يوم بيوم المغرب وفرنسا الأبيّة نور الدين مفتاح نشر في 7 أغسطس 2024 الساعة 10 و 33 دقيقة إن المغرب كان دائما قريبا من اليمين الجمهوري، من ورثة دوغول وشيراك الذي كان بمثابة فرد من العائلة الملكية، كما أن العلاقات المغربية الفرنسية لم تصل إلى أوجها كما جرى مع نيكولا ساركوزي، وبما أن لا باريس ولا الرباط جرّبا اليمين المتطرف، فلا يمكن التكهن بطعم العلاقات معه على الرغم من أن الجميع يقول اليوم أن أي أحد سيحل محل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيكون أحسن للعلاقات بين البلدين. مشكلة اليمين المتطرف أنه سيء للمغاربة المرتبطين في جزء من هويتهم بفرنسا، هذا اليمين المتطرف يدعو إلى إلغاء «الحق الترابي» وإلغاء «التجمع العائلي» وإلغاء «التأمين الصحي» للمهاجرين، والشك في ولاء مزدوجي الجنسية والدعوة الصريحة لعدم تمكينهم من المناصب العليا في الدولة. وكان هذا خطأ التجمع الوطني الفظيع لأنهم كانوا يقصدون مزدوجي الجنسية الفرنسيين المغاربيين، ولكنهم نسوا الفرنسيين الإسرائيليين ومن جنسيات أوروبية وغيرهم، والذين تقول التقديرات إن عددهم يصل إلى الثلاثة ملايين. نور الدين مفتاح [email protected]
كانت الساعة تقارب الثامنة مساء بتوقيت باريس، وقبل عشر ثوان بالضبط، بدأ العدّ العكسي والأنظار شاخصة والقلوب معلقة في السماء، وعندما دقت ساعة الحسم كانت المفاجأة. أنا متأكد أن آلاف بيوت المغاربة والمغاربيين هناك قد ملأت أرجاءها الزغاريد، ورقص الديموقراطيون التنويريون وانهارت نرجسيات اليمين المتطرف، وتنفست فرنسا الصعداء ومعها من هم قريبون منها بالتاريخ والثقافة والسياسة، وربما الوجدان.
كان امتحانا عسيرا لهذا البلد الأوروبي المميز، ويكفيه أنه مهد الثورة التي أثرت في العالم ولهذا كان خائفا على حد أدنى من القيم التي نظر لها مفكروه الكبار من ديكارت إلى روسو ومن دي توكفيل إلى سارتر...، وقد بدأت الحكاية مؤخرا من الانتخابات الأوربية قبل شهر تقريبا حين اكتسح التجمع الوطني وريث الجبهة الوطنية لمارين لوبين هذه الاستحقاقات، مما جعل الرئيس الفرنسي يقدم على ما وصف بالمقامرة بحل البرلمان والدعوة لانتخابات سابقة لأوانها كانت واحدة من أكبر المنافسات السياسية في تاريخ فرنسا على الإطلاق.
لم يكن هناك أي محلل، بلا استثناء، لا يعطي للتجمع الوطني الذي تملك رسمه العقاري لوبين الفوز بالأغلبية، ووصل الأمر بنرجسية لوبين ومحميها جوردان بارديلا رئيس التجمع إلى حد أنهم قالوا إنهم إذا لم يحصلوا على الأغلبية المطلقة فإنهم لن يقبلوا بتشكيل الحكومة!
وبالطبع، في الدور الأول لهذه الانتخابات، حصل التجمع على نفس النسبة تقريبا التي كانت تصدر في استطلاعات الرأي وهي ما يقارب 34٪ من عدد الأصوات، مع حصول الجبهة الشعبية الجديدة التي تجمع اليسار على ما يقارب 29 ٪. لقد تحركت فرائص فرنسا وخرجت شخصيات لم تتحدث للرأي العام منذ عقود وتكثلت القوى وكانت النتيجة بالنسبة لليمين المتطرف هي انهيار حلم المشاركة في حكم فرنسا وتأجيل بعبع العنصرية والتقوقع ورفض الآخر والانغلاق والإسلاموفوبيا إلى 2027 موعد الانتخابات الرئاسية.
