يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: ثورة الجامعات نور الدين مفتاح نشر في 8 مايو 2024 الساعة 8 و 26 دقيقة آلاف الطلاب في جامعة كولومبيا وفي جامعة هارفارد المرموقة ببوسطن وجامعة ييل بكونيتيكت وجامعة تافتس بماساشوستس وجامعة نورث وسترن بإيلينوي، اعتصموا من أجل غزة، ومن أجل وقف تعاون جامعاتهم مع المحتل الإسرائيلي، ومن أجل وقف الحرب. وانتقل الأمر إلى جامعة السربون العريقة بفرنسا. هؤلاء الشباب من قادة المستقبل كسروا الطوق، وتحدوا التهمة المخيفة الجاهزة لكل من انتصر للإنسانية، وهي «معاداة السامية». هؤلاء كتبوا ويكتبون ملحمة جديدة تذكرنا بانتفاضة الجامعات في الستينيات. نور الدين مفتاح [email protected]
لا يمكن مهما فعلنا أن نحس فعلا بوضعية إخواننا وأخواتنا في غزة وفي رفح.
هذا القتل المنتشر كيوم قيامة، وهذا التجويع الذي يسائل الضمير الإنساني، وهذا الانتظار المرعب لقرار غاشم من حكومة الحرب الإسرائيلية بقتل الآلاف من النازحين.. كل هذا يكاد يكون فريدا في أنواع البشاعة التي عرفتها الحروب. إنه صفحة دموية صاعقة من التاريخ، ولكن، رغم كل هذا الذي يجري على مرأى العالم نجد من يبرر الغطرسة الإسرائيلية، خصوصا في الغرب، ونجد من يمول، وقد وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن على شيك قيمته 95 مليار دولار، 61 مليارا منها لأوكرانيا و26 مليارا لإسرائيل! إننا نحارب الولاياتالمتحدةالأمريكية.
مقاومة بوسائل بسيطة لم تستطع تل أبيب بكل ترسانتها وتكنولوجيتها أن تواجهها لوحدها، ولولا البارجات الأمريكية والمساعدات الخيالية لما وصلنا إلى هذه المجزرة الكبرى التي قارب فيها عدد الشهداء الغزيين الأربعين ألفا وعدد الجرحى الثمانين ألفا.
وعلى الرغم من أن حرب غزة اليوم هي المواجهة الوحيدة مع إسرائيل التي كسرت صورة الدولة الصهيونية «التي لا تقهر»، وهي الحرب الوحيدة التي وصلت إلى ستة أشهر دون أن تصل إلى أهدافها كما رسمها متطرفو حكومة نتنياهو، وهي المواجهة التي وضعت قيم الغرب على المحك، فإن الثمن الذي أداه ويؤديه الفلسطينيون في غزة يعتبر باهظا.
لقد وصل الوضع إلى حالة قد تصيب أكثر المتفائلين باليأس أمام الاصطفاف الغربي اللامشروط مع إسرائيل، وخصوصا أمريكا وفرنسا وبريطانيا، إلا أن ما جرى في الجامعات الأمريكية كان مذهلا. كأن أمطارا غزيرة تتهاطل على أرض قاحلة. وقد انطلقت الشرارة من جامعة كولومبيا بنيويورك لتصل إلى جامعات أخرى حتى خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية.
آلاف الطلاب في جامعة كولومبيا وفي جامعة هارفارد المرموقة ببوسطن وجامعة ييل بكونيتيكت وجامعة تافتس بماساشوستس وجامعة نورث وسترن بإيلينوي، اعتصموا من أجل غزة، ومن أجل وقف تعاون جامعاتهم مع المحتل الإسرائيلي، ومن أجل وقف الحرب. وانتقل الأمر إلى جامعة السربون العريقة بفرنسا. هؤلاء الشباب من قادة المستقبل كسروا الطوق، وتحدوا التهمة المخيفة الجاهزة لكل من انتصر للإنسانية، وهي «معاداة السامية». هؤلاء كتبوا ويكتبون ملحمة جديدة تذكرنا بانتفاضة الجامعات في الستينيات.
فمن جامعة كولومبيا بالضبط خرجت أولى الاحتجاجات ضد حرب الفيتنام، ولم تهدأ حتى قادت إلى فضيحة واترغييت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي حينها ريتشارد نيكسون. لم يكن أمر الاحتجاجات في الستينيات سهلا، فقد تدخلت الشرطة في أكثر من حرم جامعي، وقمعت أكثر مما تفعله اليوم. وإذا كانت ثورة الستينيات قد غيرت بنية السلطة في أوروبا وأوقفت الحرب التي كانت تشنها أمريكا على فيتنام، فإن الشرارة التي تم إطلاقها اليوم في الجامعات الأمريكية لها دلالات أعمق بكثير من مجرد احتجاجات على حرب لا إنسانية. إنها يقظة ضمير في الغرب ضد هذا الاستثناء الصهيوني الذي يتخلى فيه العالم الليبرالي عن كل شيء من أجل إسرائيل، لا قانون دولي ولا قانون دولي إنساني ولا إنسانية ولا انتفاض ضد البطش والانتقام.
