بين إعادة إنتشار المغرب وانسحابة من الكركارات، و امتناع البوليساريو عن الإنسحاب، و إرجاع الحالة إلى ماكانت عليه، تظهر نوايا وأهداف جميع الأطراف، المباشرة المغرب والبوليساريو، وغير المباشرة منها الجزائروموريتانيا، وهذا الوضع يشكل فرصة سانحة للأمم المتحدة بقيادة أمينها العام الجديد، أنطونيو جوتيريس، لتطويع كل الأطراف، في سبيل إحراز تقدم، أو إحداث منعطف حقيقي في سبيل بلوغ الحل، غير أن كل هذه الحسابات مهددة باحتمال مداهمتها باندلاع و حدوث الحرب. وهو ما تحاول هذه القراءة ملامسته. أولا: إصرار بقاء البوليساريو في منطقة الكركارات؛ إثارة الإنتباه؟ أم من أجل بناء الدولة؟ مع إصرار البوليساريو على البقاء في الكركارات، وامتناعها عن الإستجابة لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ولا رئيسة بعثة المينورسو كيم بولدك، والدول أعضاء مجلس الأمن، واسبانيا باعتبارها من الدول أصدقاء الصحراء، بل و انتشارها في سابق الأماكن التي انسحب منها المغرب، وتعزيز قواتها بأسلحة و آليات حربية، وتحركها في اتجاهات متعددة قرب الجدار الدفاعي المغربي. فإن ذلك يقدم مؤشرات قوية لاختيارها الحرب، وهي خطة من أجل إثارة الإنتباه للنزاع، وممارسة الضغط على الأمن المتحدة، على غرار سابق تصرفاتها، و تهديداتها، و مناوراتها العسكرية من ذي قبل، مع اقتراب موعد الدراسة الدورية، للحالة في الصحراء بمجلس الأمن، التي تتم جدولتها في أبريل من كل سنة.
ثانيا: الجزائر تفضل التضحية بالبوليساريو قربانا ليسر مخاض انتقال السلطة لديها!. بيد أن الأمر يختلف هذه المرة، فالجزائر تعيش أزمة سياسية خانقة، والغموض مستمر عن حقيقة من يحكم الجزائر باسم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، العاجز كليا عن ممارسة مهام واختصاصات الرئاسة، أو حتى نفي هذه الحقائق، وهذا الغموض يلف أيضا مسألة الحسم في خلافته، التي يتصارع حولها الجيش والمخابرات، وهذه السياسية، تزيدها تعقيدا و استفحالا الأزمة الإقتصادية، بفعل الهبوط التاريخي، والطويل الأمد لأسعار النفط، فأفرغت خزائن الدولة من العملة الصعبة، و لجأت إلى سياسات التقشف، و إلغاء دعم السلع الحيوية. فانضم الضغط الإجتماعي، إلى السياسي والإقتصادي، وزاد الإحتقان إلى درجة جعلت التقارير الأمريكية والفرنسية ترجح قرب اندلاع ربيع عربي ثان من الجزائر، فهي تحمل كل مؤشرات المخاطر. وهو ما يفسر بحثها عن وسيلة لتصريف هذه الأزمة عبر تحريض البوليساريو، وتشجيعها على استفزاز المغرب، و لا ترى مانعا في تصعيد الأمر ، وتطوره إلى مناوشات، لقضاء حاجتها الذاتية، لعلها تجد سببا تهدأ به الشارع الجزائر، وتحول أنظاره الى المغرب، الذي جعلت منه خطرا على وحدتها.
ثالثا: المغرب هل ينسحب للأبد؟ أم من أجل العودة في إطار الدفاع عن النفس؟ وفي مقابل هذه الرغبة الجزائرية ومن البوليساريو الأكيدتين في إختيار الحرب، فإن المغرب آثر الإنسحاب من منطقة الكركارات العازلة، والموضوعة بمقتضى الإتفاق العسكري رقم واحد تحت مسؤولية الأممالمتحدة لمراقبة وقف إطلاق النار بواسطة قوات المينورسو، من جهة. و لأنه بذلك يصحح وضع الخروج، الذي استدعته ضرورة أمنية،و ليستجيب مع دعوة الأمين العام للأمم المتحدة، و تنفيذا لمقتضيات اتفاق وقف إطلاق النار. كما أن خيار المغرب الإنسحاب، و إعادة الإنتشار، إنما تم من أجل تفادي التوتر، الذي يخدم أساسا ومباشرة الجزائر والبوليساريو، وفي نفس الوقت يورط الأخيرة أمام المجتمع الدولي، ويجعلها في صدام مع الأممالمتحدة، وينزع عنها طابع المظلومية. وفي مقابل ذلك فإنه يبوأ المغرب، وخاصة في حالة إشعال فتيل الحرب المغرب وضع المدافع عن نفسه، وينفي عنه أية مسؤولية. ولا شك أن هذا التكتيك يخدم هدف الأولوية الإستراتيجية للمغرب في ضمان عودة هادئة، وسلسة وغير متوترة إلى الإتحاد الأفريقي ، من أجل تثبيت انضمامه بعيدا عن افتعال نزاعات اعتراضية قد تعيق مسار هذه العودة في بداياتها.
