جيل مضى يعرف الصديق معنينو كنجم تلفزيوني في زمن ولادة التلفزيون المغربي، ولما كان هذا الجهاز يدخل كل بيوت المغاربة في سنوات الصراع السياسي، فإن الصحافي فيه تحول إلى شاهد قريب جدا من قلب صنع القرار في البلاد، وهكذا كان معنينو قريبا من الحسن الثاني في محطات مفصلية من تاريخ المغرب، وكان الملك يعتبر التلفزة سلاحه الخاص للانتصار لسياساته ضد المعارضة اليسارية التي كان سلاحها هو الصحافة المكتوبة. في هذا الحوار المطول، الذي ننشره عبر حلقات، يقربنا الصديق معنينو، الذي وصل إلى منصب مدير الإعلام والكاتب العام لوزارة الإعلام على عهد ادريس البصري، من أجواء الماضي التي ماتزال ترخي بظلالها على الحاضر، ويطوف بنا على الأجزاء الأربعة من مذكراته "أيام زمان".
حينما صرخ الملك بلباس النوم في وجه التقنيين الفرنسيين داخل القصر
قرر المدير العام للتلفزة الطيب بالعربي بث خطاب العرش بالألوان، ولهذه الغاية اتصل بالتلفزة الفرنسية، واكتفى منها بعربة تلفزية بالألوان لتصوير الخطاب والاحتفالات المرافقة لعيد العرش. كان الملك مقيما في فاس، حيث قرر أن يلقي خطابه من هناك، كما قرر أن تجرى كافة التظاهرات والاحتفالات بالعاصمة العلمية.
توجه الطيب بلعربي إلى فاس، على رأس وفد ضخم من العاملين في الإذاعة والتلفزة، لتغطية الحفلات الكبيرة التي كانت تستعد لإحيائها .كانت إرادة المدير العام أن تكون تلك الاحتفالات مناسبة لإبراز دور التلفزة، خاصة وأن الإرسال سيكون بالألوان، معتبرا ذلك قفزة نوعية لتطوير التقنيات الخاصة بالتصوير والإرسال.
وصلت الوسائل الفرنسية للنقل التلفزي إلى طنجة، ومن ثم توجهت إلى فاس، كانت القافلة تتكون بالإضافة إلى عربة التسجيل من عربتين إضافيتين وطاقم غفير من التقنيين والمصورين والمساعدين.
كنت في فاس ضمن الفريق المكلف بالتغطية التلفزية، أتذكر أنني وصلت يومين قبل الخطاب، وكلفت بمرافقة الفريق الفرنسي إلى القصر الملكي لمعاينة المكان وتحديد الاحتياجات....
كان الحسن الثاني على علم بمبادرة التلفزة، ولا شك أنه كان وراءها، لذلك أعطى تعليماته لتسهيل مأمورية التقنيين الفرنسيين. كانت الخطب الملكية دائماً مصدر قلق دائم بالنسبة لإدارة التلفزة وتقنييها، لكن خطاب العرش كان أكثر حساسية، لأنه الخطاب الوحيد المسجل والذي كان الحسن يتحمل قراءته، وما عداه من الخطب كان مرتجلا.
داخل القصر الملكي بفاس، وبالمكان المعروف ب «دار الفاسية»، اختار الحسن الثاني تسجيل خطاب العرش، كان ذلك وسط باحة تلك الدار، حيث توجد كما هو الشأن في الدور المغربية القديمة نافورة ماء مصنوعة من المرمر الأبيض، إلى جانبها وضع مكتب خشبي، فريد المنظر، ودقيق الصناعة، وكرسي متحرك، هناك يجلس الملك ليوجه الخطاب. قبالة المكتب طاولة صغيرة عليها جهاز التلفزة، ألف الحسن الثاني وضعه أمامه في كل خطبه، إذ عبره كان يتابع الصورة ويراقبها.
بادر المخرج الفرنسي إلى إصدار تعليماته إلى « قائد المشور» قائلا: لا بد من إزالة الطاولة والتلفاز، ولا بد من اقتلاع النافورة».
شعرت فورا أن خطاب فاس سيدخل ذاكرتي، وأننا مقبلون على غضبة ملكية عارمة، لذلك ابتعدت إلى ركن الدار مختفيا عن الأنظار، بعد حين وصل عامل وبيده مطرقة وقطعة حديد، أخذ في ضرب القاعدة الرخامية للنافورة بهدف إزالتها، انطلقت الضربات ورددت جدران القصر صداها العنيف.
فجأة أطل الملك من « دربوز» الطابق الأول. صاح الحسن الثاني غاضبا: ماذا تفعلون؟ ماذا تفعلون؟ أوقفوا هذا العبث، هل أنتم واعون ؟ فورا، فورا، أوقفوا هذا الصداع...!»تسمرنا في أماكننا، وانتابنا خوف شديد، فلأول مرة شاهدت الملك في لباس النوم يصيح بأعلى صوته مصدرا أوامره.
ظلت الحركة متوقفة، فر العامل المكلف بالحفر، واكفهر الجو وساد الصمت، وبعد حوالي نصف ساعة من الترقب أرجعت الطاولة والتلفاز إلى مكانهما، وتابع التقنيون الفرنسيون استعداداتهم مع اتخاذ كافة الاحتياطات بعدم الإزعاج.
في الساعة المحددة للتسجيل وصل الحسن الثاني، وطلب فنجان قهوة، وأشعل سيجارة، وراح في حديث مع بعض مساعديه، تقدم المخرج الفرنسي للسلام عليه، وجدد طلبه بإزالة التلفاز، فأجابه الملك بصرامة: قم بعملك، وأنا أقوم بعملي، والتلفاز يظل في مكانه». تراجع المخرج مرددا « نعم صاحب الجلالة.»