بلا مواربة عبق الورق عبد الإله حمدوشي نشر في 20 مارس 2025 الساعة 14 و 24 دقيقة الكلمات المتقاطعة، كانت ملح الجريدة وغوايتها، خاصة إن كانت لأبي سلمى أو الشريف الإدريسي، وحتى إن لم تعجبك الجريدتان اللتان ينشران بها، أو كنت لا تملك ثمن اقتناء صحيفتين، سيضطرك هوسك بملء مربعات "السودوكو" والكلمات المسهمة إلى شراء "الشبكة" بدرهم من بائعي "الديطاي" عبد الإله حمدوشي [email protected]
كان هناك زمن تُشترى فيه الجرائد كما يُشترى الخبز، تُطوى تحت الإبط أو تُحمل في اليد، لترافق قارئها نحو مقهى، أو مكتب، أو كرسي خشبي في ساحة عمومية.. كانت الصحيفة الورقية جزءا من طقوس الصباح، لا يكتمل يوم البعض إلا بقراءتها، ولا يبدأ حديثهم إلا بما جاء فيها.. كانت رائحتها تمتزج برائحة القهوة، وكانت الأخبار تُقرأ بشغف، لا كما تُستهلك اليوم على شاشات الهواتف ببرود..
الكلمات المتقاطعة، كانت ملح الجريدة وغوايتها، خاصة إن كانت لأبي سلمى أو الشريف الإدريسي، وحتى إن لم تعجبك الجريدتان اللتان ينشران بها، أو كنت لا تملك ثمن اقتناء صحيفتين، سيضطرك هوسك بملء مربعات "السودوكو" والكلمات المسهمة إلى شراء "الشبكة" بدرهم من بائعي "الديطاي"، أو من الأكشاك والمكتبات التي تنسخ "شبكة" اليوم من جريدتين على وجهَيْ ورقة واحدة (بطريقة غير قانوينة)، لتبيعها بدرهم بالتقسيط، ولبائعي "الديطاي" بأقل من ذلك بكثير، إذا هم اقتنوا كمية كبيرة من النسخ قصد إعادة بيعها لرواد المقاهي وأصحاب محلات الحلاقة والملابس الجاهزة، وبائعي الذهب والفضة، ودكاكين العطارين. وغالبا ما يكون لهؤلاء الباعة المتجولين بقفص السجائر ونسخ الجرائد الورقية والكلمات المسهمة زبائن دائمون من مدمني "الشبكة"، الذين يقتنون منهم الورقة بشكل يومي.
كانت للصحيفة قدسية ورمزية خاصة.. إن هي جاءت بخبر حصري، فهو حتما عند القارئ البسيط خبر صحيح.. كنا نعتقد بأن الورق لا يكذب، وأن الصحافيين -الذين لم تكن تظهر صورهم على العدد إلا نادرا- رسل الحقيقة والحقائق المخفية عنا نحن البسطاء القابعون في القاع الاجتماعي، الذين لا نعرف من أخبار من يحركون لوح الشطرنج من المتحكمين في مصائرنا شيئا.. كنا نرسم حروف وجوههم في خيالنا، انطلاقا من حروف الكلمات التي يبنون بها مقالاتهم، وتزداد شهرتهم عندنا بازدياد الجرأة التي يكتبون ويحللون بها الواقع والوقائع.
لم يكن هناك ذباب إلكتروني يزيف الحقائق، محاولا خلق رأي عام مغفل، بقدر ما كانت للجريدة سلطة التأثير وجرأة التوضيح والاعتذار، إن هي أخطأت في تناول خبر ما… اليوم، كل شيء تغير، اختفى بائعو الجرائد المتجولون، وبقي ماسحو الأحذية.. اختفت "الشبكة" وبرزت ألعاب الهاتف الذكي.. نقص فعل القراءة، وطغى فعل المشاهدة.. مشاهدة الجاهز من المواد الإعلامية على قنوات اليوتوب والمواقع الالكترونية… ولم تعد هناك معارك فكرية تُخاض في المقالات، بل صارت المعارك تُدار على مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات مختصرة، وتعليقات مليئة بالسب والقذف والتخوين.. وانتقلت سلطة التأثير من الورق إلى العالم الإفتراضي وإلى صحافة العالم الافتراضي بمختلف أنماطها وأجناسها، التي حملت معها -إلا من رحم ربك- عدوى التشهير بالناس إلى جرائد ما كان لها ولا لأصحابها، أن ينزلوا بشرف صاحبة الجلالة إلى تلك السوق التي تباع فيها المصداقية بثمن بخس…
لكن، رغم كل هذا، ما زال هناك من يحنّ إلى زمن الصحافة الحقيقية، ما زال هناك من يفتقد رائحة الورق، ومن يؤمن أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل مسؤولية.. ما زال هناك من يحلم بأن تعود الصحيفة الورقية، ليس فقط كشكل من أشكال الإعلام، بل كجزء من ثقافة القراءة، وكنافذة تُطل على الحقيقة، لا على الأكاذيب المعلبة..
ربما لن تعود الصحف الورقية إلى مجدها السابق، وربما لن يعود الناس إلى اقتنائها كما كانوا يفعلون، لكن ما يمكن إنقاذه هو جوهر الصحافة نفسها: أن تظل سلطة رابعة حقيقية، لا بوقا لمن لا بوق له.. أن تكون صوتا للحقيقة، لا سلاحا في يد من يريد تصفية الحسابات.. نحن الآن لا نبكي على الورق، بل نبكي على زمن كانت فيه الكلمة مسؤولية، وكان القلم مدادا لا يُشترى بثمن وحقيقة لا تُباع.. وإن كان الزمن الذهبي للورق قد ولّى، فلا ينبغي أن يزول معه زمن الشرف.