يوم بيوم يومان في إسطنبول نور الدين مفتاح نشر في 31 يناير 2025 الساعة 0 و 52 دقيقة كانت الرحلة باختصار من أجل فلسطين. ولما كان مؤتمر «تواصل 4» ينعقد في الضفة الآسيوية فإن على من نزل في مطار إسطنبول الدولي أن يقطع بالطاكسي ما يقارب الساعتين ليصل. حركة مرور لا تنام حتى في هذا الليل البارد جدا تتخللها اختناقات تزيد من وعثاء السفر. كل هذا التعب تبخر في الصباح. كان الجو استثنائيا في البهو حيث يتحرك ما يناهز 600 مشارك من 65 جنسية تقريبا، لا تجمعهم إلا قضية ليست ككل القضايا، بل إنها أم القضايا، قضية فلسطين. ولما كنت قد حضرت مؤتمرا سابقا ل «تواصل» بالعاصمة التركية، فإن أجواء نهاية الأسبوع المنصرم كانت استثنائية. كانت بشائر وقف إطلاق النار في غزة تظلل الحاضرين وتفرض إيقاعها على مؤتمر برمج في عز حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على الفلسطينيين في القطاع. ولكن، لم يكن المؤتمرون من مفكرين وإعلاميين وباحثين بالسذج ليحولوا هذا الملتقى إلى عرس. لم يرقص أحد. وظلت الفكرة الأساسية التي خرج من أجلها «منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال» هي الناظم: العمل على أن تبقى القضية الفلسطينية في الصدارة وتواجه الرواية الإسرائيلية المضللة تاريخيا وسياسيا وإعلاميا، وهكذا كان عنوان هذه الدورة هو: «السردية الفلسطينية .. طور جديد». نور الدين مفتاح [email protected]
حطت الطائرة في منتصف الليل، بعد أربع ساعات ونصف الساعة من الطيران. في هذه المدينة العملاقة مطاران كل واحد في قارة ! نعم، هذه المدينة الفريدة تنشر أجنحتها على ضفة أوروبية وأخرى آسيوية. إنها مدينة العشرين مليون نسمة. إنها إسطنبول.
كانت الرحلة باختصار من أجل فلسطين. ولما كان مؤتمر «تواصل 4» ينعقد في الضفة الآسيوية فإن على من نزل في مطار إسطنبول الدولي أن يقطع بالطاكسي ما يقارب الساعتين ليصل. حركة مرور لا تنام حتى في هذا الليل البارد جدا تتخللها اختناقات تزيد من وعثاء السفر.
كل هذا التعب تبخر في الصباح. كان الجو استثنائيا في البهو حيث يتحرك ما يناهز 600 مشارك من 65 جنسية تقريبا، لا تجمعهم إلا قضية ليست ككل القضايا، بل إنها أم القضايا، قضية فلسطين. ولما كنت قد حضرت مؤتمرا سابقا ل «تواصل» بالعاصمة التركية، فإن أجواء نهاية الأسبوع المنصرم كانت استثنائية. كانت بشائر وقف إطلاق النار في غزة تظلل الحاضرين وتفرض إيقاعها على مؤتمر برمج في عز حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على الفلسطينيين في القطاع. ولكن، لم يكن المؤتمرون من مفكرين وإعلاميين وباحثين بالسذج ليحولوا هذا الملتقى إلى عرس. لم يرقص أحد. وظلت الفكرة الأساسية التي خرج من أجلها «منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال» هي الناظم: العمل على أن تبقى القضية الفلسطينية في الصدارة وتواجه الرواية الإسرائيلية المضللة تاريخيا وسياسيا وإعلاميا، وهكذا كان عنوان هذه الدورة هو: «السردية الفلسطينية .. طور جديد».
«تمتاز قضية فلسطين بأنها قضية حية تفرض ذاتها على الأولويات العالمية من واقع نضال شعبها المتواصل جيلا بعد جيل رغم المساعي الدؤوبة التي ابتغت طمس هذه القضية وتصفيتها، وبتأثير الفظائع المروعة التي يقترفها الاحتلال، والتي تمثل تحديا للضمائر الإنسانية في كل مكان، دخلت قضية فلسطين طورا جديدا من المواجهة مع الاحتلال، وهذا يفرض تطوير الخطاب الداعم للحقوق العادلة في فلسطين».
كانت هذه هي التشويرة الأولى في الملخص التنفيذي المطبوع للمؤتمر، وعلى إيقاعها سارت الندوات والورشات، وكان الأكثر إثارة فيها هو وجود أجانب – بين مزدوجتين – ربما يؤمنون بهذه القضية أكثر مما يؤمن بها بعض بني جلدتنا في هذا العالم العربي والإسلامي الجريح.
