Hanan Abunasser حنان أبو ناصر ووالدتها خديجة شاهين تشعر حنان أبو ناصر بالذنب لأنها نامت ست ساعات، وأهلها في غزة "مش عارفين يناموا". ابنة مخيم جباليا، تركت غزة قبل عشر سنوات، وهي تعمل الآن مدرّسة في إحدى مدارس ستوكهولم في السويد. "كتير مقهورة"، تقول في اتصال. "أشعر بالخجل، وربما بشيء من الخيانة، لأن الناس حولي هنا، لديهم كهرباء، وماء، يستيقظون للذهاب إلى العمل بشكل طبيعي، بينما أهلي في غزة يقولون لي أنهم ينتظرون الموت". لماذا لا تستجيب إسرائيل للمناشدات الدولية بفتح ممرات إنسانية؟ هربنا من الغارات في الثانية صباحا وسط صراخ الأطفال لم تزر حنان غزة منذ سنوات، بسبب صعوبة دخول القطاع المحاصر منذ عام 2007، إذ يتطلب الدخول أو الخروج ترتيبات شاقة. والتقت أمها خديجة قبل أشهر في مصر. تحاول الحفاظ على رباطة جأشها أمام التلاميذ، لكن الحاجة للبكاء تغلبها، فتضطر للخروج من الصف بين الحين والآخر، وتبكي من دون أن يراها أحد. تقول: "بعض الطلاب سألوا عني، واطمأنوا عن أهلي. مديرتي تفهمني، لدي زميلة واحدة أستطيع أن أشكو لها ما أشعر به. لكني في غرفة المعلمين، لم أجرؤ على قول كلمة واحدة، لأن تهمة الإرهاب جاهزة، كأن هناك عقاباً جماعياً لنا، ولكل من هم في غزة". مع انقطاع الكهرباء والانترنت وصعوبة الاتصال بوالدتها وشقيقتها في غزة، تعيش حنان حالة ترقب دائمة، خصوصاً أن ما تسمعه خلال الاتصالات المتقطعة والقليلة، يفاقم شعورها بالعجز التام. تقول: "تحدثت مع أمي، كانت تبكي، قالت لي كلنا ننتظر الموت، وقالت لي لا أحد معنا، كل العالم مع إسرائيل، الله وحده معنا". "في الحروب السابقة كان هناك بعض المناطق في غزة التي يمكن الاحتماء بها، الآن لا يوجد أي مكان آمن. أختي قالت لي أنها رأت جثثاً أمام البيت"، تخبرنا حنان. على الرغم من أن حنان عاشت حربين في غزة، لكن هذه المرة مختلفة عن كل مرة، كما تقول، وما يعزز من اضطرابها، شعور يتملكها "بالخجل"، كما تصفه، وربما يكون أقرب إلى الذنب الذي يطال الناجين من الكوارث والحروب. تقول: "تصلني رسالة من أختي خلال العمل، لا أستطيع أن أردّ فوراً، فأنتظر فترة الاستراحة. أشعر أني أخطأت، وأن فرصة الحكي معها راحت". AFP متظاهرة تحمل علم فلسطين في فرنسا خلال تظاهرة يوم 11 أكتوبر/ تشرين الثاني "هذه المرة غير كل مرة" إن كنت فلسطينياً من أهل غزة تعيش في الخارج، ستقضي الساعات بانتظار تحقّق أمنية صغيرة وبسيطة جداً، لكنها بالنسبة لك مسألة حياة أو موت: أن تظهر أمامك إشارتا الصحّ في مربع الرسائل على واتسآب، وتعرف أن كلماتك وصلت إلى أهلك المحاصرين تحت القصف. وصول الرسالة يعني أن الهاتف متصل بالإنترنت، وأن الأهل تمكنوا من شحنه، أي أن التيار الكهربائي وصلهم ولو لبضع ساعات. ولكن، بعد وصول الرسالة، تأتي مرحلة أخرى من التوتر: انتظار الردّ. "بستنى. هما بالبيت أو أخلوا البيت، كل الخيارات متاحة (في رأسي) حتى يردوا"، يقول صالح المقيم في فرنسا، في اتصال عبر الهاتف. يخبرنا: "بعد حياة طويلة في غزة، هذه المرة الأولى التي تفكر فيها عائلتي بترك البيت، رغم أننا شهدنا كل الحروب السابقة. أمي، أبي، اخوتي، وأولاد اخوتي، كلهم هناك. حين يسمعون صوت القصف ينزلون للاحتماء تحت الدرج مع باقي سكان العمارة". اختبر صالح مع أهله كل تبعات الحصار على غزة منذ عام 2007، وشهد كلّ الحروب السابقة حتى عام 2017، وهو العام الذي سافر فيه إلى فرنسا. ولكنه يقول إن "هذه المرة غير كل مرة". في الحروب السابقة "كان هناك حد أدنى من ساعات الكهرباء، وكميات متاحة من الوقود والمواد الغذائية المسموح بإدخالها، وهذا ما لم يعد وارداً الآن". صالح اسم مستعار، للشاب العشريني الذي يقول إنه يفضل عدم الكشف عن هويته الكاملة، خشية تعرضه لتبعات إعلان أي موقف مرتبط بالحدث الفلسطيني، مع اتخاذ السلطات الفرنسية سلسلة إجراءات كان آخرها