رابعا: موريتانيا تحرز أمنية الحد الفاصل مع المغرب، وتعويم إنفرادي للكويرة!؟ وفي ظل هذا الوضع تبقى موريتانيا المستفيدة جيو استراتيجيا منه، على حالته الراهنة، التي لم تتطور بعد إلى حرب، فهي تحقق هدفا في دحرجة المغرب بعيدا عن حدودها، و هو حلم لطالما راود الموريتانيون، وهم يفضلون في وجود كيان يفصل بينهم وبين المغرب، ويكون فاصلا بينهما، وهم يرونه بدأ يتحقق على أرض الواقع. وستلقى في ذلك غنيمة نفيسة في إدراكها مأرب الإستئثار بمجال الكويرة، وتعويمها ، وهو بند سري في اتفاقية السلام بينها وبين البوليساريو، خلال غشت 1979. ولهذا ترى الجميع يخطب ودها، فالمغرب عاقب الأمين العام لحزب الإستقلال حميد شباط لمجرد تصريح أخرج من إطاره حول انتماء موريتانيا للمغرب سابقا، ونية المغرب في ذلك إظهار حرصه الشديد على سيادة موريتانيا على أراضيها، و حساسيته الشديدة ورفضه القاطع لكل صغيرة أو كبيرة تعكر صفو هذه العلاقات، أو يبطأ إرادة تحسنها، بل و أوفد رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، وناصر بوريطة الووزير المنتدب لدى وزيرالخارجية لتأكيد ذلك الرفض وبناء و ترميم جسر التواصل المتضرر من ذي قبل.
خامسا: أزمة الكركارات، بمثابة عصا سحرية بيد الأمين العام للأمم المتحدة لتطويع طرفي النزاع!؟ أما الأمين العام للأمم المتحدة الجديد، أنطونيو جوتيريس، فهو تسلم ملف نزاع الصحراء، وهو على حفا شفرة من اندلاع النيران، فإن تمكن من السيطرة على معادلة أزمة الكركارات الفرعية، فيسهل عليه فك باقي العقد والألغاز في الملف الأصلي، لأنها أزمة صغيرة تختزل الأزمة الكبرى، في كل تفاصيلها، وجزئياتها. فهي قد تكون السبيل الذي يهتدي به إلى الحل الأكبر، فإن استمرت البوليساريو في حيازة المنطقة، ودون إدانة أممية، وارغامها على الإنسحاب، أو دون ردة فعل مغربية عنيفة، فليس له من تفسير خارج بداية بناء لبنة أولى في التأسيس لكيان مستقل في المنطقة، بغض النظر عن الشكل، أو الوعاء الذي سيصب، وشكله ؛ فقد يكون التقسيم، وقد يكون من داخل الشريط العازل، أو في إطار إستقلال موسع مع ارتباط بالمغرب.
أما، إن تم انسحاب البوليساريو، الذي يظهر أنه يرفضه ولا يبغيه، فمعناه أن الأممالمتحدة ستمضي في البحث عن حل سياسي يقبل به الأطراف جميعا لضمان ديمومة أمن واستقرار المنطقة. وفي حالة اندلاع الحرب، فلذلك ارتباط بكون الطرفين لا يقبلان بالحلول الجديدة، المعدة من قبل الأممالمتحدة، والتي مازالت طي الكتمان. وهو ما يجعل أزمة الكركرات بمثابة أول تحدي للأول العام الجديد. وفي جميع الأحوال فهي المادة الأساسية والموضوع الجوهري لتقرير المقبل، في شهر أبريل المقبل، الذي سيقدم لمجلس الأمن قبل الدراسة الدورية للحالة في الصحراء، وهو ما يجعل هذا الموعد ذي أهمية لأنه قد يشكل منعطفا في مسار الملف برمته.
سادسا: الحرب، فرضية قائمة، لكنه تيه أكيد، و إعادة خلط للأوراق، لنهاية مجهولة؟ غير أن غايات جميع الأطراف وأهدافهم تبقى نظرية فقط. فللحرب، إن جنحوا إليها منطقها و نظامها الخاص بها، فقد يرسمون بعض ملامح ما ستسفر عنه بالخطة المحكمة والقوة الناجعة، والإرادة الصلبة، لكن في جزء كبير منها، فالحرب تبعثر كل الأوراق، و تربك كافة السياسات، و تخطئ كل الحسابات، مهما كانت مضبوطة ومرتبة، بل و تعقد الخيوط مهما كانت عقدها محلولة، وتغوصها في بحر أكوام من العقد، مهما كانت في مظهرها جلية، وغالبا ما تسفر عن مفاجآت لم تكن منتظرة. و كم من فاعل ادعى القوة، وسعى إلى الحرب، فأصبح بفعلها ميتا أو أسيرا مجرورا.
إلا أن ذلك لا يجنب الحرب، فكما هي مختارة، فقد تكون مفروضة، ولا يجب الهروب منها، ولا الزيادة والغلو في مزايا السلام، فيحس الآخر أنك تنهزم و تستسلم، فالمؤشرات تحكي أن الحرب آتية، مهما تم تأجيلها، و أن الإستعداد لها من أجل خوضها والإنتصار فيها، أفضل من تجاهلها حتى تداهمك، .فمهما كانت إرادة السلام رزينة وحكيمة، فإرادة تستسلم إستجابة لضرورة تحدي إرادة الحرب، فالحرب مزاج بشري، يجب وضعه في الحسبان.
محامي بمكناس، خبير في القانون الدولي، الهجرة ونزاع الصحراء.