كمال الهشومي أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط
لا يمكن إنكار الزخم الكبير الذي حققته الدبلوماسية المغربية في ملف الوحدة الترابية، خاصة بعد اعتراف دول عظمى ووازنة داخل مجلس الأمن الدولي بمغربية الصحراء، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية—بصفتها صاحب القلم في قرارات المجلس—وكذلك فرنسا.
كما عززت بعض الاتحادات الإقليمية والدولية هذا التوجه، لا سيما إسبانيا وألمانيا، إلى جانب دول أخرى من مختلف القارات، تعد مؤثرة في صناعة القرار الدولي.
إلى جانب ذلك، شهدنا توافدا غير مسبوق لدول إفريقية وعربية نحو مدينتي العيون والداخلة لافتتاح قنصلياتها، في خطوة تعكس اعترافا رسميا بمغربية الصحراء وترسّخ الموقف المغربي داخل المنظومة الإفريقية والدولية.
علاوة على ذلك، تبنت المملكة استراتيجية اقتصادية وتنموية متكاملة لتعزيز نفوذها في إفريقيا من خلال مشاريع ضخمة ومبادرات دبلوماسية واقتصادية كبرى، ما أسهم في تكريس حضور المغرب كقوة اقتصادية صاعدة داخل القارة.
ومنذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017، لعب المغرب دورا دبلوماسيا محوريا في إدارة الأزمات الإفريقية، من خلال دعم جهود الأمن ومكافحة الإرهاب، خصوصًا في منطقة الساحل والصحراء، وإطلاق اتفاقيات تعاون أمني وعسكري مع دول غرب إفريقيا لتعزيز الاستقرار الإقليمي.
هذه الإنجازات، التي تم تسويقها إعلاميا بشكل واسع، عززت الشعور الوطني لدى المغاربة تجاه قضيتهم الأولى، قضية الصحراء المغربية، باعتبارها قضية وجودية وليست مجرد خلاف حدودي.
رغم كل هذه النجاحات، حذر الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء (6 نوفمبر 2021) من الوقوع في فخ الاطمئنان المفرط، مشددًا على أن هذه المكتسبات لا تعني نهاية التحديات، بل تستوجب مزيدًا من اليقظة والعمل الدبلوماسي الحازم.
وأكد أن الشراكات الدولية للمغرب يجب أن تُبنى على مواقف واضحة بشأن وحدته الترابية، مع التحذير من أي مناورات محتملة قد تستهدف هذه المكاسب.
وفي خطاب الذكرى 47 للمسيرة الخضراء (6 نوفمبر 2022)، دعا الملك إلى الانتقال من منطق التدبير إلى منطق التغيير في ملف الصحراء، معتبرًا أن المغرب يجب أن ينتقل من الدفاع التقليدي إلى فرض الأمر الواقع على المستوى الدولي، مستفيدًا من نجاحاته الدبلوماسية والاقتصادية.
أين الخلل؟ لكن يبدو موضوعيًا وواقعيًا أن الجهات المسؤولة عن الدبلوماسية المباشرة داخل الحكومة لم تستوعب بما فيه الكفاية، وبالضرورة اللازمة، مفهوم اليقظة والحزم والتغيير، ما انعكس في بعض الإخفاقات الاستراتيجية، ومنها حالتان بارزتان:
1. قرار محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الفلاحة والصيد البحري حيث تمكنت الأطراف المعادية للمغرب من التأثير على القضاء الأوروبي، مما أدى إلى الطعن في اتفاقية الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي في مجالي الفلاحة والصيد البحري، رغم حصول هذه الاتفاقيتين على الأغلبية المطلقة داخل البرلمان الأوروبي. ورغم محاولات التخفيف من وقع القرار إعلاميًا، فإن الأمر استوجب مراجعة أعمق لكيفية التعامل مع مثل هذه المناورات القانونية والسياسية.
2. إخفاق المغرب في انتخابات الاتحاد الإفريقي
رغم المجهودات المغربية الضخمة في إفريقيا على المستويات المالية والاقتصادية والطاقية، إلا أن المغرب لم ينجح في الحصول على دعم إيجابي للفوز بمنصب نائب رئيس الاتحاد الإفريقي خلال الدورة العادية ال46 للمجلس التنفيذي للاتحاد في أديس أبابا، من خلال منافسة شديدة بين الدول الكبرى في شمال إفريقيا، لا سيما بين المغرب والجزائر.
ورغم محاولة التبرير والتقليل من أهمية هذا المنصب والتهكم على احتفال الخصوم به، وتصويره على أنه مجرد تصفية حسابات داخلية وتنفيسا لأزمة داخلية للدولة الجارة/العدوة، إلا أن الواقع يفرض إعطاء هذا الحدث قيمته الحقيقية، حيث أن المفاجأة كانت (حسب بعض التسريبات ان صحت؟) عدم تصويت بعض الدول التي كانت تُحسب على أنها داعمة للمغرب لصالح مرشحته، مما يطرح تساؤلات جدية حول التنسيق الدبلوماسي وحسابات التحالفات الإفريقية.
وكيف القائمين على الملف أن يخاطروا بالترشيح دون التأكد من النتيجة أو دراسة احتمالات تكون نوعا ما إيجابية لان مهما سفه هذا المنصب فقيمة ترشيح المغرب لها اعتبارات سياسية وجيواستراتيجية، هذا بالإضافة إلى ان هناك حديث بعض التقارير الصحفية عن إغراءات مالية لبعض الدول للتصويت لصالح المرشحة المنافسة، وهو أمر إن صحّ، فإنه يعكس خطورة المسألة، لأن التصويت داخل الاتحاد الإفريقي يتم عبر ممثلي الدول، وبالتالي فهو يعكس مواقف رسمية وليس قرارات فردية. خاصة ان الفتئزة حصلت على 33 صوتا من أصل 55 وهو ما يمثل النصاب القانون للفوز.
وهنا يبرز التساؤل الأخطر: إذا كان المغرب قد خسر في "تمرين بسيط" كهذا، فكيف سيكون الحال عندما يواجه امتحانًا دبلوماسيًا أكبر؟
ما الدروس المستخلصة؟
هذا الفشل ليس مجرد حادث عرضي، ومهما كانت الأسباب والمسببات او الاعتبارات، بل هو تحذير يستدعي إعادة ترتيب الأولويات والمسؤوليات، واتخاذ مبادرات أكثر واقعية وبراغماتية، بعيدًا عن العاطفة والحسابات الضيقة. ومن هنا، لا بد من:
إعادة تقييم طريقة إدارة التحالفات داخل الاتحاد الإفريقي. العمل على بناء تحالفات استراتيجية أكثر صلابة، بدل الاعتماد فقط على الاستثمارات الاقتصادية. فرض مقاربة أكثر براغماتية في التعامل مع القارة، تعتمد على المتابعة الدقيقة للولاءات السياسية للدول الإفريقية. محاسبة المسؤولين عن الإخفاقات الدبلوماسية، وعدم التساهل مع القرارات التي قد تؤثر على المصالح الوطنية. في النهاية، النجاح الدبلوماسي ليس مجرد تراكم للمكتسبات، بل هو قدرة مستمرة على حماية هذه المكاسب وتعزيزها، وهو ما يتطلب يقظة دائمة، ومبادرات محسوبة، وجرأة في اتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب.