لا تبخل مدينة ورزازات، جنوب المغرب، على صناع السينما العالمية بأي شيء ... تمنحهم الطبيعة الساحرة و أشعة الشمس ...ومسارح أثرية ...واستوديوهات مجهزة بأحدث المعدات السينمائية بأجور زهيدة ...ولكن هوليود شمال افريقيا لا تتوقف في عطاءها عند هذا الحد بل تقدم لهم أكثر من ذلك...تمنحهم أطفالها بأجور هزيلة ...لاسيما وأنها المدينة التي تصور فيها أفلام بإنتاج ضخم تعالج قصصا تاريخية وإنسانية تترجم معاناة وآمال الانسان ...لكن يجسد أدوارها أطفال يشتغلون في ظروف لا إنسانية ...يتعرضون الى الاستغلال بشتى أنواعه من لدن سماسرة الافلام. إن مشاهد بؤس أطفال السينما في ورزازات برغم من قيمة الأدوار التي شاركوا فيها تدفع الى التساؤل عن كيفية تحول الفن السابع الى وسيلة لاستعبادهم؟ وكيف اصبح الوسطاء وسماسرة الفيلم يستغلون الاطفال ويجردونهم من كرامتهم مقابل لقمة العيش؟
خاصة وأن أغلب الأطفال الذين قابلناهم في قصبة تاوريرت المعروفة بعمل سكانها في السينما هم أبناء لأمهات عازبات دفعهن الفقر والتهميش الذي تعاني منه المدينة الى تشغيل أطفالهن ككومبارس في أفلام عالمية ...يتكبدون الاستغلال ويلتزمون الصمت خوفا من فقدان مورد رزقهم الوحيد، العمل في السينما، ورغم حجم معاناة الأطفال الكبير لايزال الصمت يلف قضية استغلال الأطفال في هوليود شمال افريقيا.
فاطمة الزهراء ضحية السينما
في غضون تجولنا في قصبة تاوريرت التقينا فاطمة الزهراء الحسني طفلة مكنتها ملامحها المعبرة من المشاركة في افلام محلية وأجنبية بأدوار مهمة لكنها لم تسلم من استغلال سماسرة السينما العالمية.
'أشعر بالحزن عندما أسمع صراخ والدتي وأرى دموعها بعد كل فيلم سينمائي أخذ مقابل مشاركتي فيه أجرا أقل"، هكذا تعبر فاطمة الزهراء البالغة الثانية عشرة من العمر عن استياءها من استغلالها من طرف سماسرة الأفلام السينمائية العالمية.
في قصبة تاوريرت الهادئة بمدينة ورزازات وفي منزل ايل لسقوط أشبه بكهف ينتمي الى حقبة العصر الحجري لا يتوفر على أبسط سبل العيش الكريم، تعيش فاطمة الزهراء .. طفلة تعلمت التمثيل قبل تعلمها المشي خلال أداءها لدور في فيلم أجنبي وهي لم تكمل عامها الاول، لا تتذكر اسم الفيلم كما هو حال كومبارس مدينة ورزازات فهم يشتغلون في الأفلام ويجهلون أسماءها ولا يشاهدونها فهوليود افريقيا مدينة بلا قاعة سينمائية .
تحكي فاطمة الزهراء عن استغراب السياح الأجانب من وضعها الاجتماعي فلا أحد يتخيل أن تلك الطفلة التي شاركت في أفلام عالمية مثل: Game of Thrones, Prison Break and King Tut وغيرها من الأفلام تعيش في هذا البؤس.
تتذكر الطفلة بحسرة وحزن الافلام التي تعرضت فيها للاستغلال من طرف الوسطاء مثل: Prison Break الذي شاركت فيه بدور يتضمن حوارا بمقابل لا يتجاوز 250 درهما مغربيا لليوم، تقول فاطمة الزهراء "أحس بالظلم والإهانة، لكن أنا في حاجة ماسة للعمل في الأفلام السينمائية لأني أعشق السينما وأقتات منها".
تعتبر ابنة مدينة ورزازات اقتطاع السماسرة لنصف أجرها اهون عليها من رؤية والدتها تجلس تحت اشعة شمس الحارقة امام مسجد تاوريرت لتتسول ... اغرورقت عيناها بالدموع غير أنها أصرت على رسم ابتسامة حزينة على محياها لتعبر عن ما تكابده قائلة "لم أعد قادرة على رؤية مشهد والدتي تتسول".
وفي الوقت الذي كشفت فاطمة الزهراء عن ما تعانيه من استغلال رفضت نادية والدتها الحديث عن السماسرة متخوفة من أن يتم استبعاد طفلتها من المشاركة في الافلام السينمائية، واكتفت بالقول "ليس جميع الوسطاء يستغلون ابنتي البعض فقط ، ولقد وعدوني بأنهم سيقومون بتعويضها على جميع الأفلام التي حصلت فيها على أجر أقل".