صحيح أن تجمع لوبين وبارديلا جعلهما يحصلان على ضعف عدد المقاعد الذي كان عندهم في البرلمان، إلا أن هذا الفوز هو بطعم الهزيمة المرّة بالنسبة لهم، وهو زفير ارتياح عميق لكل المؤمنين بقيم التعايش والكرامة والإنسانية والعدالة والانفتاح والتمازج.
لم تسفر الخارطة البرلمانية عن حل، بل إنها زادت من تعقيد الوضعية الموروثة عن انتخابات 2022 التي حكم فيها تحالف الرئيس الفرنسي بأقلية أو بأغلبية نسبية. واليوم هذا التحالف فقد تقريبا 100 مقعد، وفي المقابل تقوى فريق التجمع الوطني المتطرف، وكسب الرهان تحالف اليسار الذي تتصدره الشخصية المثيرة للجدل جون لوك ميلونشون زعيم حزب فرنسا الأبيّة.
لقد كان هذا التحالف اليساري درسا بليغا في السياسة بكل ما في الكلمة من معنى، فرغم الخلافات بين مكوناته، بل الصراعات والمواجهات، تمكن في ثلاثة أيام من الاتحاد في «جبهة شعبية جديدة» حصلت في النهاية على ما يقارب 190 مقعدا، متصدرة بذلك نتائج هذه الانتخابات التاريخية.
لا يمكن أن نغفل أن دحر خطر اليمين المتطرف هذه المرّة لا يعني تجفيف منابعه، فقد صوت لصالحهم ما يقارب 10 ملايين فرنسية وفرنسي، وهذا ناجم في رأيي عن انشغال الفرنسيين بقضايا الهجرة والأمن وتأثرهم بحملات الإسلاموفوبيا، زائد هذه الموجة العالمية التي تنهار فيها الإيديولوجيات التقليدية وتتقوى الشوفينية، وما يمكن أن نسميه ب«الترامبية» العالمية نسبة إلى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وهو ما يترجمه اليمين المتطرف الفرنسي ب«الأفضلية الوطنية» وما صوت عليه الإيطاليون والهولنديون، وما أصبح يمثل ثلث مقاعد البرلمان الأوروبي تقريبا.
عموما، كانت مباراة سياسية هائلة، وتمرين ديموقراطي منعش، ودليل متجدد على أن الديموقراطية التي يمكن أحيانا أن تنتج الأسوأ، هي في النهاية توازن نفسها وتظل النظام الأقل سوءا ضمن كل الأنظمة على الإطلاق. ولكن الديموقراطية ليست حملات انتخابية بالأهازيج و«الزرود» والأعيان وأحزاب الخردة، بل إنها ديموقراطية المنافسة على البرامج، واللعبة واضحة كوضوح الفاعلين. هذه الممارسة الديموقراطية ولو أنها ليست إلا وسيلة لهدف إنساني كبير وهو أن يتحكم الفرد في مصيره بالشراكة في مجتمع الاختيار، فإنها وسيلة مبهرة تضع الأفكار الكبرى التي تنتج القيم المتجددة على محك التطبيق بالإنسان ومن أجل الإنسان.
ولهذا، وفي عالم خلناه يغرق في الهمجية والبشاعة، كما يحدث في غزّة، بحيث إن الديموقراطية هي التي أنتجت أسوأ حكومة في تاريخ الكيان الصهيوني، وفي عالم مال للتطرف والعجرفة، بزغت بوارق أمل، منها ما جرى اليوم في فرنسا وقبلها إسبانيا بنجاح اليسار ثم عودة حزب العمال لحكم بريطانيا ونجاح برلمانيين مناصرين لفلسطين وفوز مسعود بزشكيان المعتدل بالانتخابات الإيرانية. وهذا بالطبع ليس سدّا حصينا أمام تسونامي الانقلاب على القيم المؤسسة لما بعد الحرب العالمية الثانية رغم كل ثغراتها، ولكنها آمال ملموسة على أن الإنسانية يمكن أن تعود للعيش بشكل أكثر عدالة وكرامة وإنصافاً.
قيل الكثير عن علاقة المغرب بنتائج الانتخابات الفرنسية، والواقع أن المصالح الخارجية للمملكة كانت دائما مع اليسار في إسبانيا ومع اليمين في فرنسا. وقد تم الترويج أن مارين لوبين ستعترف بمغربية الصحراء إذا أصبحت رئيسة للجمهورية، إلا أن لا شيء يؤكد ذلك لحد الآن، خاصة وأن هذه الانتخابات الرئاسية لن تجري إلا في 2027.
إن المغرب كان دائما قريبا من اليمين الجمهوري، من ورثة دوغول وشيراك الذي كان بمثابة فرد من العائلة الملكية، كما أن العلاقات المغربية الفرنسية لم تصل إلى أوجها كما جرى مع نيكولا ساركوزي، وبما أن لا باريس ولا الرباط جرّبا اليمين المتطرف، فلا يمكن التكهن بطعم العلاقات معه على الرغم من أن الجميع يقول اليوم أن أي أحد سيحل محل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيكون أحسن للعلاقات بين البلدين. مشكلة اليمين المتطرف أنه سيء للمغاربة المرتبطين في جزء من هويتهم بفرنسا، هذا اليمين المتطرف يدعو إلى إلغاء «الحق الترابي» وإلغاء «التجمع العائلي» وإلغاء «التأمين الصحي» للمهاجرين، والشك في ولاء مزدوجي الجنسية والدعوة الصريحة لعدم تمكينهم من المناصب العليا في الدولة. وكان هذا خطأ التجمع الوطني الفظيع لأنهم كانوا يقصدون مزدوجي الجنسية الفرنسيين المغاربيين، ولكنهم نسوا الفرنسيين الإسرائيليين ومن جنسيات أوروبية وغيرهم، والذين تقول التقديرات إن عددهم يصل إلى الثلاثة ملايين.
هذا اليمين دعا إلى الحد من التأشيرات وإغلاق الباب أمام الطلبة الأجانب، وطرد المدانين في الجنح والجرائم من أصول مغاربية، وهي عقوبة مزدوجة، كما أنهم بالضرورة كانوا سيؤثرون على الاقتصاد الوطني عن طريق الحد من التحويلات المالية للمهاجرين المغاربة إلى بلدهم.
وعكس هؤلاء، ورغم الحملة العنيفة ضد جون لوك ميلونشون زعيم حزب فرنسا الأبيّة، فإنه يبقى في رأيي المتواضع واحدا من أشجع السياسيين الفرنسيين في الساحة اليوم الذين لم يخوفهم الإرهاب الفكري، وظل هو وحزبه مناصرين للمسلمين مميزين بين التطرف الإسلامي والدين الإسلامي، وجعلوا من محاربة الإسلاموفوبيا جزءا أساسيا من برنامجهم، وفي عز التكالب على الفلسطينيين وشبه إجماع الإعلام والنخب في فرنسا على أن حركات المقاومة هي حركات إرهابية، وقف ميلونشون وحزبه وجزء كبير من تحالفه اليساري مع الفلسطينيين، وظلوا يدينون الحكومة الإسرائيلية بسبب حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها في غزة، ولهذا كانت التهمة جاهزة لصاحبنا وهي أنه معاد للسامية! بل إنهم نحتوا مفهوما للقتل المعنوي وهو اليسار الإسلامي!
من هذا المنطلق، يمكن أن نعتبر أن فرنسا التي وضعت ميلونشون ومن معه في الصدارة قد وضعت كل هذه القضايا في الصدارة وحكمت لصالحها، ودحرت أولئك الذين اعتبروا الإسلام دينا معاديا والمهاجر محتلا والإبادة الجماعية في غزة حربا مقدسة والعنصرية وساما والتمييز العرقي إنصافا.
صحيح أنه من الناحية السياسية الصرفة توجد فرنسا في مأزق ما دام أي من الكتل الثلاثة لم يحصل على الأغلبية المطلقة ولا أحد مستعد للتحالف مع الآخر، ولكن الذي يهمنا من كل هذا أن فرنسا فعلا لم تسقط بالكامل في ظلاميّة الانغلاق ورفض الآخر، وظلت لحد الآن بلد الأنوار.. فرنسا أبيّة.