ما بين الانتصار في معركة «أنوال» عام 1921 والاستسلام للجيوش الفرنسية عام 1926، مرت خمس سنوات من المد والجزر بين ثوار الريف بقيادة الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي والاستعمار الإسباني الذي لم يتورع عن اللجوء إلى استخدام كل أنواع الأسلحة في مواجهة ثوار أسسوا لما أصبح يعرف اليوم ب«حرب العصابات» التي وضع أسسها الخطابي، والتي تقتضي مفاجأة العدو عبر ضربات خاطفة ثم التواري في المناطق الصعبة للريف خاصة الجبال، وهو نفس الأسلوب الذي اقتبسه منه المجاهد عمر المختار في مواجهة قوات موسوليني بليبيا ومن بعده الزعيم «هو شي منه» في فيتنام خلال خمسينيات القرن الماضي. لم تنفع كل الأساليب التي لجأ إليها المستعمر الإسباني بما فيها قصف الريف بالغازات السامة ك(غاز الخردل) الذي تم تجريبه لأول مرة في هذه المنطقة وكذا رمي القنابل بمناطق تواجد الثوار بواسطة طائرات مختصة، ليتقرر في نهاية المطاف القيام بمحاولة أخيرة بعد استعانة إسبانيا بفرنسا التي لم تتأخر عن إرسال واحد من قادتها العسكريين الذين تألقوا في الحرب العالمية الأولى وهو الماريشال فيليب بيتان، بطل معركة «فيردان»، والذي قاد جيشا يتكون من 500 ألف جندي بغية القضاء على هذه الثورة التي قضت مضجع الإسبان لسنوات.
دخول هذا العدد الكبير من أفراد الجيش إلى الريف وكذا الخلافات التي بدأت تحدث داخل جبهة الخطابي دفعت الأخير في النهاية إلى اتخاذ قرار الاستسلام للقوات الفرنسية (وليس الإسبانية) وهو القرار الذي تنقله بعض الكتابات على أنه جاء «طواعية» حتى يتجنب الوقوع في الأسر، بل هناك روايات ضعيفة تؤكد أنه ركب فرسه واقتحم به ثكنة عسكرية فرنسية، وهي رواية تتناقض مع ما رواه الخطابي نفسه لروجيه ماثيو مراسل جريدة «لوماتان» الفرنسية الذي رافقه في الباخرة التي نقلته إلى مارسيليا في طريقه إلى المنفى والذي أكد من خلالها أنه قرر الاستسلام بعد استشعاره لوقوع خيانات في جبهته الداخلية.
استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي، وإن كانت أغلب الكتابات التي حرصت على تدوين «ملاحم» حرب الريف تصوره بأنه بمثابة استسلام الشجعان، إلا أن كتابات أخرى مغايرة تذهب إلى التأكيد على أن هذا الاستسلام سبقته مفاوضات بين الخطابي وخصومه بغية الحفاظ على حياته وحياة عائلته ومقربيه، رغم ما عرف عن الرجل بكونه كان مستعدا للقتال حتى الموت.
الباحث في مجال التاريخ ومؤلف كتاب «تاريخ المغرب الأقصى» الدكتور امحمد جبرون وفي مقال تحليلي له بعنوان «هل أخطأ الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي في قيادة المقاومة؟» يقول أنه بعيدا عن الملاحم المسطّرة والمتداولة والمتوارثة التي تؤدي بطريقة غير مباشرة إلى تزييف الوعي التاريخي بأن الخطابي «استسلم بعدما أمست مسألة اعتقاله أو قتله مسألة وقت ليس إلا، فلجوؤه إلى زاوية أسندال عند صديقه احميدو الوزاني في بني يطفت، تم بعد أن انهارت قواته في مختلف الجبهات، وما تبقى تحت يديه من رجال المقاومة لم يكن يتيح له أية إمكانية للإفلات من الاعتقال أو الموت، بالنسبة له وللدائرة الصغيرة المحيطة به»، مضيفا أن هذا الضعف نتج عن «استسلام عدد من القبائل، والتحاق عدد من القواد المحليين بالإسبان والفرنسيين، بل والأهم من ذلك بعد انضمام فريق من قبيلة بني ورياغل بزعامة سليمان الخطابي للإسبان». فضلا عن ذلك يرى ذات الباحث أن قيادة الثورة الريفية لم تحقق «أيا من المطالب التي نادت بها، والتي كانت سببا في جمع القبائل والناس عليها، فلا استقلال ذاتي، ولا تام، ولا جمهورية، ولا حماية لثروات الريف.. ولا أي شيء» ليكون فقط التفاوض حول سلامة «الزعيم» وعائلته والمقربين منه وضمان خروج آمن لهم هو الهدف بعد أن تأكد الخطابي من استحالة استمرارية الحرب أو المقاومة في ظل الحشد الكبير من الجنود الذين تم حشدهم من طرف القوتين الاستعماريتين إسبانيا وفرنسا.
ويذهب المتحدث ذاته في هذا المقال إلى أن الأخطاء التي ارتكبها الخطابي هي التي أدت إلى هذه النهاية، خاصة في ما يهم علاقته وموقفه من السلطان والمخزن حيث «كانت الثورة الريفية بزعامة الخطابي لا تعترف في بدايتها بشرعية السلطان المولى يوسف، ولا يهمها وجوده من عدمه، وقد صرح الأمير الخطابي في أكثر من مناسبة أن الشيء الوحيد الذي يهمنا اليوم ليس وجود سلطان في المغرب ولكن الاستقلال التام»، وهو الموقف الذي اتبعه الخطابي بعد انتصاره الكبير في «أنوال» بمحاولة تأسيس الجمهورية الريفية يوم 18 شتنبر 1921 مع ما هو متعارف عليه من علامات السيادة وعلى رأسها العلم الذي اختار له اللون الأحمر يتوسطه مربع أبيض مائل مع هلال ونجمة سداسية، والنقود التي أطلق على عملتها اسم «الريفيان» والدستور فضلا عن تعيين حكومة ترأسها الخطابي شخصيا فضلا عن منصبه كرئيس للجمهورية الوليدة، قبل أن يعمد إلى تعيين الحاج الحاتمي رئيسا لها من يوليوز 1923 حتى الإعلان رسميا عن نهاية وسقوط الجمهورية يوم 27 مايو 1926 بداية رحلة الخطابي نحو المنفى بعد استسلامه يومين قبل ذلك، بل أن الزعيم الريفي ذهب أبعد من ذلك وقام بمحاولة عقد علاقات ديبلوماسية مع بعض الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا، فضلا عن أنه خاطب العالم مطالبا بالاعتراف بالجمهورية الوليدة ككيان مستقل عن باقي تراب المملكة الشريفة ورفضه «تمكينه من السلطة في الريف، والتمتع باستقلال ذاتي تحت سيادة السلطان (...) وتشبثه بمطلب الاستقلال التام، وهو ما لم يتحقق، وكانت ترفضه رفضا قاطعا كل من إسبانيا وفرنسا»، يؤكد جبرون الذي يقول أن الخطابي عندما «تغير بشكل جذري بعد ذلك، وخاصة بعد أن أحس بقرب الهزيمة، وأن السلطات الاستعمارية مصممة على إخضاع الريف، أرسل مبعوثه القائد حدو إلى السلطان في فاس في فبراير سنة 1926، وأعلن استعداد محمد بن عبد الكريم الخضوع له، لكن الوقت كان قد فات، ورجع السفير خالي الوفاض، فما كان متاحا أمامه قبل سنتين أمسى مستحيلا ربيع سنة 1926، وعرضت على الأمير الخطابي شروط جديدة، تطلب منه التنازل عن السلطة ومغادرة الريف، وخضوع هذا الأخير للسلطان».
لقد فات الأوان للتفاوض من أجل إيجاد مخرج مشرف من هذه الوضعية والتي تكالبت فيها القوى الاستعمارية على الثورة الريفية، وسحبت بعض القبائل دعمها للثورة فضلا عن إصرار القوى الكبرى على القضاء على هذه الثورة حيث تم تجنيد الجنود من طرف إسبانيا وفرنسا، فيما مدت أمريكا هذه القوات بفيلق من الطائرات والطيارين، ليتم بعد ذلك اللجوء إلى السلاح الكيماوي «غاز الخردل» الذي استعمل لأول مرة عام 1924 وقبل سنة من صدور اتفاقية جنيف التي تحظر الاستعمال الحربي للغازات السامة أو القاتلة أو غيرها من الغازات والوسائل الحربية البكتريولوجية، علما أن الغاز الذي ووجهت به الثورة الريفية تم تصنيعه داخل مصانع الشركة الوطنية للمنتوجات الكيماوية «Fabrica Nacional de Productos Químicos» بمدينة «لامارانوسا» قرب مدريد وتأسس هذا المصنع بمساعدة كبيرة من «هيغو ستولتزينبرغ» الصيدلاني الألماني الذي تم منحه لاحقا الجنسية الإسبانية كنوع من الاحتفاء به بسبب نجاحه في صناعة سلاح حاسم للقضاء على ثورة قضت مضجع أوروبا وخاصة إسبانيا.
نهاية الثورة الريفية وزعيمها ما كان لها أن تكتمل فصولها لولا استعانة الجيوش الفرنسية – الإسبانية ببعض أبناء الريف أنفسهم والذين خبروا تضاريس المنطقة وجغرافيتها ومن بينهم الماريشال الريفي محمد أمزيان الذي كان على دراية كبيرة بالتكتيكات العسكرية للقبائل الريفية التي ينتمي إليها ومن أبرزها: بني ورياغل، تمسمان، بني توزين، بقيوة، حيث كان دوره حاسما في بث الرعب والتفرقة بين القبائل حتى قبل استعمال الغاز السام (والذي كان من أنصار ضرب الثورة به، في مواجهة الساكنة) ولا تزال آثاره بارزة حتى اليوم لدى جزء من سكان المنطقة التي تعرف ارتفاعا كبيرا في حالات الإصابة بمختلف أنواع السرطانات، حيث مكن الغاز من سرعة السقوط، كما أقر بذلك عدد من العسكريين الإسبان الذين شاركوا في هذه الحرب والذين يبقى أبرزهم «بيدرو توندرا بوينو» الذي أشار إلى هذا الأمر في سيرته الذاتية التي حملت عنوان «أنا والحياة» (La vida y yo ) التي صدرت عام 1974.
الغازات السامة .. السلاح الجرمي الذي أجبر الخطابي على رفع الراية البيضاء
بعد معركة أنوال، شعرت إسبانيا بالإذلال من طرف جيش لا يملك أية وسائل حربية حديثة سوى عزيمة رجاله الذين كان يقودهم الخطابي، لذلك فكرت في وسيلة تجبر من خلالها الخطابي على الإقرار بهزيمته بعد أن فشل العشرات من الجنرالات في هزمه بالميدان، مما دفعها إلى استعمال طائرات أمريكية الصنع لقصف كل منطقة الريف بالغاز السام المصنوع من الخردل الذي استعمل لأول مرة في هذه المنطقة ولا تزال آثاره باقية على ساكنة المنطقة حتى اليوم.
ورغم إنكار اللجوء إلى استعمال هذا السلاح الخطير الذي تزامن مع صدور اتفاقية جنيف لحظر استعمال الأسلحة الكيماوية، إلا أن تحقيقا أجراه صحفيان ألمانيان عام 1990 هما: روديبرت كونتس ورولف ديتر ميلر كشف أن التجارب العلمية أثبتت تعرض المنطقة للقصف بالغازات وهو ما تم نشره من طرفهما في كتابهما «الغاز السام ضد عبدالكريم: ألمانيا، إسبانيا وحرب الغاز في المغرب الإسباني 1922-1927»، كما أكد نفس الأمر المؤرخ سيباستيان بالفور من كلية الاقتصاد بلندن، والذي قام بدراسة عدد من المحفوظات الإسبانية والفرنسية والبريطانية، والتي توصل من خلالها إلى تعمد اختيار المناطق المكتظة بالسكان كأهداف لقنابل الغازات السامة، مشيرا إلى أن رمي هذه الغازات كان رد فعل لهزيمة أنوال التي تسببت في مقتل 13 ألف جندي إسباني.
