* محمد كريم بوخصاص لم يعد ارتفاع أسعار المحروقات في المغرب قصة خبرية مع توالي مسلسل الأرقام الفلكية، فقد أصبح الأمر مألوفا لدى المغاربة الذين لم يعودوا منذ مدة يحصون ما في جيوبهم من فرط أزمة ارتفاع الأسعار بشكل عام. لكن خيوطا تداخلت في ما بينها خلال الأيام الماضية تجعل من هذا الموضوع قصة مكتملة العناصر، وهو ما نسرده في هذه الزاوية.
«تكلفة تنقلي بسيارتي الخاصة إلى مقر العمل أصبحت لا تُطَاق، اللهم إن هذا منكر!». بنبرة المنهزمين وبنظرات لا ترتسم إلا في أعين الخائبين تحدثت «سناء. م» (28 سنة) الأستاذة المتعاقدة بإحدى الثانويات التابعة لمديرية سيدي سليمان والمقيمة في مدينة القنيطرة البعيدة ب35 كيلومترا، عن قصة احتراقها بلهيب أسعار المحروقات، قبل أن تَندب حظها العاثر الذي قادها مطلع الموسم الدراسي الحالي إلى الاستقرار في عاصمة الغرب بدل المنطقة التي تعمل بها، معولة على السيارة الجديدة التي اقتنتها بقرض بنكي، لتجد نفسها أخيرا تدفع نفس مبلغ أقساط القرض في محطات الوقود.
مع بداية يونيو، اضطرت «سناء» إلى رَكنِ سيارتها أمام منزلها وخوض غمار سباق يومي مع الزمن للوصول إلى مقر عملها في الوقت المحدد، عابرة ثلاث محطات تبدأ بسيارة الأجرة الصغيرة التي تنقلها من محل سكناها إلى المحطة، وتستمر بانتظار امتلاء سيارة الأجرة الكبيرة، وتنتهي بإيجاد مقعد شاغر في سيارة أجرة كبيرة ثانية تقف في انتظارها بمفترق طرقي، وكل ذلك بغرض تخفيض كلفة تنقلها اليومي في سيارتها الخاصة التي أصبحت اليوم مع موجة الارتفاعات الصاروخية في أسعار المحروقات 100 درهم بدل خمسين أو ستين درهم في السابق.
لم تتوقف «سناء» طيلة سردها قصتها عن كَيلِ التُّهم للحكومة، فهي في نظرها «عاجزة ومتفرجة»، تُشبِه وضعيتها في الشهرين الماضيين، حين كانت تقف كالبكماء والصماء أمام أجرتها التي لا تتجاوز 5200 درهم يلتهم منها الغازوال 2000 درهم تنضاف إلى 2100 درهم مبلغ القسط الشهري المقتطع من حسابها لأجل قرض السيارة، ليبقى مدخولها الشهري في الواقع 1100 درهم !!
ليس حال «أحمد. ك» (46 سنة) بأفضل حالا من «سناء» رغم أنه يسكن القلب النابض للمملكة، إذ يضطر هو الآخر إلى ركن سيارته في مرآب العمارة التي يسكنها في حي سيدي عثمان وتَحَمُّلِ ضغط المواصلات للوصول إلى مقر عمله في «طماريس»، بدل جعل جيبه مستباحا من طرف محطات الوقود التي قد تُكَبده 3000 درهم شهريا.
قصتا «سناء» و»أحمد» يعيشها آلاف المغاربة ممن أرهقتهم كلفة التنقل في سياراتهم الخاصة هذه الأيام، ووجدوا أنفسهم تحت رحمة شركات لا أحد يُرَاقب هامش ربحها، وأمام حكومة تُجِيدُ تقمص دور المتفرج بإتقان، ومجلس منافسة منسحب من المشهد خوفا من حريق الغازوال والبنزين.
الحكومة في قفص الاتهام
منذ أسابيع مضت، تستمر أسعار المحروقات في تحطيم أرقام قياسية، حتى بلغ سعر البنزين 18 درهما للتر الواحد وسعر الغازوال 16 درهما وكلاهما مرشحان للارتفاع على وقع طلقات الحرب الروسية الأوكرانية، دون أن يَرِفَّ للحكومة جَفنٌ أو يدفعها ذلك إلى التفكير في مسألة دعم الأسعار، بل إنها بدت حازمة في هذه المسألة، حين أعلنت وزيرة «خزائن الدار» نادية فتاح العلوي أمام نواب الأمة عن أن «الحكومة لن تدعم أسعار المحروقات في ظل ارتفاعها».
