سواء أثبتت الدراسات العلمية حقيقته أم بقي سرّه في طيّ الغموض. * رحلة العائلة المقدسة: المسيح في مصر بين المصادر الدينية القبطية وخيال الرسامين الأجانب * احتفالات رحلة العائلة المقدسة في مصر على قائمة التراث العالمي لليونسكو * لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الكتاب المقدس والقرآن؟ * "لسنا عربا".. مصريون يتعلمون اللغة القبطية "لإحياء هويتهم الأصلية" والحفاظ عليها من الاندثار، فما القصة؟ * هل آمن المصريون القدماء ب "إله واحد أحد" قبل الأديان السماوية؟ * شامبليون: كيف ساعدت اللغة القبطية في كشف أسرار "الهيروغليفية"؟ * رحلة المومياوات الملكية من الموت إلى "الخلود" في مصر القديمة