وبدورها، تقول المؤرخة الإسبانية الشهيرة ماريا روزا مادارياغا، صاحبة كتاب «إسبانيا والريف .. أحداث تاريخ شبه منسي»، في مقال لها بجريدة «إلباييس»: «استخدام الغازات السامة بدأ في منطقة الحماية الإسبانية عام 1923، حيث تم استخدامها في بادئ الأمر من قبل المدفعية، ثم من قبل الطيران بعد ذلك، وكان الجيش يرغب في توسيع نطاق استخدامها بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار المادية والجسمانية، وتحطيم معنويات المقاتلين الريفيين والسكان المدنيين. وتم تكثيفها لتستمر حتى نهاية الحرب في يوليوز عام 1927».
الماريشال بيتان الذي أنهى ثورة الريف
إذا كان الجنرال سيلفستر أبرز عسكري اندحر أمام الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي، فإن الماريشال الفرنسي فيليب بيتان نجح في ما فشل فيه عشرات القادة العسكريين الذين عانوا من ويلات حرب العصابات التي احتارت إسبانيا في كيفية مواجهتها داخل تضاريس لا يخبرها إلا الريفيون أنفسهم، ورغم استعانتهم ببعض الخونة من أبناء الريف نفسها.
الماريشال بيتان الذي تولى بعد ذلك رئاسة الحكومة الفرنسية في فيشي التابعة للنازيين بعد دخول القوات الألمانية إلى فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، نجح في قيادة 500 ألف جندي وأزيد من 80 جنرالا في الحرب الأخيرة ضد الخطابي التي أجبرته على الاستسلام، مما زاد من شعبيته التي مكنته من تولي عدد من المناصب في فرنسا في ثلاثينيات القرن الماضي، من أبرزها تعيينه سفيرا بإسبانيا عامي 1939 و1940 وتوليه رئاسة الوزراء مع بداية الحرب العالمية الثانية غير أنه سرعان ما وقع هدنة مع الألمان بعد دخولهم إلى باريس وأوقف العمل بالدستور الفرنسي ليتقلد منصب رئيس الدولة مع ممالأته للنازية على حساب اليهود الذين أرسلهم إلى معسكرات الإبادة، مما جعل السلطات الفرنسية تحكم عليه بالإعدام بعد الانتصار في الحرب بتهمة الخيانة العظمى، ولكن شارل ديغول استبدل الحكم بالسجن مدى الحياة، ليظل بيتان محتجزا حتى فارق الحياة سنة 1951 عن عمر يناهز 95 عاما.
رافق الكثير من الجدل شخصية بيتان وهل يمكن اعتباره بطلا قوميا لفرنسا أم خائنا، ورغم حسم ذلك من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 7 نونبر 2018 بوصفه ب»الجندي العظيم» خلال احتفال تم تنظيمه بمناسبة توقيع هدنة كومبين التي تؤرخ لنهاية الحرب العالمية الأولى وانتصار فرنسا وحلفائها على ألمانيا، باعتباره بطل معركة «فيردان» التي حسمت الحرب لصالح فرنسا، إلا أن علاقته بيهود فرنسا تلقي بظلالها على شخصية هذا الرجل الذي رأي فيه الجميع أنه ساهم في مخطط إبادة اليهود بإرسال أكثر من 300 ألف فرنسي إلى المحرقة النازية، لكن الجميع يتجاهل أن هذا الرجل لجأ إلى استعمال أخطر سلاح في عشرينات القرن الماضي وساهم في إبادة آلاف الأبرياء العزل والتسبب في إصابة أجيال من سكان الريف بالأمراض المستعصية التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا وعلى رأسها السرطان رغم جميع المحاولات التي تحاول نفي انتشار الأمراض الخبيثة بين سكان المنطقة بسبب هذه الغازات.
النهاية كما رواها الخطابي لصحافي فرنسي
في كتابه «مذكرات عبد الكريم الخطابي» الصادر عام 1927 بالفرنسية ينقل مراسل صحيفة «لوماتان» الفرنسية روجيه ماثيو رواية محمد بن عبدالكريم الخطابي حول أسباب فشل الثورة الريفية، وهو الذي رافقه في رحلته على متن الباخرة «عبدة» التي أبحرت من ميناء الدارالبيضاء إلى فريول بمارسيليا الفرنسية مدة ثلاثة أيام.
ويقول ماثيو في هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته باللغة العربية عام 2021 لإسماعيل العثماني عن «دار الأمان» أن نهاية المقاومة الريفية، وأسباب انهيارها رغم الانتصار الذي حققته في معركة أنوال، حسب ما نقله عن الخطابي، هو نجاح الاستعمار الفرنسي في زرع رجالاته في صفوف القبائل الريفية، واستهدافه الوحدة الريفية ومحاولته استقطاب رجال لقبائل لتقويض الولاء للخطابي، ليضطر إلى استباق ذلك من أجل مواجهة كافة التداعيات السياسية، فسعى إلى بدء محادثات لإنهاء الحرب وقبول المشاركة في مؤتمر وجدة الذي فشل بسبب اشتراط فرنسا على المقاومة الريفية إبعاد الخطابي إلى المنفى خارج المغرب، وهو الشرط الذي فوجئ به رغم أنه لم يكن من بين شروط مشاركته في المؤتمر الذي قال إنه اكتشف من خلاله وجود تواطؤ إسباني فرنسي ضده لتقويض المقاومة في الريف، لينتهي به الموقف إلى الاستسلام بعد يقينه بضعف الجبهة الداخلية رغم أنه كان مستعدا للمقاومة مع من بقي معه من رجاله حتى الموت لولا دخول فرنسا وعدم التزامها بالحياد في حربه ضد إسبانيا.
