* رضوان مبشور الخطاب الملكي الذي ألقاه محمد السادس بمناسبة عيد العرش لسنة 2002، أكد بما لا يدع مجالا للشك أن العلاقات بين الرباطومدريد ليست على ما يرام، كما أن العلاقات الشخصية للملك مع رئيس الحكومة الإسبانية في تلك الفترة لم تكن أبدا جيدة، وكان يطبعها نوع من الصدام. هذا ما يمكن أن نفهمه بشكل أكبر عندما نقرأ بعض صفحات مذكرات الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك «الزمن الرئاسي»، حيث حكى شيراك تفاصيل لقاء جمعه مع الملك محمد السادس بجوهنسبورغ في جنوب إفريقيا، في العام 2002، على هامش القمة العالمية للتنمية المستدامة، قائلا: «… يوم ثالث شتنبر 2002 حضرت أحد لقاءات رؤساء الدول الفرنكوفونية الذي انعقد بفندق هيلتون، هذا اللقاء غير الرسمي أعطاني الفرصة للقاء مجددا بملك المغرب محمد السادس، هذا العاهل الشاب كان جد مشغول بالوضع السياسي لبلده»، وهو يلمح في ذلك إلى الأزمة التي نشبت في ذلك العام بين المغرب وإسبانيا بخصوص جزيرة «ليلى» وكيف كادت الأمور أن تتطور إلى حرب مباشرة بين المملكة الشريفة والمملكة الإيبيرية. ولو أن مذكرات جاك شيراك لم تعط تفاصيل أكثر، غير أن شغفنا بمعرفة تفاصيل ما جرى بالضبط في تلك الفترة، مكننا من أن نقرأ المزيد في مذكرات الوزير الأول الإسباني في تلك الفترة خوصي ماريا أثنار، الذي سرد وجهة نظره الخاصة، التي قال من خلالها جزءا من الحقيقة وليس الحقيقة كلها. ومن خلال قراءة متأنية لصفحات مذكراته التي تحمل عنوان «التزام السلطة» سنكتشف أن أثنار كانت لديه عقدة اسمها «المغرب» الذي لم يكن ينظر إليه بعين الرضى، ونفس الشيء مؤكد بالنسبة لملوك المغرب الذين لا يُكِنُّون له أي نوع من الود، حيث سبق للحسن الثاني أن هدد أثنار في حضرته باللجوء إلى الحرب، كما أن الملك محمد السادس خاض معه حربا دولية كبيرة في ما يتعلق بجزيرة ليلى. خوصي ماريا أثنار الذي وصل إلى كرسي الوزير الأول في حكومة مدريد المركزية في العام 1996 وجد في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط الحسن الثاني الذي كان يصنف من طينة السياسيين من الوزن الثقيل. ويحكي أثنار بعض تفاصيل لقائه مع الحسن الثاني، قبل ثلاثة أشهر فقط من وفاة الأخير، عندما استقبله في القصر الملكي بالرباط، وعاود مطالبته بحق المغرب في استرجاع سبتة ومليلية. يقول أثنار في مذكراته: «… في لحظة من اللحظات تفوه الحسن الثاني بكلمة حرب، بالطبع ليقول إن بلاده لن تعلن الحرب بخصوص هذه المسألة. لكن كلامه كان خارجا عن الموضوع مما دفعني إلى الرد: موقفك جيد ولكن إذا أعلن المغرب الحرب على إسبانيا فسيخسرها». غير أن الحيز الأكبر من مذكراته هو الذي خصصه أثنار للحديث عن الملك محمد السادس، خاصة وأن ولايته تزامنت مع حكم العاهل المغربي الجديد لخمس سنوات، قبل أن تنتهي مهامه الوزارية في العام 2004. في مذكراته «التزام السلطة» يحكي بعض فصول المواجهة مع محمد السادس لما كان وليا للعهد، فيكتب على سبيل المثال في الصفحة 56 عن واقعة حدثت في العام 1997، زار فيها ولي العهد المغربي إسبانيا في زيارة رسمية، حيث زار قرطبة ومدريد وأقام له أثنار حفل غذاء في قصر رئاسة الحكومة. يتابع أثنار»… قبل مجيء باقي المدعوين، عقدنا