أولهم، ومن الجلسة الافتتاحية كتب العنوان بنوع من الاستفزاز الرائع. حيث قال الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا: «أنا لست هنا لأدافع عن فلسطين.. أنا هنا لأدافع عن القيم الإنسانية التي تجمعنا بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة». وكانت الصحافية الأمريكية آبي مارتن من الولاياتالمتحدةالأمريكية قوية: «المارد النائم استيقظ ببلدي والشباب انتبهوا لعدالة القضية الفلسطينية وملايين اليهود في أمريكا اليوم صاروا ضد الصهيونية». وأضافت ماري بامتعاض: «كان هناك صمت مخجل للإعلام الأمريكي الذي لم يتضامن حتى مع زملائه الذين قتل منهم الاحتلال الصهيوني أكثر من مائتي إعلامي منذ 7 أكتوبر، إنه أمر لا يغتفر».
كان البهو الفسيح المؤدي للقاعة الرئيسية يحمل صور كل الزملاء الذين ارتقوا شهداء للحقيقة. لقد كانوا حاضرين ليس بصورهم فقط، ولكن بقصصهم الملهمة وبذكراهم وبرمزية استهدافهم حتى يبقى التضليل هو سيد الميدان. هؤلاء الأبطال لم يكونوا آثارا جانبية للحرب، ولكنهم استهدفوا استهدافا وقد قدمت في المؤتمر الدلائل والوقائع التي تنتزع الدمع من المآقي. قال أحد زملائهم شيئين عجيبين، الأول هو أن إسرائيل منعت دخول الصحافة الأجنبية إلى غزة طوال الحرب ليس لحجب الحقيقة، ولكن، لئلا تجد صعوبة في ضرب الصحافيين الفلسطينيين، وهو أمر صعب إذا كان هناك صحافيون أجانب يمكن أن يصابوا فتجد نفسها في أزمة مع دولهم. والمسألة الثانية هي أنهم في غزة جمعوا 200 من الشباب الواعد وأطلقوا برنامج تكوين إعلامي لصالحهم حتى يحملوا المشعل بدل «الراحلين». وقد كان على صواب زميل آخر عندما أقر أننا كنا نعتقد أننا سنساهم في النصرة باحتضان زملاء من غزة لتدريبهم، أما اليوم، فنحن الذين يجب أن نرسل من يتدرب عندهم، لأنهم شربوا المهنة في حرب لم يسبق لبشاعتها مثيل.
من أندونيسيا، من نيجيريا، من البرازيل، من الأرجنتين، الكل يقر بأن حرب الإبادة الجماعية جعلت القضية الفلسطينية في قلب اهتمامات رأي عام إما لم يكن يعرفها أو لم يكن له تصور صحيح عنها.
تحس في هذا الجو العام أن هناك شيئا كبيرا تغير لدرجة أن الخطاب العام كان بسقف مرتفع، وجزء كبير يتحدث عن فلسطين حرة «من النهر إلى البحر». والذي يقول هذا هنا غربيون، ومنهم بلايك الكوت الباحث السويسري مؤلف كتاب «الاعتداء على فلسطين: تاريخ الانتداب». «حل واحد ودولة واحدة، بدأنا نتحدث عن هذا الأمر في سويسرا دون خوف من المتابعة بمعاداة السامية».
الإسرائيليون في الحكومة الحالية لا يحرجون من الجهر بمعارضتهم لاتفاقات أوسلو ومعاداتهم لفكرة حل الدولتين ولا يعترفون بشيء اسمه الشعب الفلسطيني وهذه هي سرديتهم المرتكزة على حق إلهي في الأرض، وبعد 7 أكتوبر كان الطور الجديد في السردية الفلسطينية التي لم تعرف زخما في تاريخها كما اليوم رغم الثمن الباهظ الذي أداه الغزيون، هو كما يريده الفلسطينيون وأنصارهم عبر العالم في هذا المؤتمر: «فلسطين حرة وعاصمتها القدس الشريف».
في طريق العودة، ظل الذهن شاردا ما بين مساحة الأمل التي رحبت في المؤتمر وعناء الواقع الذي نرتطم به كما ارتطمت عجلات الطائرة بمهبط مطار محمد الخامس بالدارالبيضاء. إلا أن ما جرى أو بالأحرى ما يجري في فلسطين لن تكون له إلا نتيجة واحدة وهي أن هذه القضية لن تموت أبدا، فلم يسبق لقوة أي احتلال أن هزمت أي مقاومة. وهذا ما شاهدناه الأحد المنصرم في تبادل الأسرى، وما لمسته في إسطنبول، وهذا ما سيطلعنا عليه التاريخ في قضية لا يمكن أن يكون ضدها إلا من ليس إنسانا.