الخطابي .. انفصالي أم وحدوي؟
رغم نزعته الانفصالية، وتأكيد عدد من المصادر أن محمد بن عبدالكريم الخطابي سعى إلى الاستقلال عن السلطان المغربي مولاي يوسف، ورغم ذكر عدد من المصادر أنه قام بتأسيس جمهورية الريف بما رافقها من علامات السيادة إلا أن هناك آراء أخرى تنفي صفة «الانفصالي» عنه وتؤكد أنه لم يكن يسعى أبدا إلى انفصال الريف كما أنه وطيلة نضاله ضد الاستعمار لم يلقب أبدا ب»الرئيس» بل كان رفاقه يخاطبونه ب»مولاي موحند» أو القائد عبد الكريم أو «الأمير».
الباحث الريفي محمد أوحادوش، وفي بحث له تحت عنوان «محمد بن عبدالكريم الخطابي لم يكن انفصاليا»، كتب يقول أن الزعيم عبد الكريم الخطابي، لم يكن انفصاليا، لقد أسس جمهورية الريف من أجل إجلاء الاستعمار الإسباني، حسب ما أكده الخطابي في الكثير من تصريحاته الإذاعية والصحافية، وذلك ما كان يؤكده أخوه السي امحمد، مؤطر الثورة واليد اليمنى للزعيم في الدروس التي كان يلقيها في منزله بالقاهرة كل يوم خميس أمام الصحافيين والطلبة المغاربيين.
أما ثورته، وحسب ما يورده أوحادوش نقلا عن المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان في كتابه «المغرب في مواجهة الاستعمار»، فكانت أكبر من عملية انتقامية من الجنرال سلفستر، ورغم خروج الخطابي منها منهزما، فإن مجده خرج في أوج كبير لأنها كانت ملحمة تفهم عظمتها عندما طأطأ لها الرأس الرئيس «هوشي منه» زعيم الفيتنام، وكانت مصدر إلهام للتواقين إلى الشهادة مستشهدا بعدد ممن تمنوا الشهادة كمقاتلين في صفوف الخطابي أمثال: القاضي الشيخ أبي العباس أحمد بن المأمون البلغيتي، وعبد العزيز بن علال الوزاني، جمعية الزاوية الناصرية بفاس، والشيخ أحمد بن جعفر الكتاني.
ويؤكد المصدر ذاته أن هناك عددا من المواقف التي تؤكد على وحدوية الخطابي وثورته، وغياب النزعة الانفصالية عن مشروعه الثوري ومنها: عندما كان عبد الكريم الخطابي في أوج قوته توجه إلى السلطان مولاي يوسف بخطاب يقول فيه «ومن جديد نمدّ أيدينا إلى جلالتكم متأكدين أنه في هذه الشدة المعنوية .. أن جلالتكم ستتفقدون أبناءكم…» (عبد الكريم القائد الوطني، ص 73، عز الدين التازي، منشورات ثفراز، مطبعة ميثاق المغرب 2003، ص22). تصريحات الأمير الخطابي لإذاعة مصر يوم كان مقيما فيها بعد عام1947 بأنه لم يكن أبدا طامعا في عرش المغرب ولا راغبا في إنشاء دولة مستقلة عن الدولة المغربية. اللقاء التاريخي الذي جمع بين السلطان محمد الخامس والأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في منزل الأخير في القاهرة عام 1960، والتي تظهر الصور الموثقة له الجو الودي والمطبوع بالتقدير والاحترام المتبادل بين السلطان والأمير، وهو اللقاء الذي ثبت فيه محمد الخامس لقب «الأمير» للخطابي والذي كان يلقب به. بيان إعلان الجمهورية الريفية التي جاء فيه: «نعلن ونشعر الدول المشتركة في معاهدة الجزيرة سنة 1906 بأن المطامع العليا التي أدت إلى المعاهدة لا يمكن أن تتحقق قط، وذلك بسبب الخطأ الأصلي القائل بأن بلادنا – الريف – تشكل جزءا من المغرب» عن كتاب «عبد الكريم أمير الريف» لفورنو، ص 76.
حياة بن عبد الكريم الخطابي بعد الاستسلام
الطريقة التي استسلم بها الخطابي لم تكن تتماشى مع الرعب الذي بثه في الجيش الإسباني خاصة بعد معركة أنوال الشهيرة التي جرت في مايو من العام 1921 خاصة وأنها أول معركة تهزم فيها البندقية التقليدية التكنولوجيات الحربية الحديثة الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، فضلا عن قلة الزاد لدى رفاق الخطابي، بل وعودة الجنرال سيلفستر الصديق المقرب من ملك إسبانيا حينذاك ألفونسو 13 خائبا حتى اضطر جنوده بفعل الحصار الذي ضرب عليهم إلى شرب «بولهم». لكن خمس سنوات بعد ذلك، سيتغير الوضع ويشدد الفرنسيون والإسبان الخناق على الخطابي بمشاركة آلاف الخونة من بني جلدته ليضطر لتسليم نفسه ويقرر الفرنسيون نفيه إلى «جزيرة لارينيون» هو وعائلته، حيث لا يعرف كثيرا ما كان يفعله الخطابي خلال هذه المرحلة.
لكن حسب مقال نشر في جريدة «الأهرام» المصرية، قبل ثلاث سنوات، فإن الخطابي عاني ولمدة 20 عاما من التضييق والحصار حيث يورد المقال الذي نشر بتاريخ 22 فبراير 2019 أن «الخطابي ذاق مرارة الأسر والبعد عن الأوطان، ومع التضييق عليه هو وأسرته، اضطر للعمل ليجد ما ينفق به عليهم بعد أن صادر المستعمر أملاكه في الريف، فافتتح محلا تجاريا بالجزيرة أتبعها بشراء مزرعة عمل بها هو وأبناء أسرته، الذين تزايد عددهم لأكثر من أربعين فردا. وبرغم معاناته في المنفى وبعد أن توفيت والدته، واثنين من مساعدي الأسرة متأثرين بمرض الملاريا المنتشر في الجزيرة، ورغم بذله المساعي مرارا للخروج من المنفى، فإنه رفض عروض بعض الدول لتهريبه من الجزيرة لأنه لم ير فيها أية فائدة لبلاده، وأنه سيعيش كلاجئ لدى هذه الدولة أو تلك».