إن الجامعات التي تنتفض اليوم تحتضن طلاب النخبة، وهم أبناء الميسورين وأصحاب القرار في الولاياتالمتحدة، وبالتالي، يتبين أن القناعة الراسخة عندنا بأن اللوبي الصهيوني واليهودي في أمريكا مستحوذ على كل شيء، بما في ذلك العقول، يتساقط اليوم بفضل غزّة، وبفضل صمود المقاومة، وبفضل الأثمان الباهظة التي يدفعها الفلسطينيون الشجعان دما ودموعا وصمودا.
إن الكثيرين ما زالوا يعودون إلى ما جرى في السابع من أكتوبر على أساس أنه عمل إرهابي وتهور من المقاومة، بل هناك من يُحمل هذه المقاومة المآسي التي تقع في غزة. والواقع أنه حتى وزير الخارجية المصري سامح شكري – الذي لا يمكن تصنيفه ضمن الثوريين – قال على هامش المنتدى الاقتصادي بالرياض جوابا على سؤال محرج من الصحافي الأمريكي المتخصص في الشرق الأوسط توماس فريدمان: «إن أي احتلال لابد أن يفرز مقاومة، وإن هذه المقاومة تعتبر عملا مشروعا محميا بالقانون الدولي».
نعم، لقد قاوم دوغول الاحتلال النازي لفرنسا بالأسلحة والمتفجرات والعمليات الفدائية، وقاوم المغاربة الحماية الفرنسية بالقنابل والأسلحة والعمليات الفدائية، وعموما، كل احتلال كان يسمي عمليات المقاومة بالعمليات الإرهابية. وبالنسبة لسكان غزّة، ماذا عساهم كانوا فاعلين وهم محشورون في 350 كلم مربع ومحاصرون من طرف إسرائيل بلا حرية ولا سيادة ولا اقتصاد. بل إن الضفة الغربيّة بدورها كانت وما تزال محاصرة، وعندما سلمت حقيبة الأمن القومي للمتطرف بن غفير، فقد سلح المستوطنين وأطلق يدهم للمزيد من الاستيطان، وتم اقتحام المسجد الأقصى عشرات المرات، وكاد العالم ينسى القضية الفلسطينية وكاد حل الدولتين يتوارى بعقيدة الاحتواء المزدوج لأول رئيس وزراء إسرائيلي بن غوريون وتعزيز مسلسل التطبيع والصلح مع العرب دون دولة فلسطينية.
هذا هو الوضع الذي أراده الغرب وجزء من العرب، بحيث تصبح الكوفية وشاحا للتزيين فقط وتصبح القضية الفلسطينية ذكرى، ويتسلى بعض محبي إسرائيل بالخلافات الفلسطينية الفلسطينية، وبالمقارنة بين الديموقراطية الإسرائيلية وفساد النخب في الضفة أو تطرفها في غزّة.
كل هذا انتهى في 7 أكتوبر. وحتى هذا الطوفان الذي ضرب في الخريف شيطنوه وجيشوا الإعلام الغربي للبروباغندا وسلحوه بالأخبار المختلقة حول حرق المقاومة للأطفال واغتصاب النساء، وهو ما تبين زيفه. ورغم ذلك، لا أحد كان يهمه التحقق، لأنهم كانوا ضد إهانة إسرائيل، دركي الشرق الأوسط. كانوا حساسين لمعاداة السامية مع أن الذين عادوا السامية هم الغرب وليس العرب أو المسلمين! وفي نهاية المطاف، كانت حكومة نتنياهو في الموعد لتذهب أبعد ما يمكن أن نتصوره في الإبادة، وفي إحراج الغرب المتحضر.
لقد انتقدوا إسرائيل هنا وهناك، إلا أنهم كانوا محتشمين مبرّرين متواطئين، ولكن ربّي كبير، وها هم الشباب في قلب الغرب، ومن قشدته، يخلقون نقيض نظام عالمي يحاكم الجميع بالديموقراطية وحقوق الإنسان ويستثني إسرائيل دون غيرها. شباب يفحم المتخاذلين والمتواطئين من كل الأطياف، فهل سبق في التاريخ أن عرفت القضية الفلسطينية هذا الزخم وهذه اليقظة للضمير العالمي الشعبي من أجل الحق؟! أبدا ! فتحية لصمود الشعب الفلسطيني البطل.