"عبيد" السينما
وليس بعيد عن منزل فاطمة الزهراء بقصبة تاوريت يوجد محل عبد العزيز بويدناين المعروف "ببن لادن" أشهر كومبارس في مدينة ورزازات، التقينا به رفقة ماهر بناني شاب بلغ ثماني عشرة سنة من عمره للتو، اشتغل حين كان طفلا ادوار مهمة في افلام سينمائية من بينها فيلم موسى ووثائقي عن كليوباترا بمقابل لا يتعدى 200 درهما مغربيا لليوم، ولكنه بعد أن تجاوز مرحلة الطفولة تراجع عليه الطلب يقول ماهر :كنت مطلوبا في الأفلام السينمائية حتى أنني لم أكن أجد الوقت لذهاب الى المدرسة"، معتبرا أن عمله في الأفلام كان سببا رئيسيا في تركه لمقاعد الدراسة.
تغيرت نبرة ماهر خلال انتقاله للحديث عن أجواء عمل الأطفال في السينما لقد صارت مشحونة بالأسى وقبل أن يستأنف حديثه تنهد بعمق عائدا بنا الى طفولته بعينين دامعتين قائلا : "نعامل أسوء من العبيد ونشتغل من ساعة الرابعة صباحا حتى منتصف الليل ..نهان ونشتم ومن يعترض يمنع من الاشتغال في أي فيلم أخر ...كما أنهم يمنعوننا من الاقتراب من المخرج ومساعديه، فهم يخشون من أن نكشف حقيقة تحايلهم وتزويرهم لعقود العمل عبر وضع أجر 250 درهما مغربيا عوضا عن 500 درهم للكومبارس".
وألمح بويدناين الى أن سماسرة الفيلم يستغلون أطفال الامهات العازبات لأنهن لا يطالبن بحقهن ويقبلن بأي أجر يدفع لهن "فهن نساء مغلوبات على أمرهن، كما هو وضع والدة ماهر ونادية أم فاطمة الزهراء"، على حد تعبيره.
رافقني بويدناين الى منزل مليكة، أم عازبة لخمسة أطفال شغلتهم جميعهم في الأفلام السينمائية مثل Killing Jesus وأفلام أخرى لا تتذكر اسماءها، تعيش العائلة في فقر مدقع بقصبة تاوريرت، ومشاركة أطفالها في أفلام عالمية هي وسيلتها الوحيدة لكسب لقمة العيش غير أن ثلاثة من أطفالها تركوا مقاعد الدراسة بسبب العمل في السينما، ما دفعنا الى تساؤل عن كيف ساهمت الأفلام السينمائية في تنامي ظاهرة قطع التعليم المدرسي؟
ارتفاع نسب قطع التعليم المدرسي
أشار عزالدين تاستيفت باحث ورئيس النسيج الجمعوي للتنمية بمدينة ورزازات إلى أن أكبر نسب ظاهرة الانقطاع المدرسي سجلت في قصبة تاورويرت المعروفة بإيوائها لفئات كثيرة من الكومبارس من أبناء المدينة أو المهاجرين من مناطق و مدن أخرى للعمل في هذا المجال معتبرا أن مسألة تشغيل الأطفال ككومبارس تساهم في تنامي ظاهرة قطع التعليم المدرسي.
وحسب المعطيات الرقمية للمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتكوين المهني بورزازات للموسم الدراسي 2016/2017 ، بخصوص قطع التعليم المدرسي في قصبة تاوريرت فان النسبة بلغت 30 بالمائة من أصل 420 حالة بالمستوى الثانوي، في حين سجل المستوى الاعدادي 44 بالمائة من أصل 653 حالة، ووصلت النسبة في المستوى الابتدائي 62 بالمائة ومن أصل 66 حالة.
أما بخصوص الإجراءات المتخذة للحد من هذه الظاهرة أوضح تاستيفت أنها لا تتجاوز توجيه الآباء وأولياء أمور الأطفال، وتذكيرهم بحقوق الطفل، وهشاشة الشغل بالسينما وتداعياته على الأطفال بالنظر لساعات العمل الطويلة.
غياب الرقابة
ومن جهته، دعا الخبير القانوني محمد الحسنى الإدريسي الى ضرورة تفعيل مقتضيات قانون الشغل الذي يشدد على منع تشغيل الأطفال وحمايتهم ومنع الحط من كرامتهم عبر منحهم معاملة انسانية مشيرا الى أن القانون لوحده لا يكفي بدون تدخل مؤسسات المجال الفني منها المركز السينمائي ووزارة الثقافة ومؤسسات أخرى لوقف الاستغلال الذي يتعرض له الأطفال الذين يعملون كومبارس. واعتبر الإدريسي أنه من الطبيعي استغلال هؤلاء الأطفال وتشغيلهم في ظروف لا إنسانية في ظل غياب تفعيل قانون الشغل، وحسب الإدريسي، فأنه من حق كل متضرر اللجوء الى قانون للمطالبة بتعويضات .
لكن عائلات الاطفال تتخوف من المطالبة بحقوقها لأن ذلك سيكلفها فقدان مصدر رزقها الوحيد السينما. لكن فاطمة الزهراء اختارت أن تواجه الاستغلال بالقول "أحلم في أن أكون مخرجة عالمية لأني أريد أن أخبر الجميع عن معاناة الأطفال في قصبة تاوريرت"، بينما يطمح ماهر في تجسيد دور مهم في فيلم اجنبي وان ينجح في الوصول الى العالمية، في حين تحلم مليكة وأطفالها بتوفير لقمة العيش.