بعد 20 سنة، قررت السلطات إعادته إلى فرنسا، لكن خلال توقف الباخرة التي كانت تقله بميناء بورسعيد تم تهريبه من طرف الشرطة إلى داخل مصر، وبتنسيق مع بعض المغاربة الذين كانوا يقيمون هناك، حيث وافق الملك فاروق، على هذه الخطوة، التي تمت في الأول من يونيو عام 1947 عندما نزل الخطابي من الباخرة التي توقفت للتزود بالوقود ليتم تهريبه حيث تناول إفطار ذلك اليوم في بيت محافظ بورسعيد فؤاد شيرين باشا لتبدأ رحلة أخرى من مسار الخطابي استمرت حتى وفاته عام 1963.
خلال مقامه في مصر، قررت سلطاتها منحه راتبا شهريا قدر بحوالي 580 جنيه مصري كما خصص له منزل مستقل في حي حدائق القبة فضلا عن وضع معسكر تحت تصرفه لتدريب الشباب المغاربة على أساليب المقاومة، وبدعم من جامعة الدول العربية التي كان يرأسها آنذاك، عزام باشا، ترأس الخطابي لجنة تحرير المغرب العربي عام 1948 والتي اختار من خلالها مواصلة جهاده من أجل تحرير بلدان المغرب العربي، كما جدد تواصله مع من بقي من المجاهدين وفيا له داخل الريف فضلا عن تواصله مع قيادات من المقاومة المغربية، إلى جانب تحريض المغاربة المنضمين للجيش الفرنسي خاصة في فيتنام على العصيان حيث لعب دورا في فرار المئات منهم والذين التحقوا بخلايا المقاومة سواء في المغرب أو فيتنام للنضال ضد المستعمر الفرنسي.
استغل الخطابي إذاعة «راديو صوت العرب» المتشبعة بالأفكار الناصرية من أجل دعم حركات التحرر في العالم داعيا إلى الثورة على كل أنواع الاستعمار، كما دعا إلى التصعيد ضد المستعمر الفرنسي في بلدان المغرب العربي، خاصة وأن سقوط الملكية في مصر ووصول الضباط الأحرار إلى سدة الحكم لم يزد إلا في ترسيخ قدمه، بعد أن حظي بدعم اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية المصرية ليواصل خلفه جمال عبدالناصر السير على نفس النهج حتى استقلال المغرب وتونس لكنه رفض دعوة المغرب له بالعودة مصرا على أنه لن يعود إلا بعد استقلال كافة بلدان المغرب العربي، حيث أخبر الملك الراحل محمد الخامس عند زيارته للقاهرة عام 1960 أنه لن يعود للمغرب إلا بعد رحيل آخر جندي أجنبي عن البلاد، وهي رواية تتناقلها عدد من المصادر منها وسائل الإعلام، لكن لا يمكن الحسم في هذا الأمر خاصة وأن مذكرات الخطابي، التي يتم تداولها وينسب بعضها إليه اليوم، لا يمكنها أن تحسم هل فعلا كان يريد العودة أم يرفض، غير أن الثابت هو أنه توفي يوم 6 فبراير 1963 بالقاهرة وأقيمت له جنازة عسكرية رسمية وتم دفنه في مقابر الشهداء بمنطقة «الدراسة» ليسدل الستار على مرحلة حاسمة من تاريخ الريف وبطلها الذي يبقى مثيرا للجدل وفي حاجة إلى كثير من التناول، لكن تتفجر معه مسألة إعادة «رفاته» ورغبته في أن يكون دفين «أجدير» والمعيقات التي تحول دون إعادتها رغم مرور نصف قرن تقريبا على وفاته، وقد أثيرت هذه المسألة خلال مرحلة عمل هيئة المصالحة والإنصاف في بداية العشرية الأولى من القرن الحالي دون أن يرجع البطل إلى تراب بلدته.