حظر المظاهرات المؤيدة لفلسطين. صالح من قلب مدينة غزة، وهي منطقة كانت أقل تضرراً من مناطق حدودية أخرى، مثل رفح، وخان يونس، في الحروب السابقة. هذه المرة، يفتح فايسبوك، ليجد منشورات النعي تظهر تباعاً، ويرى وجوهاً وأسماء يعرفها بين القتلى الذين يسقطون على مدار الساعة، بسبب القصف الإسرائيلي. يقول: "أشاهد مباشرة على شاشة التلفزيون التدمير، وكيف تتغير معالم المدينة أمام أعيننا. رأيت الدمار الذي لحق بحي الجامعات حيث كنت أدرس. في كل مكان يقصف لدينا ذكرى. دمّروا أيضاً حي الرمال وهو مركز المدينة، ويضم مكاتب وشركات ومبان سكنية، والآن مُحي بالكامل. هذا الحي هو المكان الذي تقصده في غزة إن كان في جيبتك بعض المال، لتروّح عن نفسك أو تتناول البوظة". " لا مكان آمن في غزة كلها" تقيم سجى عليان في الإمارات منذ أربع سنوات، هي أيضاً شهدت كل الحروب السابقة مع أهلها في غزة. "نزلت إلى غزة قبل شهرين، زرت كل أقاربي، وذهبت إلى كل الأماكن والمطاعم، والآن، حين أشاهد تسجيلات الدمار خلال الأيام السابقة، لا أستطيع التعرّف على أي شارع"، تخبرنا. "أثبّت الفيديو على علامات الشوارع والمتاجر، أبحث عن أسماء محلات أعرفها، لأستطيع أن أميز إن كان ما أراه في حي الرمال أو حي الزيتون، فلا أستطيع"، تقول. حين تمكنت سجى من الاتصال بأهلها عبر الهاتف، وجدتهم يستعدون لإخلاء المنزل. "كل أقاربي أخلوا بيوتهم أيضاً، وذهبوا للإقامة عند أقارب آخرين. وحين أتصل بهؤلاء الأقارب للاطمئنان، أجد أن الجميع يخلون المكان من جديد للذهاب إلى وجهة ثالثة. لا مكان آمن في غزة كلها". يتصل زملاء سجى في العمل بها وكلهم من جنسيات عربية، للاطمئنان عليها، وعلى أهلها. لكن ذلك لا يمكن أن يخفف من وطأة الرعب. "سمعت صوت طائرات مدنية، جفلت في مكاني، وأقفلت أذناي، ثم تذكرت أنني هنا ولست هناك". "لو المعبر مفتوح أحمل حالي وارجع" في برلين، تختبر فداء العزايزة مشاعر مماثلة. "حين أرى الصور، أشعر أني أريد أن أبكي. مش بكاء، عويل. لا أعرف أي شيء من ملامح المدينة التي تركتها عام 2016. كل الأسواق، كل المقاهي على شارع البحر، دمرت، كأنهم يريدون تدمير كل شيء، كأنها رسالة لنا بأنهم سيمحوننا ويمحون كل شيء". عائلة فداء موزعة بين غزة وعدد من المدن الأوروبية، ولا أحد من المقيمين في الخارج ينام. تخبرنا: "قسمنا بعضنا البعض إلى ورديات، ونسهر كل الليل. ابن أختي وابنتها، 5 سنوات و11 سنة، كانا في زيارة عائلية هناك، وبدأت الحرب، وعلقا. أتصل بابنة أختي كل ساعة، يكفي أن يرن الهاتف، لكي أطمئن قليلاً، أن الهاتف مشحون، وفيه إرسال". تتابع فداء كل صفحات منطقتها بيت حانون على مواقع التواصل، وترى صور الضحايا، وبينهم كثر ممن تعرفهم. تتأكد أن القصف لم يطل الأحياء التي يقيم فيها أقاربها، وتترقب الصور لتتأكد إن كان هناك أطفال بين القتلى أو الجرحى في الأماكن المقصوفة، لكي تتأكد أن ولدي شقيقتها ليسا من بينهم. تقول: "أعيش على انتظار الصح الواحد على واتسآب يصير صحّين". كل أفراد عائلة فداء الممتدة تركوا منازلهم في بيت حانون، وتقول إنهم لا يعرفون إن كانت المنازل لا تزال صامدة أو هدمت. ليس الخوف على الأهل وحده ما يحاصر فداء، بل شعورها بالعجز، وأنها في "بيئة معادية"، كما تقول. تشرح: "لا أستطيع أن أعبر عن مشاعري، أي صوت فلسطيني يتم إخراسه، ويوصم بأنه قاتل للنساء والأطفال، وكأن وجودي غير مرغوب به. كأن أطفال غزة أقل إنسانية، ولا يستحقون التعاطف، وكأننا أضرار جانبية". ذلك يفاقم من شعورها بالغضب والذنب، كما تقول. "أفكر أيعقل أننا هنا خائفون على وظائفنا من الكلمة، والناس في غزة تموت؟ لا أستطيع أن أتخيل ما يشعر به الناس هناك. أفكر طول الوقت، ماذا أنا فاعلة هنا، في هذا المكان؟ لو المعبر مفتوح أحمل حالي وارجع على غزة". AFP متضامنون مع غزة في وقفة شهدتها مدينة ميونخ الألمانية