وحتى حين أنصتت بإمعان إلى مرافعات النواب في جلسة الأسئلة الشفوية، رمت بكرة لا تُرَّدُّ: «ميزانية المغرب لا تسمح بدعم المحروقات»، فحملت بين كلماتها جوابا غير معلن لعشاق المقارنة: ميزانية المغرب هي التي لا تسمح وليست ميزانية فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا أو غيرها من الدول التي اتخذت حزمة إجراءات لدعم القدرة الشرائية لمواطنيها.
لا يَعقد كثيرون الأمل على عودة الحكومة إلى دعم أسعار المحروقات عبر صندوق المقاصة، المعمول به قبل 2015، قبل تحريره في عهد رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله ابن كيران، بما في ذلك النائب البرلماني وصاحب الرقم القياسي في عدد أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية الأخيرة البامي هشام المهاجري، الذي اعتبر في تصريح ل»الأيام»، أن «العودة إلى دعم المقاصة سَيُهلك البلاد كاملة!»، وتابع موضحا: «لا حل سوى دعم النقل العمومي ونقل البضائع، وإعادة النظر في التشريعات المرتبطة بالنقل، من أجل التقليل من استهلاك المواطنين للغازوال في المملكة غير المنتجة للطاقة».
وإلى حدود اليوم، لم يخرج نطاق تدخل الحكومة عن دعم قطاع النقل باعتباره «أول مستهلك للمحروقات ولديه أثر على جميع المنتجات الأخرى»، إذ شمل 180 ألف عربة بميزانية 80 مليون درهم، بحسب وزيرة الاقتصاد، لكن عبد الله بووانو رئيس مجموعة العدالة والتنمية في مجلس النواب لم يَرُقه ذلك، واعتبر في تصريح ل«الأيام»، أن «تدبير الحكومة لملف أسعار المحروقات تنقصه الجدية والمسؤولية، وأن إجراء دعم العربات غير كاف لمعالجة هذه القنبلة».
لطالما اتهمت الحكومة منذ بدء المسار التصاعدي لأسعار المحروقات ب»التقصير»، ليس من جانب «بووانو» وحده، غير أن الوزيرة فتاح العلوي كانت حريصة خلال جلسة الأسئلة الشفوية على تقديم «صكوك الغفران» للحكومة التي يقودها حزبها، بعدما عبرت بالقول: «الأزمة عالمية لم يكن لأحد علم بها من قبل (…) كما لا يمكن التنبؤ بتداعيات الحرب في أوكرانيا (…) والفرضيات التي اعتمدتها الحكومة في قانون المالية كانت بناء على ظرفية عادية لا ظرفية أزمة».
لم يخفِ بووانو دهشته من كلام الوزيرة، ومضى مستنكرا ما سماها «عجز الحكومة» عن وضع سيناريوهات للتعامل مع مستقبل الأزمة الروسية الأوكرانية، قبل أن يضيف بنبرة أعلى قليلا: «لا يمكن للدولة أن تبقى رهينة لغياب التصور أو رهينة للوبي المحروقات».
«سِجال» الحلول !
في خضم تلويح العديد من الأيادي لحكومة عزيز أخنوش في موضوع ارتفاع أسعار المحروقات، ينبري المعسكر المدافع عنها متسائلا: «هل بيد الحكومة إجراءات يمكن القيام بها لتخفيف الأسعار؟».
«بووانو» كما آخرين يرمون مباشرة عند سؤالهم بكرة «تخفيض ضريبة الدخل على الاستهلاك» التي تبلغ درهمين و42 سنتيما، والتي تصل عائداتها وفق تقديرات غير رسمية – إلى 30 مليار درهم في السنة، لكن البعض يرفض هذا الخيار، وعلى رأسهم «هشام المهاجري» لأن «الضريبة المذكورة غير مرتبطة بالسعر بل بالحجم، ولأن عائداتها توجه لتمويل دعم الدقيق المدعم والسكر».
وفي سنة 2021، بلغ الاستهلاك الوطني للمواد البترولية 11.2 مليون طن، مسجلا ارتفاعا بنسبة 13 في المائة مقارنة مع سنة 2020، حيث تم الرجوع إلى نفس المستوى المسجل سنة 2019، موزعة كالتالي: 55 في المائة من الغازوال و24 في المائة من البوطان و9 في المائة من الفيول و6 في المائة من البنزين و4 في المائة من وقود الطائرات و2 في المائة من البروبان.