محمد زاهد (*) ل"الأيام": الخطابي قرر «الاستسلام» رأفة بأهل الريف
انتهت حرب الريف التي قادها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد المستعمرين الإسباني والفرنسي رسميا باستسلامه يوم 25 ماي 1926، فما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ بداية لا بد من التأكيد على أن المقاومة الريفية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1920 و1926، كانت من أبرز الأحداث العالمية الكبرى التي ميزت بداية القرن الماضي، وذلك باستحضار حجم تداعياتها وامتداداتها الداخلية والخارجية، وكذا أبعادها السياسية والعسكرية والديبلوماسية. وهنا أستحضر ما قاله سنة 1925 المقيم العام الجنرال ليوطي، الذي كان يعكس ويترجم النظرة الاستعمارية لفرنسا، بل ويمكن القول أنه المهندس والأب الروحي للتواجد الاستعماري بالمغرب، إذ قال في خضم مواجهته لحركة المقاومة الريفية آنذاك: «لقد كنتُ دوما على علم بخطر قيام دولة مستقلة بالريف، ليس فقط على المغرب، بل على إفريقيا الشمالية برمتها». أما بالنسبة للأسباب التي كانت وراء نهاية المقاومة الريفية و»استسلام» البطل بن عبدالكريم الخطابي، فهي أسباب متعددة يمكن أن تكون بعض الجوانب منها تتعلق بالجانب الذاتي، وهي جد محدودة. لكن تبقى أهم هذه الأسباب مرتبطة بالجانب الموضوعي، وأبرزها التكالب والتحالف الاستعماري ضد هذه الحركة بدءً من سنة 1925، لاسيما بعد تمدّد المقاومة الريفية في اتجاه الجبهة الجنوبية على حدود منطقة «الحماية» الفرنسية، أي (نهر ورغة). وهنا لابد من التذكير بتحالف فرنسا وإسبانيا بقيادة 80 جنرالا على رأسهم الجنرال بيتان الذي ذاع صيته خلال الحرب العالمية الأولى، معززا بأسطول عسكري ضخم يتكون من سرب من الطائرات والبواخر الحربية التي تكلفت بعملية الإنزال والآلاف من الجنود والعتاد العسكري الضخم. وبالتالي فغياب موازين القوى بين التحالف الاستعماري ضد حركة المقاومة الريفية، كان من بين أهم هذه الأسباب. لكن يبقى العنصر الحاسم في هذه العملية هو لجوء القوى الاستعمارية إلى استعمال الحرب الكيماوية، المحرمة دوليا، لقهر وهزم شعب أعزل يكافح من أجل حريته واستقلاله. هل قيادة الماريشال بيتان لتحالف إسباني فرنسي قوامه 500 ألف جندي للقضاء على ثورة الريف كان موقفا حاسما في هذا الخيار؟ كما سبق أن ذكرتُ، فالتحالف والحشد الاستعماري لفرنسا وإسبانيا بقيادة الجنرال فيليب بيتان قائد معركة «فيردان» الشهيرة، وهو أيضا واحد من الأسماء القادمة من معارك الحرب العالمية الأولى، كان بداية القضاء على ثورة الريف التي أصبحت آنذاك تهدد التواجد الاستعماري ككل بعد هزائم أنوال وإدهار أوبران وإغريبن ومعارك الجبهة الغربية. تحالف اكتسى مظاهر الحصار والغزو العسكري للريف برَّا وجوا وبحراً. وهو ما يعكس أهمية المقاومة الريفية وحجم الخسائر التي ألحقتها بإسبانيا وفرنسا على التوالي. للأسف كان تحالفا استعماريا ضد حركة تحررية، أصبحت في ما بعد نموذجا لحركات التحرر العالمية ومرجعا في حرب العصابات. هل كان لاستعمال الغازات السامة لإخماد ثورة الريف دور في اتخاذ قرار الاستسلام؟ بكل يقين وتأكيد. فاستعمال الغازات السامة الذي استهدف بشكل ممنهج قرى وأسواق ومداشر الريف على امتداد سنوات كان العامل الحاسم في القضاء على حركة المقاومة الريفية. يكفي أن نشير فقط إلى استعمال أزيد من 110 أطنان من غاز اللوست (الخردل) وحده للفتك بعزل ومدنيين. وهي أسلحة محرمة دوليا بموجب معاهدة «فرساي» سنة 1919، وكذا اتفاقية «جنيف» سنة 1925. وبهذا المعنى فهي جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي. إلى أي حد ساهم اللجوء لهذا السلاح التجريبي في ذلك الوقت (الغازات السامة) في تثبيط همم المقاومين المتواجدين حول محمد بن عبدالكريم الخطابي؟ لمَّا أحس الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بحجم وهول ما تخلفه قوة التحالف الاستعماري، وأساسا اللجوء إلى الحرب الكيماوية، من خسائر بشرية واقتصادية، ورأفة بحياة أهل الريف قرر «الاستسلام» حتى يتفادى الأسوأ المتمثل في تدمير الريف إنسانا ومجالا. أصبحت الجثث تتساقط أو تصاب بتشوهات جسمية حادة. تلوثت المياه وتسمم ما تجود به الأرض من خضر وحبوب وفواكه على قلتها، وأصبح الوضع صعب جدا. الاستمرارية كانت تعني الدمار الشامل، لذلك حسم الخطابي في هذا الخيار، ويبدو أن جميع الخيارات التي كانت مطروحة أمامه، مهما اختلفت طبيعتها، كانت ستكون مُرّة. هل من معطيات حول الاستسلام وظروفه وخصوصا كيفية اتخاذ هذا القرار وخلفياته؟ صراحة من الصعب أن أتحدث عن ظروف وملابسات اتخاذ هذا القرار لأنه غالبا ما اتخذ على نطاق ضيق وفي ظرف وجيز ومحكوم بضغط الوضع والسياق. لكن المعلوم أن محمد بن عبد الكريم الخطابي لما لجأ إلى الزاوية الوزانية ب«اسنادة» قرر «الاستسلام» بعد طول مفاوضات مع الفرنسيين بفاس. وقد يكون اقتنع بجدوى هذا الخيار أكثر – رغم أن الحسم كان صعبا – لما رأى وأدرك المأساة التي كانت تتوالى أخبارها. وبعد استشارة مع أخيه امحمد وعمه عبد السلام أبرز أعضاء حكومته وقادة حرب الريف، وكذا المحيط القريب من قيادة ثورة الريف. وهنا أذكر المقولة التي تنسب للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في خضم هذه اللحظة: «نمشي خير لي»، رغم أن المقاومة استمرت لشهور بعد ذلك. نحن في الذكرى ال 96 لاستسلام بطل الريف، هل يبدو لك دور البحث والباحثين وأيضا مؤسسة محمد بن عبد الكريم الخطابي في تسليط الضوء على حدث حرب الريف كان كافيا لحد الآن؟ لا شك أن دور البحث التاريخي والباحثين كبير ومهم لإبراز جوانب هذه الأحداث التاريخية وصون الذاكرة الجماعية خاصة أمام الطمس والتغييب الرسمي الذي تعرضت له هذه الصفحات والملاحم البطولية. ولعل من بين أهم المواضيع والأحداث التي أُلِّفت حولها كتب واُنجزت أطاريح ودراسات وأبحاث بشكل كبير، ما يتعلق بالمقاومة الريفية. لكن تعريف الأجيال الحالية بهذه المنجزات وهذا المجد يتطلب عملا أكثر من خلال دمج وتعزيز حضور هذا التاريخ في المقررات الدراسية والجامعية، والبرامج الإعلامية ودعم الإنتاجات السينمائية والوثائقية، وإعادة كتابة التاريخ بموضوعية. علاوة على دعم مبادرات صون وحفظ الذاكرة والتصالح مع التاريخ بكل شجاعة وجرأة. أما بالنسبة لمؤسسة محمد بن عبد الكريم الخطابي التي أسسها الراحل الدكتور عمر الخطابي وحظيت بعضوية أسماء وازنة، فقد عاشت الحصار والمنع والتضييق قبل أن يتوقف نشاطها مع رحيل د. عمر الخطابي، نجل عبد السلام الخطابي، وهو أمر مؤسف. لقد تم التعامل مع هذه المؤسسة بشكل يسيء إلى ذاكرة المقاومة الريفية. (*) باحث وإعلامي ومؤلف كتاب: "الريف، التاريخ والذاكرة"
امحمد جبرون (*) ل"الأيام": الخطابي ليس أسطورة .. واستسلامه كان بشروط تضمن له ولأهله السلامة
هل كان استسلام الأمير محمد عبد الكريم الخطابي للجيوش الفرنسية، خضوعا كما تم تصويره أم قرارا شجاعا اتخذه الخطابي لإيقاف نزيف الحرب بعد تحالف فرنسا وإسبانيا بقيادة الماريشال بيتان للقضاء على ثورة الريف؟ في البداية شكرا لكم على هذه الفرصة التي أتحتموها لنا للحديث حول موضوع يشغل الكثير من القراء. ويجب التنبيه إلى أننا من خلال الحديث في هذا الموضوع لا نسعى للإساءة إلى شخص الخطابي ومقاومته الباسلة والشجاعة، ولكن هاجسنا هو إظهار الحقائق التاريخية كما تجسدت على الأرض دون مبالغات أو تضليل، وذلك تجنبا لكل أشكال تزييف الوعي، ومن ثم يمكن القول جوابا عن هذا السؤال: لم تكن أمام المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي في الأيام الأخيرة من ماي سنة 1926 خيارات كثيرة، فهو مخير بين الاستشهاد، أو الاعتقال، أو الاستسلام، ولم تكن له أبدا إمكانية للاستمرار في المقاومة بعد الزحف الفرنسي والإسباني من الجبهات الثلاث لمحاصرته بحوالي نصف مليون جندي بالإضافة إلى أسطول من الطائرات وغيرها من الأسلحة بما فيها الغازات السامة. وإذا كانت مسألة استسلام زعيم المقاومة الريفية لا تحتاج إلى دليل، لأنه ببساطة لم يعتقل، وفضل الاستسلام للقوات الفرنسية بدل السقوط في يد الإسبان وذلك بعد توسط صديقه الشريف حميدو الوزاني في ناحية ترغيست، فإن الذي قد يلام عليه هو تأخره في الاستسلام، بعد أن كانت المنطقة قد تعرضت لعملية حرق وتدمير شامل. هل كان يليق الاستسلام بشخصية من عيار محمد بن عبد الكريم الخطابي؟ أسباب الاستسلام كثيرة، من أبرزها أن محمد بن عبد الكريم كان بين ثلاثة خيارات كما أسلفنا القول، وفضل الاستسلام للفرنسيين لأنهم ضمنوا السلامة له ولعائلته مقابل تحرير الأسرى الذين كان يحتجزهم فورا، كما أن أغلب قادته الميدانيين استسلموا، بل انضم بعضهم إلى القوات الاستعمارية، وثالثا انضمام بعض أهل الريف إلى الإسبان، وخاصة شطر من قبيلته بني ورياغل. ومن ثم فالاستسلام كان قرارا واقعيا، والذي يعرف شخصية الخطابي في تقلباتها التاريخية يدرك هذا الأمر بيسر وسهولة. في مقالة لك تحت عنوان «هل أخطأ الخطابي في قيادة ثورة الريف؟» قلت إن قضية موت أو اعتقال الخطابي كانت مسألة وقت فقط وهو ما دفعه للاستسلام، فما هي البراهين التاريخية الدالة على ذلك؟ ما قلته صحيح، لأن إفلات محمد بن عبد الكريم الخطابي من بين يدي القوات الاستعمارية كان أمرا شبه مستحيل بعد الحملة العسكرية الواسعة والشاملة على الريف من كل الجهات تقريبا. فبعد فشل مؤتمر وجدة في 7 ماي 1926 انطلقت العملية العسكرية وتقدمت بسرعة نحو معاقل المقاومة، بعدما خسرت هذه المقاومة عاصمتها الرمزية أجدير في أكتوبر 1925 بعد نجاح الإسبان في إنزال جيشهم بشاطئ الحسيمة وبمساعدة بعض بني ورياغل. تقول بأن الاستسلام جاء من أجل المحافظة على السلامة الجسدية للخطابي، فهل في رأيك يتماشى هذا الأمر مع ما هو معروف عن إقباله على المعارك وطلبه للشهادة، أم أنها مجرد أسطورة تحاول الرفع من قدر الرجل؟ لا يجب أن نعطي للمسألة بعدا شخصيا يمكن أن يفهم منه أننا نقلل من قيمة الرجل وجهاده، فالرجل قاد مقاومة قبلية وشعبية في ظرف دولي صعب لم يكن يسمح له ولا لغيره من المقاومات بالنجاح بخلاف ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية والتي هبت فيها رياح التحرر. وقد قام بواجبه، لكن بدا له في الأخير بعد أن انفض عنه الجمع، وبقي شبه معزول أن يستسلم بشروط تضمن له ولأهله السلامة والعافية، ولهذا فالخطابي كان رجلا مقاوما صلبا وليس أسطورة، بل يصدق عليه ما يصدق على غيره من الناس. ألا تعتقد أن هالة الأسطرة التي أحاطت بالخطابي قبل استسلامه لا تتماشى مع هذا الموقف؟ الحقيقة أن الأسطرة التي تقدم بها شخصية الخطابي من طرف البعض تسيء له، وتعتدي على الحقيقة التاريخية، وأيضا تعتدي رمزيا على شخصية الخطابي، فالرجل قام بواجبه في حدود الإمكانيات التي كانت متاحة له، فنجح في أشياء وفشل في أخرى. وقرار استسلامه ليس عيبا في مساره الجهادي فلم يكن وحده في هذا الباب، فعلى سبيل المثال عسو باسلام في الأطلس الصغير هو الآخر قرر الاستسلام في آخر المطاف. وهذا لا ينقص من قدر هؤلاء الرجال، لكن لا يمكن أن نزيف الحقائق التاريخية لإثبات العكس. هل هناك أخطاء ارتكبتها الثورة الريفية وأدت إلى فشلها، وهل عدم اعترافها بالوحدة الوطنية، كما قلت في المقالة السالف ذكرها، سبب مباشر، خاصة وأنها كانت تعمل بمعزل عن باقي المقاومات التي كانت تعرفها مختلف مناطق المغرب؟ في تقديري الشخصي ومن خلال البحث والتحليل لمجريات المقاومة الريفية، أنها كانت بخلاف غيرها من المقاومات تمتلك في لحظة من اللحظات فرصة للنجاح وتحقيق حد أدنى من المبتغى، ولكن قادة المقاومة وعلى رأسهم الخطابي أساؤوا تقدير الموقف، فقد عرض على هاته المقاومة في لحظة من اللحظات القبول بالحكم الذاتي تحت سيادة السلطان، لكنها رفضت وطالبت بالاستقلال التام للريف وهو ما تم رفضه ولم يكن مسموحا لإسبانيا التقرير في هذا الشأن بمعزل عن فرنساوإنجلترا. ومن ثم فقد فوتت مقاومة الريف هذه الفرصة، ولو أنها قبلت بهذا الحل في فترة متأخرة، لكن الوقت كان قد فات، ولم تقبل بذلك سلطات الاحتلال. سوء إدارة العلاقة بالسلطان مولاي يوسف في هذه المرحلة، وسوء تقدير لموازين القوى الدولية وضعف حلفاء ثورة الريف.. كلها أدت بالمقاومة الريفية إلى الفشل وإلى المصير الذي نعرفه جميعا. ما هي الأخطاء التي لم يتم بعد الانتباه لها بخصوص حرب الريف؟ وما هو دور البحث الأكاديمي في إماطة اللثام عنها؟ أظن أن من الأمور الحيوية التي يجب أن يهتم بها البحث التاريخي الأكاديمي هو التخفيف من الغلو والحماس الوطني الذي يكون في كثير من الأحيان على حساب الحقائق التاريخية، مما قد يؤدي إلى تشويه التاريخ وذلك بالنفخ في بعض الحقائق وتبخيس أخرى، فمسؤولية المؤرخ هي إظهار الحقائق التاريخية النسبية على أية حال، ووضعها بين يدي القارئ. ومن الأمور التي أثارت انتباهي خلال البحث في تاريخ المغرب هو أنه لأول مرة ظهر انشقاق واضح بين الريف والجنوب أو الداخل، حيث كان محمد بن عبد الكريم الخطابي حريصا على تطمين فرنسا في مقابل الهجوم على إسبانيا وأن معركته الحقيقية هي تحرير الريف بالأساس، الشيء الذي أحدث سوء فهم للبعد الوطني لهذه المقاومة الذي سيتعزز في ما بعد بالتزامن مع أحداث الريف 1958. لماذا لم يتم استثمار انتصار «أنوال» عام 1921 وما هي أوجه القصور التي رافقت توظيف هذا الانتصار؟ لقد انهزم الإسبان هزيمة قاسية في أنوال، وحاولت المقاومة قدر ما تستطيع استثمار هذا النصر بعقلانية، بحيث كان بإمكانها اقتحام مليلية على سبيل المثال لكنها لم تفعل، وذلك في إشارة إلى أنها لا تعالج أوضاعا موروثة، بقدر ما هي مهتمة بأوضاع ما بعد سنة 1912. لكن الذي لا يجب أن يغرب عن بالنا في هذا السياق هو أن المقاومة المسلحة المغربية لم يكن بإمكانها النجاح مطلقا سواء في الشمال أو الجنوب، فالأمر يتعلق بحرب إمبريالية عالمية وحرب إبادة للشعوب الضعيفة في إفريقيا وآسيا، ولهذا لا يمكن أن نلوم المقاومة على ما حققته أو ما لم تحققه في هذه المرحلة. هل فعلا كان الخطابي يسعى لتكوين دولة مستقلة بعد هذا الانتصار بعيدا عن سلطة سلطان المغرب؟ ليس لدي شك في أن الخطابي ومن معه كانوا يسعون لتحقيق استقلال الريف وإنشاء دولة مستقلة، واتخذوا لهذا الغرض كل شارات السيادة من عملة وعلم وإدارة… وقد حاولوا جهدهم في هذا الباب، واتصلوا بقوى دولية وخاصة إنجلترا للحصول على دعمها، لكن اتفاقية الحماية والالتزامات الدولية السرية والعلنية التي كانت تجمع القوى العظمى أنذاك والتسويات التي كانت بينها حرمتهم من تحقيق هذا الهدف. لماذا تغيب المعطيات بخصوص ليلة استسلام الخطابي وهل فعلا استسلم بطريقة انتحارية من خلال اقتحام صفوف العدو بفرسه حتى يظهر الأمر وكأنه «أسر» عوض تسليم نفسه كما يتم الترويج لذلك من طرف بعض الكتاب؟ لا، لا، هذا كلام فارغ لا أساس له من الصحة، لقد استسلم محمد بن عبد الكريم الخطابي بطريقة راقية ووديعة، ليس فيها أدنى تشنج، وفي احترام تام لشخصه ولنسائه وعائلته، ولم تقع أية حوادث في لحظة الاستسلام. وصور اللقاء مع الفرنسيين وانتقاله صحبة الفرنسيين إلى وجهته الأمنة محفوظة ومنشورة. (*) أستاذ وباحث في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة