زاوية هذا الملف هو زووم على المشاريع الكبرى التي ميزت حكم محمد السادس، على مدى ما يقرب من مسيرة ربع قرن من الحكم، مشاريع بارزة أعطت المغرب وجها آخر، وعززت ثمار هذه المشاريع المهيكلة الكبرى قدرته على جلب استثمارات أجنبية جديدة، وتحفيز الأعمال في مختلف القطاعات الاقتصادية الواعدة، بما يضمن خلق الثروة وإحداث فرص العمل. مشاريع بنيوية كبرى واستثمارات إمبراطورية قادها الملك في قطاعات النقل والطاقة والصناعة والفلاحة والتكنولوجيات الحديثة وغيرها، إضافة إلى أقوى التحولات السياسية البارزة التي قادها محمد السادس خلال 22 سنة من الحكم. 22 سنة من الحكم شهدت إنجازات عديدة. فُتحت آمال وردية، هبّت رياح عاتية من المشاكل المزلزلة داخل المغرب وخارجه، وانتصبت تحديات وطموحات كبرى. من يوم تربعه على العرش في 30 يوليوز 1999 حتى اليوم، انتقل محمد السادس من الملك الشاب الذي جال المغرب شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، مع ما صاحب ذلك من حماس البدايات، بمشاريع انصبت على الجانب الاجتماعي والسياسي، من المصالحة الاستثنائية وطي صفحة الماضي الأليم وتحصين الترسانة القانونية كي لا تتكرر مآسي سنوات الرصاص، إلى المفهوم الجديد للسلطة، فمدونة الأسرة. ثورة اجتماعية ناعمة عرفت إطلاق برنامج التنمية البشرية وعملية التضامن، لأجل ترسيخ ما سيبقى بعد التخلص من أغلال الماضي ووضع المملكة على سكة قطار المستقبل، بحكمة أكبر ورؤية استراتيجية أعمق. هنا سيتجه الملك محمد السادس إلى المشاريع المهيكلة، مشاريع اقتصادية عملاقة، بعضها ذو مردود عاجل وسريع، فيما بعضها الآخر بمردودية أكيدة لكنها مؤجلة لن تظهر إلا بعد حين. 22 سنة من الحكم، مليئة بالرهانات والطموحات والتحديات. خارج الحراك الاجتماعي في الريف وجرادة وما تولد مع مخاض الربيع العربي، اتسمت ظروف المملكة في منحاها العام بالاستقرار الاجتماعي والأمني والمؤسساتي. أبرز الأحداث الصعبة التي عبرها المغرب على عهد الملك محمد السادس كانت نابعة من التحولات الإقليمية والدولية، من أحداث 11 شتنبر والحراك العربي حتى جائحة كورونا، حولها المغرب إلى عناصر بناء استثنائية، فجعل من الحدث الإرهابي الذي هز العالم، فرصة نادرة لسن سياسة استباقية في مواجهة الإرهاب المُعولم الذي ضرب المملكة ثلاث مرات في 2003 و2007، و2011 غداة تفجير مقهى أركانة بمراكش، حيث عمل على تطوير أجهزته الأمنية وتحديثها بأذكى تقنيات التكنولوجيا المعلوماتية وتعزيز كفاءة الذكاء البشري للمخابرات المغربية التي شهد العالم بقوتها ونجاعة خطتها في المنطقة. مع الربيع العربي، مال خطاب الملك التاريخي في 9 مارس إلى تعزيز الانفتاح الديمقراطي، فكان دستور 2011 علامة فارقة في المعمار الدستوري، وتوجت انتخابات 25 يونيو 2011 بصعود أول حكومة برأس إسلامي في تاريخ الحكومات العربية، وهو ما خلق للمغرب متاعب كبرى خاصة مع ملكيات الخليج، ومع ذلك، لم يتخل الملك حتى في انتخابات 2016 عن احترام صناديق الاقتراع. ومع جائحة كوفيد 19، التمس المغرب طريق صناعة الحرير الصحي، حيث أنشأ، بشراكة مع الصين، أول مختبر إفريقي لصناعة اللقاحات بكمية وافرة في ظرف وجيز، ونجح حتى اليوم في الخروج بأقل تكلفة من أزمة الوباء الذي لازال يعيش بيننا حتى اليوم. 