جيل مضى يعرف الصديق معنينو كنجم تلفزيوني في زمن ولادة التلفزيون المغربي، ولما كان هذا الجهاز يدخل كل بيوت المغاربة في سنوات الصراع السياسي، فإن الصحافي فيه تحول إلى شاهد قريب جدا من قلب صنع القرار في البلاد، وهكذا كان معنينو قريبا من الحسن الثاني في محطات مفصلية من تاريخ المغرب، وكان الملك يعتبر التلفزة سلاحه الخاص للانتصار لسياساته ضد المعارضة اليسارية التي كان سلاحها هو الصحافة المكتوبة. في هذا الحوار المطول، الذي ننشره عبر حلقات، يقربنا الصديق معنينو، الذي وصل إلى منصب مدير الإعلام والكاتب العام لوزارة الإعلام على عهد ادريس البصري، من أجواء الماضي التي ماتزال ترخي بظلالها على الحاضر، ويطوف بنا على الأجزاء الأربعة من مذكراته "أيام زمان". شي حاجة خايبة دازت في التلفزيون!!
رن هاتف منزلي بعد منتصف الليل، كان صوت المدير العام للإذاعة والتلفزة مبحوحا، قال لي...» أرجوك أن تلتحق بي فورا في التلفزة»، قلت له» ياك لاباس؟»، رد متثاقلا: «شي حاجة خايبة دازت في التلفزة».
وأنا في طريقي كنت ألعن هذه المهنة ومشاكلها راجيا أن تتغير الأمور، عند وصولي بادرني المدير العام بالقول...» لقد كلمني الوزير سي أحمد غاضبا، وأخبرني أن شيئا خطيرا مر على شاشة التلفزة، وطلب مني أن أراقب المواد التي تم بثها وأن أحيطه علما عندما أعثر على الخطأ!!».واضاف بأن الوزير طلب منه أن يكلمه في أية ساعة عثر فيها على هذه «المصيبة»، وهدده بأن العقاب سيكون صاعقا.
قلت لاشك أن الأمر يتعلق بالأخبار ومراجعة النصوص التي تمت قراءتها، وخلصت إلى أنه ليست هناك «مصيبة» في الأخبار...شاع الخبر وأخذ عدد من العاملين يتقاطرون على التلفزة، لذلك قررنا توزيع الأدوار، فالمدير سيشاهد الشريط المطول وآخرون سيراقبون المنوعات، وأنا سأشاهد المواد الأخرى انطلاقا من القرآن إلى القرآن، أي من بداية الإرسال إلى نهايته.
قضينا عدة ساعات في المشاهدة محاولين العثور على « المصيبة»، وعندما انتهينا أبلغ المدير العام الوزير بأننا لم نعثر على أي خطأ، رد الوزير بعنف وبلغة تنقصها أدنى قواعد الاحترام... كان متأثرا ومنفعلا، لذلك جدد تعليماته للمدير العام بمراجعة كافة المواد ومشاهدتها شخصيا والاستعانة بكافة مساعديه.
غادر المدير العام مكتبه في حالة إرهاق، بعد ليلة كاملة من المشاهدة، ومع ذلك وجد الكلمات المناسبة لدعوتنا لإعادة مراقبة كافة المواد مع الانتباه إلى أدنى التفاصيل، وأضاف: «الوزير في حالة من التوتر والقلق وكأن الأمر يتعلق بخطأ جسيم».
أنهينا الليلة الثانية في الغرفة الضيقة للتلفزة، لقد ارتفع عددنا بعد أن تطوعت مجموعة من الصحافيين والعاملين في الإنتاج لمساعدتنا نظرا لوصولنا إلى الباب المسدود، كانت المرة الرابعة التي نشاهد فيها هذه البرامج، ونحاول العثور على» الخطأ القاتل» الذي تسبب لنا في كل هذه المتاعب... وفجأة أخبرنا الوزير أنه سيحضر شخصيا إلى التلفزة في الحادية عشرة صباحا.
دخل الوزير وسأل عن قاعة المونطاج، وسأل عن شريط الأخبار، أجابه العربي الصقلي، مدير الأخبار، بأنه شاهده شخصيا وتأكد من خلوه من أي خطأ، لكن الوزير ألح في طلبه، فقام عبد الحق عزيزي بتركيبه على طاولة المونطاج المتهالكة، لكن الوزير أوقفه متسائلا..» إذا أردت التوقف عند لقطة، فعلى أي زر أضغط؟»، أجابه»عبد الحق:» على الزر الأزرق»، وبدأت اللقطات تمر تباعا، وكنا نحن»أصحاب الأخبار» في ضيق شديد.
فجأة ضغط الوزير على « الزر الأزرق»، فتوقف الشريط وبقيت مبثوثة صورة رجل، صاح الوزير:» من هو هذا الشخص؟» كان العربي الصقلي أول من انحنى وعاين الصورة، ثم تبعه الطاهر بلعربي، ثم جاء دوري، ولم يستطع أحدنا التعرف على ذلك الشخص.
كان الشريط القصير الذي تم تمريره في نشرة الأخبار يتعلق بمحاكمة تجري وقائعها في « جنيف»، ويتعلق الأمر ببعض الفلسطينيين المتهمين بأعمال «إرهابية». كان الفصل شتويا، لذلك ظهر» صاحب الصورة» وقد ارتدى معطفا طويلا وعلى رأسه قبعة روسية الصنع وهو يغادر المحكمة ويركب سيارة، كانت اللقطة قد أخذت ليلا، وكان واضحا أن الأمطار تتهاطل، مما ضاعف من صعوبة التعرف على ذلك الشخص. كرر الوزير بصوت مرتفع فيه لوم وعتاب» من هو هذا الشخص؟ ألم تتعرفوا عليه؟ إنه عبد الرحمان اليوسفي، ألم تعد لكم عيون؟ ألم تتعرفوا على هذا المجرم، أنتم غير جديرين بالمسؤولية»
اتخذ الوزير فور عودته إلى مكتبه مجموعة قرارات، أولها توقيف مؤقت لمدير الأخبار العربي الصقلي، كما أوقفني بدوري لمدة شهر دون راتب، مع تدوين «توبيخ» في ملفي الإداري.
كان اليوسفي محاميا أمام محكمة سويسرية للدفاع عن متهمين فلسطينيين، ولم نكن نعلم بذلك.