ويستمر ارتفاع استهلاك المغاربة للغازوال سنة بعد أخرى، ما يجعل أي ارتفاع لأسعارها كارثة بالنسبة للمواطنين، إذ انتقل حجم الاستهلاك من 48 في المائة سنة 2009 إلى 55 في المائة سنة 2021، بينما بلغ رقم الاستهلاك في شهري يناير-فبراير 2022 من هذه المادة النفطية 958 ألف طن. أما استهلاك البنزين خلال نفس الشهرين فسجل 109 آلاف طن.
أمام هذه الموجة التصاعدية في استهلاك الغازوال والبنزين، لم يُخفِ «المهاجري» حتى وهو يرفض مقترح تخفيض ضريبة استهلاك المحروقات تخوفه من المستقبل، حين قال: «إذا استمرت الأزمة وزاد التضخم فيجب إعادة النظر في السياسة النقدية ولم لا تحرير الدرهم».
لا يظهر أن مثل هذا الخيار يمكن تحقيقه، خاصة أن والي بنك المغرب حاسم في هذه المسألة وأعلن قبل أكثر من شهر توقيف المرحلة الثالثة من تحرير سعر الدرهم، لكن «المهاجري» رد على ذلك بالقول: «في شأن الجواهري.. إنه رجل محافظ!».
وفي خضم ذلك، تكثر الاقتراحات مؤخرا بشأن ما يمكن فعله لتخفيف وطأة ارتفاع أسعار المحروقات على جيوب «سناء» و«أحمد» وغيرهما من المواطنين التي تأثرت بفعل كورونا وارتفاع أسعار المواد الأساسية، ومنها ما ذكره «بووانو» بشأن تخفيض الرسوم الجمركية على المحروقات، خاصة أن الحكومة برأيه – لجأت في 2 يونيو الجاري إلى وقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على البذور الزيتية والزيوت الهام بمرسوم فقط ودون اللجوء إلى قانون مالية تعديلي.
ضوء في النفق !
رغم أن الجميع يرمي بمقترحات حلول للحكومة «الصامتة»، يبقى أهم حل ينتظره المغاربة بإلحاح هو تدخل مجلس المنافسة لمراقبة احترام شركات المحروقات لحرية الأسعار والمنافسة، خاصة في ظل تقارير تتحدث عن جنيها أرباح «فاحشة» منذ تحرير السوق في 2015 والمقدرة بأزيد من 38 مليار درهم، علما أن هذا المجلس الذي يرأسه أحمد رحّو أعلن منذ البداية عدم اقترابه من هذا الموضوع إلى حين تعديل ترسانته القانونية، والتي كانت موضوع أمر ملكي صدر لرئيس الحكومة السابق في أبريل 2021.
وفي 24 مارس الماضي، تهلل المغاربة بِشرا بعد مصادقة المجلس الحكومي على مشروعي قانونين يقضيان بتغيير وتتميم القانونين المتعلقين بحرية الأسعار والمنافسة ومجلس المنافسة، لكن المفاجأة التي توصلت إليها «الأيام» أن هذين المشروعين لم يبرحا مكانهما بَعدُ رغم مرور أزيد من شهرين ولم تتم إحالتهما إلى البرلمان، والسبب أن الحكومة صادقت عليهما مع تسجيل ملاحظات عليهما دون أن تذكر ذلك في بلاغ اجتماعها – وأناطت بلجنة مشكلة من بعض الوزراء تحت رئاسة رئيس الحكومة مهمة تدقيق الملاحظات والتصويبات، لكن لا يُعرف متى سينتهي عملها.
في ظل هذا الوضع، لا أحد غير الوزراء اطلع على مشروعي القانونين الذين فرضت عليهما «سرية تامة»، ولا يتوفر أحد على النسخة الأولية المصادق عليها، كما أورد مصدرنا.
وفي انتظار تجاوز حالة التأخر غير المبرر في دفع مشروعي قانوني المنافسة وحرية الأسعار لاستكمال مسطرة التصديق عليهما لإخراج مجلس المنافسة من حالة التكبيل الذاتية والطوعية «غير المفهومة»، حصل تطور نوعي قبل أيام يبعث على التفاؤل لحلحلة الوضع، وهو إعلان مجلس المنافسة اتخاذ المبادرة للإدلاء برأي في موضوع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام والمواد الأولية في السوق العالمية، وتداعياته على السير التنافسي للأسواق الوطنية، ومن ضمن المواد ال13 التي ستشكل موضوع رأي المجلس «الغازوال» و«البنزين».