22 سنة من الحكم، احتضنت المشاريع المهيكلة الكبرى: ميناء طنجة المتوسطي أيقونة محمد السادس، والقاعدة العسكرية المجاورة بالقصر الصغير، إطلاق قطار «تي جي في» والقمرين الصناعيين «محمد السادس»، دخول المغرب أوراش الصناعات الدقيقة، والريادة الدولية لمشروع الطاقات المتجددة بمركب «نور»، ثم الإعلان عن مشروع ميناء الداخلة الدولي، وقرب اكتمال الطريق السريع الذي سيربط أكادير بعمق الصحراء، بما يشكل دعامة أساسية وخطوة تنموية كبرى من شأنها أن تساعد الاقتصاد الوطني على جلب الاستثمار الأجنبي وربط القارة السمراء بأوروبا عبر المغرب. «البراق» .. القطار فائق السرعة الذي سيقترن باسم محمد السادس يوم 23 أكتوبر 2007، أبرم الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي اتفاقا حول مشروع القطار فائق السرعة، طنجةالدارالبيضاء، يقضي بالسماح للشركات الفرنسية ومنها شركة «ألستوم» بتصميم خط القطار وبنائه وتشغيله وصيانته بتكلفة قدرت بمبلغ 2,6 مليار دولار، وقد دخل حيز الخدمة عقب تدشينه من قبل العاهل المغربي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2018. يعتبر مشروع «البراق» بوصفه أسرع قطار في إفريقيا، أحد المشاريع الضخمة التي ستقترن باسم محمد السادس، كلفت عملية إنجازه، استثمارا إجماليا قدر بمبلغ 22,9 مليار درهم، أي ما يعادل 1,9 مليار دولار، دون احتساب عمليات الصيانة التي يرتقب أن تكلف 3 مليارات درهم سنويا، ساهمت الحكومة الفرنسية في تمويل القطار السريع المغربي بنحو 51 في المائة من إجمالي الاستثمارات الخاصة به، من خلال القروض والتمويلات التي صرفتها لفائدة المكتب الوطني للسكك الحديدية، فيما مول المغرب بشكل ذاتي 28 في المائة منه، مقابل تحصيله لحصة 21 في المائة المتبقية عبر صناديق عربية من السعودية والكويت والإمارات، وهو ما جعل قطار البراق يتصدر قائمة المشاريع الكبرى في القارة الإفريقية. يبلغ طول الخط السّككي فائق السرعة 350 كلم، يقطع 320 منها بسرعة 180 كلم في الساعة انطلاقا من طنجة حتى القنيطرة، وهي المسافة التي يقطعها القطار السريع في مدة زمنية لا تتعدى 50 دقيقة عوض ثلاث ساعات و15 دقيقة، ثم تنخفض سرعته بعد ذلك ليقطع المسافة في ساعتين و10 دقائق عوض أربع ساعات و45 دقيقة. وفّرت المجموعة الفرنسية ألستوم 12 عربة من طابقين تصل سعتها إلى 533 مسافرا، قسمت بين 121 مقعدا لمرتادي الدرجة الأولى و412 لمستعملي الدرجة الثانية من القطار، وتجدر الإشارة إلى أن الشركات الفرنسية المنخرطة في إنجاز المشروع هي «ألستوم»، «أنسالدوإينيو»، «سيجي ليك» و»كولا راي إيجيس راي»، في حين أن الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية تعمل على مواكبة المشروع مع المكتب الوطني للسكك الحديدية بالمغرب. قمرا محمد السادس الصناعيين: التفوق الأمني في نونبر 2017 أعلنت شركة «أريانسبايس» الفرنسية، إطلاقها أول قمر صناعي مغربي لمراقبة الأرض يحمل اسم «محمد السادس أ » يقوم بنشاطات في مجال مسح الأراضي والبحار والرصد الزراعي والوقاية من الكوارث الطبيعية وإدارتها فضلا عن تطورات البيئة والتصحر ومراقبة الحدود. وبعد سنة من ذلك، وبهدف تعزيز القدرات الأمنية والاستخباراتية للمملكة، تم إطلاق ثاني قمر صناعي باسم «محمد السادس ب » من محطة «غيانا» الواقعة على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية التابعة للسيادة الفرنسية، وهما القمران اللذان يتكامل دورهما من حيث فوائدهما على مجالات متعددة بالمملكة. تمت عملية تطوير القمر الصناعي «محمد السادس» من طرف كل من Thales AleniaSpace وشركة إيرباص، حيث سهرت الأولى على تصميم كل ما له علاقة بنظام نقل الصور ومعالجتها وإنتاجها، أما شركة إيرباص، فتكلفت بتوفير النظام الرئيسي للقمر والجزء الأرضي وتخطيط الرحلة والتحكم في الأجهزة. إطلاق القمرين الصناعيين «محمد السادس» رسم استراتيجية أمنية قوية تهدف إلى تطوير بنية تحتية تكنولوجية متقدمة وعالية الجودة لفائدة المراقبة الخرائطية، عوض اللجوء فقط إلى التصوير الجوي أو طلب صور من لدن موردين على المستوى الدولي، وهو ما عزز استقلالية المملكة التي استفادت من صور القمرين في ملفين أساسيين: تدريب عناصر من حزب الله لمليشيات بوليساريو، ومعركة الكركرات الحاسمة التي قلبت موازين القوى في المنطقة لصالح المملكة. كان طبيعيا أن يثير إطلاق المغرب القمرين الصناعيين قلق الجارتين اللدودتين: إسبانيا والجزائر، لكونهما يمكنان المملكة من حماية حدودها البرية والساحلية، ورصد تحركات عناصر بوليساريو في المنطقة العازلة، وتسلل عناصر التنظيمات الإرهابية وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تنشط على الحدود المغربية، في مجالات التهريب والمخدرات والهجرة السرية. وهو ما يوفر قاعدة بيانات واسعة ومعلومات استخباراتية دقيقة تصل توا إلى الرباط بدقة عالية، بفضل قدرة القمرين على ضبط الأشياء المتحركة والثابتة بدقة، كما يتمتّعان أيضا بامتيازات تتمثل في تقديم أجوبة مهمة على ما تتم برمجته في القاعدة العسكرية بسلا التي تستقبل معلومات القمر الصناعي محمد السادس. ميناء طنجة المتوسط .. القاطرة في 30 يوليوز 2002، بمناسبة الذكرى الثالثة لجلوسه على العرش، أعلن الملك محمد السادس عن إنشاء مشروع ضخم ب»طنجة ميد»، وبعد 17 سنة أصبح ميناء طنجة المتوسط حقيقة أحد أكبر موانئ البحر الأبيض المتوسط، كمعبر بحري لمرور أكثر من 100 ألف سفينة سنويا و200 سفينة شحن يوميا من المضيق، وأصبح مركزا محوريا لإعادة الشحن بالنسبة لتدفقات البضائع العالمية، وحلقة مركزية تربط بلدان آسيا وأوروبا وإفريقيا والأمريكيتين. انطلقت أشغال مشروع طنجة المتوسط عام 2003، وبسرعة قياسية جرى افتتاح «ميناء طنجة المتوسط 1» عام 2007، وبعدها بسنتين تم إطلاق المنصة الصناعية الكبرى طنجة المتوسط على مساحة خمسة آلاف هكتار. وفي سنة 2010 افتتح ميناء المسافرين والشاحنات، وبعده مجمع رونو طنجة المتوسط في عام 2012، في الوقت الذي تم فيه افتتاح المنطقتين الصناعيتين «طنجة أوتوموتيف سيتي» و»تطوان شور» للأعمال في عام 2013. وخلال عام 2014، بلغ ميناء «طنجة المتوسط 1» درجة متقدمة في معالجة الحاويات، وصلت إلى 3 ملايين حاوية، فيما جرى افتتاح المنطقة الصناعية «تطوان بارك» في سنة 2015 تزامناً مع استكمال المرحلة الأولى من ميناء طنجة المتوسط 2، أما في سنة 2016، فقد تم التوقيع على عقود امتياز جديدة لاستغلال «محطة الحاويات4» و»طنجة المتوسط 2»، باستثمار قدره 900 مليون دولار من طرف شركة «أي بي إم ترمينالز»، بينما عرف عام 2017 بدء تشغيل محطة الصادرات للشاحنات والحاويات. وقد بلغ الحجم الإجمالي المعالج بالمركب المينائي طنجة خلال عام 2020، 81 مليون طن، أي بزيادة نسبتها 23% مقارنة مع سنة 2019، كما عالج ميناء طنجة المتوسط حوالي 47 % من إجمالي الحمولة المعالجة بكافة موانئ المملكة المغربية، وتمت