في ظل واقع الجفاف البنيوي الذي أصبحت تعانيه بلادنا منذ سنوات، تصاعدت مطالب بضرورة التغيير الجذري في السياسة الفلاحية لتكييفها مع هذا الواقع الجديد، خاصة أن التساقطات المطرية التي تعرفها بلادنا لم تعد كافية، لا لتحسين معدلات ملء السدود، ولا لتغذية الفرشات المائية المستنزفة، ولا لضمان التزويد العادي للمغاربة بالماء الشروب. وفي هذا الصدد، يؤكد متتبعون على ضرورة التفكير في إرساء نموذج جديد في المجال الفلاحي، يراعي الإشكالات الجديدة خاصة ما يتعلق بإشكالية الإجهاد المائي، ويستهدف أساسا الأمن الغذائي الوطني.
الخبير في مجال البيئة والتنمية المستدامة أحمد صدقي، قال إنه "بعد أخذ العبرة من البرامج والمخططات السابقة، يتضح أن المغرب يحتاج لإرساء نموذج جديد في المجال الفلاحي".
ودعا صدقي، في حديث ل"الأيام 24″، إلى "ضرورة الامتناع عن اعتماد زراعات مستنزفة للمياه خصوصا حين تكون موجهة للتصدير"، مشيرا إلى أن زراعة "الأفوكا" مثلا التي تعتبر زراعة دخيلة ولا علاقة لها بالأمن الغذائي الوطني، تستنزف المياه بشكل كبير جدا حيث تصل كمية المياه المطلوبة لإنتاج كيلوغرام واحد من هذه الفاكهة إلى طن من الماء.
من جهته، أكد الخبير في سياسة الماء عبد الرحيم الهندوف، أن إعادة النظر في السياسة الفلاحية بالمغرب مسألة مطروحة لعدة أسباب لعل من أهمها استهلاك القطاع الفلاحي لكميات كبيرة من الموارد المائية إذ كانت تصل إلى أزيد من 80 في المائة لكنها تراجعت في السنوات الأخيرة إلى حوالي 60 في المائة.
وأضاف الهندوف، في تصريح ل"الأيام 24″، أن من بين المجالات التي ينبغي مراجعتها، تقنيات السقي غير الملائمة، مبينا أنه لا يكفي تغيير الري السطحي إلى الري الموضعي، بل لا بد من معرفة طريقة السقي الملائمة للتربة والنبات ولمناخ المنطقة حتى نصل إلى نتائج جيدة.
ونبه الهندوف، إلى ضرورة معرفة المراحل الحساسة للمزروعات التي تتطلب بشكل كبير الماء، والمراحل التي لا تتطلب الماء، إضافة إلى ضرورة الاستغناء عن الزراعات التي تستهلك الماء بشكل كبير، ملفتا إلى أن هناك أصنافا من المزروعات مقاومة للجفاف وأخرى غير مقاومة. مرتكزات النموذج الجديد ولبناء نموذج فلاحي جديد، فإن ذلك يتطلب، حسب الخبير في مجال البيئة والتنمية المستدامة أحمد صدقي، أن يتأسس على عدة مرتكزات، "أولها الحرص على ضمان الأمن الغذائي للبلاد، وذلك بإعطاء الأولوية للإنتاج الذي يمكن أن يغطي كما ونوعا حاجيات ساكنة المغرب والتي تتحدد عموما في الحبوب والخضر والفواكه والزيوت والسكر واللحوم البيضاء والحمراء مع مراعاة تطور السلوك الغذائي للمجتمع المغربي وتوجهاته الجديدة".
ويرى صدقي، أنه "لا يعقل أن يعتمد المغرب برامج ومخططات توضع رهن إشارتها كل الإمكانيات والموارد المالية والبشرية من الأراضي والتجهيزات ومن المياه وباقي دعامات الإنتاج دون أن تُعفي البلاد من التوجه إلى الاستيراد والخضوع لتغيرات وتقلبات السوق الخارجية، وتكلفة ذلك من العملة الصعبة مع مخاطر عدم ديمومة تموين السوق الداخلية وارتفاع الأسعار وافتقاد الجودة أحيانا في المواد والسلع المستوردة".
وأبرز صدقي، أن الركيزة الثانية للنموذج الجديد للمجال الفلاحي، والتي لا يمكن فصلها عن الأولى هي ركيزة الموارد المائية الموضوعة رهن إشارة الإنتاج الفلاحي، مبينا أنه "في ظل الإرهاصات الجدية للتغير المناخي أصبح الخصاص المائي معطى هيكلي يستوجب اعتماد سياسة فلاحية مندمجة تراعي هذا المعطى وتأخذه بعين الاعتبار عند إقرار المخططات وعند تنزيلها، وجعل توجهات القطاع الزراعي تحترم مقتضيات الاقتصاد في الماء وحسن تدبيره وتوزيعه وتوجيه المياه السقوية بشكل معقلن لإقرار الأمن الغذائي".
حلول لا مفر منها وإضافة إلى المرتكزات التي تحدث عنها صدقي، كأولويات للنموذج الفلاحي المغربي الجديد، شدد الخبير في سياسة الماء عبد الرحيم الهندوف، على أن تحلية مياه البحر أصبحت أمرا لا بديل عنها بالنسبة للمغرب، على اعتبار أن عدد السكان يرتفع وتزداد معه الحاجيات، مستدركا: لكن وتيرة التحلية تبقى بطيئة كما أن الكلفة مازالت مرتفعة، وأردف أن المفروض العمل عل تطوير الطاقات المتجددة لاستثمارها في تحلية مياه البحر لخفض التكلفة.
ودعا الهندوف، إلى تطوير منظومة البحث العلمي في مجالات الماء والطاقة وتحلية المياه، وطرق السقي والري بصفة عامة إضافة إلى اختيار أصناف الزراعات المناسبة واستعمال تقنيات الري والري التكميلي من خلال اعتماد السقي في الفترات الحرجة التي تتطلب الماء ومنع الزراعات في بعض المناطق من قبيل ما يزرع في منطقة زاكورة.
وخلص الهندوف، إلى أن معضلة الماء بالمغرب تتطلب مقاربة شمولية من خلال إعادة النظر بشكل جذري في السياسة الفلاحية وعقلنة استعمال المياه لجميع الأغراض مواصلة اتخاذ إجراءات ترشيد استعمالات المياه تدبيرا لندرتها الشديدة ، وتكييف الزراعات مع تغيُّرات المناخ، والتخفيف من وطأة الآثار المتعددة لهذه الأخيرة، وتعزيز تحلية المياه مع العمل على تطوير الطاقات المتجددة.