اجتماعا نحن الاثنان في مكتبي، ولم تكن المحادثة سهلة، فقد طرح علي الأمير ضرورة تغيير إسبانيا لموقفها من الصحراء، فقد كان قلقا. فاستمرار مشروع التسوية والتحركات التي كان يقوم بها جيمس بيكر كممثل شخصي للأمين العام للأمم المتحدة جعلته يخاف على مستقبل الصحراء. وشرحت له أن إسبانيا ستستمر في تبني موقفها من الصحراء». ويضيف: «… هذا ما أدى إلى عتاب آخر بسبب رفضي معالجة مغربية سبتة ومليلية. جوابي لم يعجب الأمير، وهذا فاجأني. تيقنت أن المغرب لم يقيم جيدا نوايا وأهداف الحكومة الإسبانية الجديدة، ولم يكن هذا الخطأ الوحيد في حساباته السياسية نحونا». وفي صفحات أخرى من الكتاب يتذكر أثنار اللحظات التي رأى فيها الملك محمد السادس وهو يذرف الدموع إثر وفاة والده الحسن الثاني وكان يقف إلى جانبه الملك الإسباني خوان كارلوس الذي كان هو الآخر يبكي. «… الملك خوان كارلوس استعاد علاقاته المتينة مع الحسن الثاني والذي كان يناديه بالأخ الأكبر، وقال بعطف لمحمد السادس «الآن أنا هو الأخ الأكبر». هذه الجملة كانت تعبر عن عطف حقيقي، ولكن كنت أعتقد دائما أنه إذا كانت العلاقات العائلية هي التي تؤثر على العلاقات الخارجية للمغرب، فالأخ الأكبر الحقيقي كان هو جاك شيراك. هذا الأخير كان يتحدث لي في الكثير من المناسبات عن العلاقة الجيدة التي تجمعه بالملك محمد السادس وكيف كان يحمله عندما كان صغيرا ويلعب معه». ويقول خوصي ماريا في أجزاء أخرى من مذكراته متحدثا عن محمد السادس: «… مع رحيل الملك الحسن الثاني وتولي محمد السادس العرش ستبدأ صفحة جديدة في السياسة الخارجية للمغرب تجاه إسبانيا. المغرب سيتحالف مع فرنسا ضد مصالح إسبانيا، فجاك شيراك كان يوحي للمغرب بعدم تجديد اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي والتي يستفيد منها أسطول الصيد البحري الإسباني خصوصا، كما أن شيراك نفسه كان يوحي للمغرب بالضغط على إسبانيا في ملف سبتة ومليلية لجعل إسبانيا تغير موقفها من الصحراء». ويبدو أن خوصي ماريا أثنار كانت له كذلك عقدة من شيراك الذي كان يخص الملك محمد السادس بعلاقة خاصة، إذ يورد على سبيل المثال في الصفحة 59 من كتابه: «… أتذكر في اجتماع جمعني بشيراك بمناسبة رئاسة إسبانيا للاتحاد الأوروبي، أن شيراك قال لي: تتعامل مع الملك محمد السادس أسوأ من الطريقة التي يتعامل بها أرييل شارون مع الفلسطينيين.. وكان قول شيراك باطلا والاتهام ناتج عن الأبوية، وككل أبوية، يكون الخاسر دائما هو الابن». وإذا كان أكبر مشكل ما بين خوصي ماريا أثنار ومحمد السادس هو المرتبط أساسا بمشكل جزيرة ليلى، الذي انفجر بين البلدين في العام 2002، فقد خصص له أثنار 5 صفحات كاملة من مذكراته، ليقول من زاوية نظره الخاصة وفهمه وتحليله الشخصي للأمور: «… من الصعب معرفة السبب الذي دفع محمد السادس إلى ارتكاب خطأ استراتيجي من نوعية احتلال جزيرة تورة. بدون شك، التأييد الذي كان يلاقيه من فرنسا، ولكن كذلك بعض الأوساط الصحفية والسياسية الإسبانية». ويسرد أثنار، مدافعا عن وجهة نظره التي لا تعني بالضرورة الحقيقة كما هي، (يسرد) ما يسميها الإجراءات التي قام بها مباشرة بعد دخول قوات الدرك الملكي المغربي إلى الجزيرة وهي «الاتصال بملك إسبانيا وإخباره بالتطورات»، ثم: «قمت بالاتصال برئيس الحكومة المغربية عبد الرحمان اليوسفي الذي كنت أعرفه جيدا.. عندما اتصلت باليوسفي أستفسره ماذا يفعل أفراد من الدرك الملكي في جزيرة «تورة» أجابني أنه لا يعلم شيئا وسيطلع على الأمر، فطلبت منه أن يتم حل هذا المشكل في 24 ساعة المقبلة»، وهو ما جعل أثنار يقتنع أن «عدم اطلاع اليوسفي على الأمر يوحي بأن القرار اتخذه الملك محمد السادس وجاك شيراك». ويؤكد أثنار أنه اتصل بجميع قادة الحلف الأطلسي الذين أكدوا له الدعم المطلق باستثناء الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وبعدها يحكي كيف أنه بدأ الإعداد لعملية عسكرية لإخلاء الجزيرة من التواجد العسكري المغربي، محمّلا المغرب مسؤولية تدهور الأوضاع التي أدت إلى التدخل لأنه تماطل في الرد كما تعامل باستخفاف مع الأمر. وفي الصفحة 69 يكتب: «… لم نكن نبحث من خلال التدخل العسكري عن إذلال المغرب بل فقط الدفاع عن إسبانيا وإرسال رسالة واضحة أن الحكومة لن تقبل احتلال أي أراض بما في ذلك جزيرة صخرية صغيرة وغير مأهولة. التخلي عن جزيرة تورة كان الخطوة الأولى نحو مسيرة التخلي عن سبتة ومليلية والجزر الخالدات». يوم هاجم محمد السادس إسبانيا في خطاب رسمي ومع بداية عهد الملك محمد السادس، عاد هذا النقاش إلى السطح مجددا، إلى درجة أنه في العام 2002 كادت أن تنشب حرب بين المغرب وإسبانيا بسبب جزيرة «ليلى»، لولا تدخل الإدارة الأمريكية المتمثلة حينها في وزير خارجيتها كولين باول والرئيس الفرنسي في تلك الفترة جاك شيراك، اللذين حاولا تهدئة الأوضاع بين الرباطومدريد. الخلاف المغربي الإسباني جعل الملك محمد السادس يخصص جزءا غير يسير من خطاب العرش يوم 30 يوليوز 2002، الذي اختار أن يلقيه من القصر الملكي بطنجة، على بعد 14 كيلومترا فقط من المملكة الإيبيرية، للحديث عن الموضوع، حيث قال: «… ما قامت به الحكومة الإسبانية من اعتداء عسكري على جزيرة تورة التي تؤكد الحقائق التاريخية والجغرافية والمستندات القانونية أنها ظلت دوما جزءا من التراب الوطني تابعا لسيادة المملكة المغربية…». ويمكن كذلك أن نقرأ في خطاب الملك أن: «المغرب يتشبث برجوع الوضع في هذه الجزيرة المغربية إلى ما كان عليه»، وأن «المغرب يرفض التصعيد وفرض الأمر الواقع بالقوة»، مردفا: «إننا حريصون على ضمان السلم والاستقرار وحسن الجوار في منطقة جبل طارق الإستراتيجية». لكن الفقرة التي كانت الأهم في خطاب الملك، هو حديثه بشكل مباشر عن سبتة ومليلية: «المغرب لم يفتأ منذ استقلاله يطالب إسبانيا بإنهاء احتلالها لسبتة ومليلية والجزر المجاورة المغتصبة في شمال المملكة، سالكا في ذلك سبيل التبصر والنهج السلمي الحضاري الذي يجسده الاقتراح الحكيم لوالدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني أكرم الله مثواه بإنشاء خلية مشتركة مغربية إسبانية للتفكير والتأمل لإيجاد حل لمشكل هذه المناطق المحتلة». كما عبر الملك محمد السادس في خطابه آنذاك عن «أسفه الشديد»، إذ قال: «لم نجد حتى الآن آذانا صاغية من لدن الطرف الإسباني لتسوية وضع هذه الثغور المغتصبة التي تحولت إلى مراكز لاستنزاف اقتصادنا الوطني وقواعد للهجرة السرية ولكل الممارسات غير المشروعة».