معالجة 5.771.221 حاوية من حجم عشرين قدما بالمركب المينائي خلال سنة 2020، ويكرس هذا الرواج اليوم مكانة طنجة المتوسط باعتباره أكبر ميناء لمعالجة الحاويات في حوض البحر المتوسط. تحول الميناء إلى الشريك التجاري الأول ل 180 ميناء حول العالم (38 منها في إفريقيا)، فقد سمح قرب المركب المينائي طنجة المتوسط من أوروبا (13 كلم من إسبانيا)، بأن يكون حلقة وصل حقيقية بين مجموع القارات، بالإضافة إلى كونه محطة لتصريف السلع والسيارات الجديدة الحاملة لعلامة رونو، وغدا أول ميناء تصدير مغربي، من خلال توسيع التعاون التجاري البحري مع موانئ إفريقيا. لقد سمح ميناء طنجة المتوسط للمغرب بأن يشكل قطبا لوجيستكيا وصناعيا لأكثر من 800 شركة عالمية تنشط في قطاعات مختلفة تهم الصناعات الدقيقة والطائرات والنسيج واللوجيستيك والخدمات والتجارة بحجم مبادلات يفوق 72 مليار درهم، تعادل 7.8 مليار درهم. إفريقيا: نقطة النهاية للكرسي الفارغ «إنه لأمر جيد للغاية أن تعود إلى بيتك بعد وقت طويل من الغياب لملاقاة الأسرة». هناك بصمة سياسية ملازمة للملك محمد السادس، تظهر في توجهه الإفريقي الذي جعل مجلة «جون أفريك» تلقبه ب»الملك الإفريقي». مغامرة سياسية في فضاء يتسم بعدم الاستقرار وعدم المعرفة بمجاله الجغرافي، وسط طغيان الأحكام المسبقة عن الجنوب الإفريقي. وبعد مقاطعة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، قام الملك محمد السادس ب 46 زيارة إلى 25 دولة في القارة السمراء، لتعزيز العلاقات المغربية الإفريقية. وفي نهاية يناير 2017، سيعود المغرب إلى حضن الاتحاد الإفريقي بعد قطيعة دامت 33 عاما، في اجتماع مغلق لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي، حضره الملك شخصيا حيث ألقى خطابه التاريخي الذي بدأه بقوله: «إنه لأمر جيد للغاية أن تعود إلى بيتك بعد وقت طويل من الغياب لملاقاة الأسرة الإفريقية». متمنيا أن يسهم ذلك في تعزيز علاقات التعاون والأخوة والصداقة التي تجمع المغرب بالدول الإفريقية. ورغم مناورات الخصوم، قابل العديد من القادة الأفارقة عودة المغرب وخطاب الملك بالكثير من الحفاوة، وصوتت الأغلبية الساحقة لصالح انضمام المغرب ب 40 صوتا من أصل 51. اختار محمد السادس تغيير استراتيجية السياسة الخارجية للمملكة، والانتقال من سياسة الدفاع إلى الهجوم، واللعب في ذات الملعب الذي يلعب فيه خصومه ومعارضوه. هذه العودة كانت ذات نفس طويل، وذات مردودية اقتصادية وسياسية كبرى، حيث أصبح المغرب ثاني أكبر مستثمر في إفريقيا. بصمة العهد الجديد في الصحراء في أبريل 2007 تقدم المغرب بمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية للأمم المتحدة. نتذكر لقاء الملك الراحل مع جبهة بوليساريو حين طرح مناقشة كل شيء إلا الراية والعملة. لقد كان يتحدث عن السيادة، ويفتح مجالا للمصالحة الكبرى في إطار شعاره القائل «إن الوطن غفور رحيم». أبرزت التجربة الدبلوماسية للمغرب في ملف الصحراء بعد حكم محكمة لاهاي ودخول قضية الوحدة الترابية ردهات الأممالمتحدة، أن المجتمع الدولي الخارج للتو من حرب باردة أصبح يتكلم لغة قانونية جديدة، فكان لا بد من الاشتغال بذكاء لإيجاد مخرج سياسي من مأزق الباب المسدود، فكان مشروع الحكم الذاتي الذي لقي تأييدا عالميا، حيث رأى فيه المنتظم الدولي حلا واقعيا إيجابيا ومشروعا عمليا بحكم طابعه التوافقي والمنفتح، الذي يشكل أرضية للحل السياسي المتفاوض عليه، بالنظر لمضمونه وغاياته، المتمثلة في جعل الصحراويين يتولون التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية، من خلال هيئات تمثيلية، تشريعية وتنفيذية وقضائية. كما ستتوفر لهم الموارد المالية الضرورية لتنمية الجهة في كافة المجالات، والإسهام الفعال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمملكة. وتحتفظ الدولة باختصاصاتها في ميادين السيادة، لاسيما الدفاع والعلاقات الخارجية والاختصاصات الدستورية والدينية لأمير المؤمنين. وتروم المبادرة المغربية للحكم الذاتي توفير الظروف المواتية للشروع في مسار للتفاوض والحوار، كفيل بأن يفضي إلى حل سياسي مقبول من جميع الأطراف. وقد عبر المغرب عن استعداده للانخراط في مفاوضات جدية وبناءة، على أرضية الحكم الذاتي الذي يستجيب لمقررات الأممالمتحدة الأخيرة حول الحل السياسي المتفاوض عليه. وكان من نتائج مبادرة الحكم الذاتي سحب أكثر من 50 دولة اعترافها بجبهة بوليساريو من أصل 80 دولة كما كان في السابق، ومع خوض المغرب دبلوماسية السفارات بالعيون والداخلة، اتخذت موازين القوى طبيعة أخرى لصالحه، خاصة بعد معركة الكركرات والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. الثورة الناعمة صدر قانون مدونة الأسرة في الجريدة الرسمية بتاريخ 5 فبراير 2004، ليتم إقرار قانون إصلاحي متقدم لصيانة حقوق أفراد الأسرة من خلال إقرار مجموعة من الإصلاحات مثل، تحديد سن الزواج لكل من الزوجين في 18 سنة، ووضع الأسرة تحت رعاية ومسؤولية الزوجين، ورفع الوصاية والحجر على جميع النساء الراشدات، ووضع الطلاق تحت مراقبة القضاء والتسوية بين الزوج والزوجة في توقيعه، واستفادة الزوجة المطلقة من حقها في ما تراكم من أموال مكتسبة منذ قيام الزوجية، وإحداث أقسام لقضاء الأسرة بالمحاكم، والأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي والصحي والدراسي للطفل عند افتراق الأبوين سواء من حيث السكن أو مستوى العيش الذي كان عليه قبل الطلاق. جاءت مدونة الأسرة في عز تنامي التيار الإسلامي، وانتشار التقليد والمحافظة في المملكة، وبعد هجمة غير مسبوقة على مشروع إدماج المرأة في التنمية الذي تقدمت به حكومة اليوسفي من خلال وزيرها سعيد السعدي. انشطر المغرب إلى قسمين في ما يشكل حربا هوياتية كما مثلتهما مسيرة الدارالبيضاء الضخمة للمحافظين ومسيرة الرباط المتواضعة للحداثيين. ومع ذلك، اختار الملك محمد السادس الانتصار لقيم الحداثة واستيعاب مطالب المحافظين مع تطويعها، وحسم الجدل بتعيين لجنة استشارية للسهر على وضع قانون مدونة الأسرة برئاسة الراحل امحمد بوستة، حيث قدمت اللجنة خلاصاتها للملك، ليتم حسم جدل عمّر طويلا، وعمق هوة النقاش حول الأفكار والمرجعيات بصياغة إصلاحات متقدمة ساهمت في صيانة وحماية الأسرة المغربية من تبعات الطلاق والهجر وحرمان الأطفال من الرعاية النفسية والاجتماعية، كما أنهت عقود زواج القاصرين دون سن 18 سنة. إصلاحات لقيت تجاوبا مجتمعيا ودوليا، وقد ارتفعت اليوم أصوات تنادي بإجراء تعديلات على بعض النصوص في المدونة، خاصة أن 17 سنة من التطبيق بينت الثغرات التي يجب تداركها في تعديل جديد لمدونة الأسرة تفرضه التحولات المجتمعية. تدخل مدونة الأسرة ضمن مشروع استراتيجي انتصر فيه الملك محمد السادس لقضايا المرأة والطفولة، وضمنها إحداث قانون خاص بالعنف ضد النساء، صدر تحت رقم 103.13، وتضمن عقوبات زجرية جديدة، وأقر مجموعة من التعديلات على فصول القانون الجنائي، عن طريق تغييره وتثمينه. كما عزز دستور سنة 2011 مكانة المرأة داخل المجتمع المغربي، ورسخ مشاركتها في الحياة السياسية والعامة، وذلك من خلال قيامه على مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية. كما جدد التأكيد في الفصل 19 منه على أن يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب. الخروج من منطقة الزوابع في 20 فبراير 2011 وصلت رياح الربيع العربي إلى المغرب. لم تواجه الدولة المحتجين بهجمات قمعية، حين طالب نشطاء الحركة بوضع حد للفساد والاستبداد. وفيما كان المحيط الإقليمي يغلي بعد انتفاضة الشارع ومشاهد القمع والقتل والحرب المدمرة كما حدث في ليبيا واليمن وسوريا، اتخذ الحراك المغربي طابعا سلميا. استوعب الملك الرسالة وألقى يوم 9 مارس، خطابا تاريخيا منح المملكة ولادة ملكية دستورية ثانية، حيث أعلن محمد السادس في خطاب ثوري حداثي عن مبادرات إصلاحية في الشأن السياسي، متحدثا عن جهوية موسعة في جميع الأقاليم، وإجراء تعديل دستوري شامل يستند على سبعة مرتكزات أساسية، من خلال دسترة الأمازيغية كلغة وطنية مع تكريس الهوية المغربية بتعدد روافدها الثقافية، إرساء دولة الحق والقانون، والارتقاء بالقضاء كسلطة مستقلة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة واختيار رئيس الحكومة من الحزب الأغلبي مع توسيع مهامها، وتكريس دور المعارضة والمجتمع المدني وتوسيع اختصاصاتهما، وتخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتثمين دور هيئات الحكامة وحقوق الإنسان. كما أعلن الملك محمد السادس عن تشكيل لجنة لصياغة الدستور وعرضه على الاستفتاء الشعبي. في اليوم الموالي، سيعين الملك عبد اللطيف المانوني رئيسا للجنة تعديل الدستور، ودعيت الأحزاب والهيئات السياسية للمشاركة فيها، وبعد مشاورات هامة ستعرض اللجنة نص الورقة الدستورية على أنظار الملك، وهي ورقة ضامنة لثوابت الأمة وتسهر على مهام السيادة والتحكيم الأسمى، مع تمكين رئيس الحكومة الذي يتم اختياره من الحزب الفائز في الانتخابات من سلطات تنفيذية واسعة، وممارسة فعلية للبرلمان بغرفتيه بصفته هيئة تشريعية. عرضت الوثيقة الدستورية على الاستفتاء العام في فاتح يوليوز 2011، وتم إقرار دستور جديد للمملكة متقدم وحداثي، بشهادة أغلب المتتبعين والخبراء في القوانين الدستورية، وأصبح ساري المفعول بعد نشره في الجريدة الرسمية يوم 30 يوليوز 2011. دخل المغرب في مرحلة ما سمي بالتنزيل الديمقراطي لمضامين الدستور، أفرزت الانتخابات خريطة سياسية بمكون إسلامي جديد يتمثل في فوز حزب العدالة والتنمية. احترم الملك صناديق الاقتراع وفق الفصل 47 من الدستور وعين عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة لولايتين متتابعتين، رغم عدم رضا الكثير من الفاعلين داخل وخارج المملكة. وقد كانت تجربة متميزة بما لها وما عليها، منحت المملكة استقرارا لمؤسساتها وتجديدا لدوران النخب. هذا البعد، سيرسخ دور الملكية ويعزز موقعها في الحقل العام بالمغرب، فحتى وإن بدا أن الوثيقة الدستورية سحبت العديد من الاختصاصات من يد الملك، فقد منح محمد السادس الملكية قوة كاسحة وإجماعا وطنيا، لم تأت الأحداث المتتالية إلا لتأكيد ترسيخه.