"التأمين" الذي وقعه أخنوش في السابق ويرفضه اليوم
لماذا لم تلجأ الحكومة إلى خيار العمل بنظام «التأمين» دوليا لمواجهة ارتفاع أسعار المحروقات بالسوق المحلية، لاسيما وسط استياء مهنيي النقل بكل أصنافهم جراء الزيادات الصاروخية للأسعار وتضرر القدرة الشرائية للمواطنين بشكل مهول؟
لا يوجد تفسير مقنع لإحجام الحكومة عن اتخاذ هذا القرار، والذي سبق أن لجأت إليه حكومة عبد الإله ابن كيران في 2013 حين كانت أسعار النفط في السوق الدولية تلامس 100 دولار لمواجهة أسوأ السيناريوهات.
وما لا يعرفه كثيرون أن الوزير الذي وقع على قرار التأمين المذكور في 12 شتنبر 2013 تحديدا لم يكن سوى عزيز أخنوش رئيس الحكومة الحالي الذي كان يتولى تدبير وزارة الاقتصاد المالية في الفترة التي انسحب فيها حزب الاستقلال بقيادة أمينه العام أنذاك حميد شباط من الحكومة، وكان وقتها نزار بركة، هو من يشغل منصب وزير المالية قبل استقالته.
وفي ظل عدم تفاعل رئيس الحكومة مع هذا الخيار الذي قد يكون عمليا لإيقاف الارتفاع الصاروخي للأسعار محليا، ترتفع الأصوات المطالبة بالتأمين على المحروقات في حالة تجاوز النفط الخام لحاجز 120 أو 130 دولارا للبرميل الواحد والذي يكاد يقترب منه، ما قد يجعل أسعار اللتر الواحد من الغازوال والبنزين تتجاوز حاجز العشرين درهما.
في انتظار الصيغة النهائية: ملامح التعديلات في قوانين المنافسة
رغم عدم الحسم في صيغتهما النهائية التي ستحال على البرلمان للبت فيها، بعد المصادقة عليهما قبل إدخال تعديلات الوزراء، فإن الحكومة سبق أن قدمت لمحة عن مشروعي القانونين القاضيين بتغيير وتتميم القانونين المتعلقين بحرية الأسعار والمنافسة ومجلس المنافسة واللذين قدمتهما وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي.
ويروم مشروع القانون الأول رقم 40.21 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، إدخال مجموعة من التغييرات على القانون رقم 104.12، تتمثل في تدقيق الجوانب المتعلقة بمسطرة قبول أو عدم قبول مجلس المنافسة للإحالات المتعلقة بالممارسات المنافية للمنافسة، والمساطر المتعلقة بجلسات الاستماع إلى الأطراف المعنية من لدن مصالح التحقيق لدى المجلس. وينص مشروع القانون ذاته أيضا على إعادة النظر في مسطرة عدم الاعتراض على المؤاخذات المبلغة، باعتبارها مسطرة بديلة للمسطرة التنازعية المعتمدة في البت في الإحالات، وذلك بمنح المقرر العام مجموعة من الاختصاصات في إدارة وتسيير هذه المسطرة، تحت إشراف الهيأة التداولية للمجلس.
وجاء المشروع كذلك بمقتضيات تتعلق بتدقيق قواعد تحديد العقوبات المالية، وتدقيق الأجل الذي يتعين على مجلس المنافسة أن يتخذ قراره فيه بعد الانتهاء من جلسات المناقشة، إضافة إلى تمكين الأطراف المعنية ورئيس المجلس ومندوب الحكومة من إمكانية تقديم طعن في قرار محكمة الاستئناف بالرباط القاضي بتأكيد قرار مجلس المنافسة.
في ما يخص مشروع القانون الثاني الذي حمل رقم 41.21 فإنه يقضي بتغيير وتتميم القانون رقم 20.13 المتعلق بمجلس المنافسة، ويقترح إدخال مجموعة من التغييرات على القانون السابق، أهمها توضيح صلاحيات رئيس المجلس ومختلف الهيئات التقريرية داخله لتفادي أي خلافات حول تداخل للاختصاصات، مع تخويل النظام الداخلي للمجلس توزيع الاختصاصات بين مختلف الهيئات المذكورة.
ومن التغييرات التي جاء بها المشروع أيضا ضبط المقتضيات المتعلقة بالنصاب القانوني للتداول في الهيئات التقريرية، والتنصيص على اقتصار حضور مداولاتها على أعضاء المجلس، والتأكيد على التزام هؤلاء الأعضاء بسرية المداولات والاجتماعات، وتخويل رئيس المجلس صلاحية مراقبة تضارب المصالح في القضايا المتداولة، وإحداث مسطرة تجريح الأعضاء والمقررين.a