منذ توقيع الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدةالأمريكية وإسرائيل، وقرار استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب، ظهرت بعض الأصوات التي تحاول الترويج لمفهوم "التطبيع الكامل" مع دولة الاحتلال، وتسعى لرفعه إلى مستويات لم تعلن عنها الدولة المغربية نفسها، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول تأثير هذا التوجه على المصالح الاستراتيجية للمملكة. لقد اتخذت الدولة المغربية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، موقفا مدروسا في إدارة علاقتها بالقضية الفلسطينية والتطورات الإقليمية، حيث ظلت متشبثة بالثوابت الوطنية، وعلى رأسها دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وأكدت على أن القضية الفلسطينية هي في نفس المرتبة مع قضية الصحراء المغربية. لكن في المقابل، طفت على السطح أصوات تحاول تجاوز هذا النهج المتوازن، وتداعت إلى الترويج لتطبيع غير مشروط، وتصويره كأنه خيار استراتيجي يخدم مصلحة المغرب، في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك.
إن من بين أخطر أشكال هذا التوجه هو استسهال منح مساحة لوجوه صهيونية لتقديم سرديتها عبر أدوات إعلامية، تحت يافطات قيم إنسانية وكونية من قبيل "التعايش والسلام" المفترى عليهما، الذي لا يعدو أن يكون سوى محاولة جديدة لإحداث اختراق في النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المغربي، عبر خلق حالة من الاعتياد النفسي على التعامل مع دولة الاحتلال التي يشهد العالم على إجرامها في حق أزيد من مليونين ونصف إنسان في قطاع غزة وحده.
هذه الخطوات لا تخدم مصلحة المغرب في شيء، بل تضعف موقفه السياسي والتفاوضي، حيث إن أحد أهم عناصر قوة ملف الصحراء المغربية هو التماسك الداخلي، مع الاحتفاظ بهامش المناورة الذي يمكن الدولة من اتخاذ القرارات وفق مصالحها السيادية، لا وفق ضغوط خارجية أو حسابات أي طرف كان.
كما أن هذه التصرفات غير المحسوبة -إن افترضنا حسن نية أصحابها- تشوش على الخط الرسمي للدولة، الذي يبدو أنه يعتمد سياسة الجرعات وتكتيك التدرج في التعامل مع هذا الملف، وتجعل المملكة تبدو وكأنها تهرول نحو تطبيع شامل، في وقت ما زالت فيه قضايا استراتيجية كبرى على الطاولة، سواء تعلق الأمر بالصحراء المغربية أو العلاقات الإقليمية والدولية.
ما ينبغي أن يعرفه هؤلاء من الذين عبروا عن حماسة تطبيعية غير مفهومة، وراحوا يبدعون مبادرات على مختلف المستويات، سواء الثقافية أو الإعلامية أو الإقتصادية… ولا يتوانون في تبييض وجه الاحتلال، أن الدولة القوية لا يزعجها الاختلاف مع بعض اختياراتها الرسمية، بل إنها في بعض الأحيان تكون في أمس الحاجة إلى أصوات مختلفة، صادرة من الداخل، تقوي بها موقعها، وتحصن بها مصالحها من الضغوطات والإكراهات التي لا يخلو منها حقل العلاقات الدولية.
إن المغرب ليس محتاجا إلى متطوعين لتبرير خيارات الدولة، ورفع سقف التطبيع أكثر مما قررته. بل على العكس من ذلك، فإن واجب الوقت يقتضي أن يعزز المغرب من مواقفه الحذرة، ويحافظ على استقلالية قراره السياسي، لأن أي خطوة غير محسوبة في هذا الملف قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة، ليس فقط على القضية الفلسطينية، ولكن أيضا على مسار قضيتنا الوطنية العادلة، وعلى الأمن والاستقرار الداخلي للمملكة.
وعليه، فإن الهرولة نحو التطبيع وتجاوز سقف الدولة فيه، لا يخدم مصلحة هذه الأخيرة في شيء، بقدر ما يضعف موقعها، ويفسد عليها مقاربتها، لكي لا تجد نفسها متورطة في حالة تطبيع كامل لا يخدم مصلحتها بالتأكيد. في حين لو كانت الدولة المغربية تدرك أن مصلحتها في التطبيع، لأقدمت عليه منذ زمان، ولو كان الموضوع كما يجري تسويقه اليوم من طرف بعض المهرولين لكان علينا محاسبة الدولة عن تأخرها في "إنجاز" هذه الخطوة إلى اليوم؟! وهو ما لا يمكن أن يقبل به عاقل.
من زاوية أخرى، يبدو أن هناك من لم يستوعب بعد بأن الأصوات الممانعة من الداخل، الحريصة على تماسك وتلاحم مكونات المجتمع المغربي واستقرار البلد، والرافضة للتطبيع، من جهة، والمتفهمة لاختيارات الدولة التي تفرضها الضرورة من جهة ثانية، إنما تساهم في إبقاء سقف الدولة المغربية عاليا في هذه القضية، على عكس موقف التسليم بالواقع التطبيعي والقبول به، والهرولة وفق المثل المغربي القائل: "ما قدو فيل زادوه فيلة"، الذي سيؤدي إلى إضعاف موقف الدولة أكثر مما يسنده، على عكس ما يبدو للبعض من الذين ربما اختلطت عليهم المصالح الاستراتيجية للدولة بحساباتهم الشخصية.. وهنا مكمن الخطورة