طوينا واحدة من أسوأ السنوات في عمر ثلاثة أجيال على الأقل. وكل متمنياتنا ألا تتكرر مثل هذه الجائحة التي أصابت العالم في مقتل. وبما أن الأمور بيد الله، فإن الحياة تستمر بالكفاح من أجل الأحسن، وفي النكبات، من أجل الأقل سوءا. نستشرف في هذه السنة الملفات الحارقة التي تنتظر مملكة محمد السادس، ومنها ملفات خرجت من رحم آثار الجائحة كالإقلاع الاقتصادي والقطاع غير المهيكل والعدالة الاجتماعية وتثوير قطاع الصحة، وملفات تزامنت مع هذه الجائحة كالأوضاع في الصحراء المغربية بعد تأمين معبر الكركرات والاعتراف الأمريكي بالسيادة على الصحراء، والدور المغربي الجديد في الشرق الأوسط بعد استئناف العلاقات مع إسرائيل، والتواصل الصعب في العلاقات مع الجزائر وإسبانيا، ورهانات الانتخابات المقبلة. إنها قراءة ذاتية لاثني عشر ملفا من طرف اثني عشر خبيرا نتمنى أن تساعدكم على توقع أحداث المستقبل القريب، ننشر رابع ملف منها والذي يتعلق بالعلاقات المغربية الاسبانية والتحديات التي تنتظر دبلوماسية المملكة لتحقيق التوازن الصعب، في حوار الدبلوماسي السابق عبد القادر الشاوي. تمر العلاقات المغربية الإسبانية بلحظة صعبة، بعد الحصار الاقتصادي وترسيم الحدود البحرية وتصريحات العثماني حول سبتة ومليلية، وما تلاها من ردود فعل إسبانية، كيف ترون مستقبل هذه العلاقات والتوازن الصعب بين مصالح البلدين؟ لم يطرأ أي عنصر استثنائي أو جديد «فعلي» يمكن أن يعكر صفو العلاقات المغربية الإسبانية التي تحولت، بصرف النظر عن طبيعة الحكومات المتعاقبة في إسبانيا في العقدين الأخيرين، إلى علاقة مستمرة ثابتة ومتوازنة في الكثير من مجالاتها وقضاياها العامة والخاصة كذلك. ويبدو لي أنها انبنت، وربما لأول مرة، على ما يمكن تسميته بالتعاون البراغماتي المرتبط بالمصالح المتبادلة والمشتركة بين البلدين الجارين. وربما كانت الأخبار المتداولة عن توترات محتملة من قبيل الدعاية المناوئة التي تصدر عن بعض الأوساط اليمينية التقليدية والأخرى اليسارية و»الوطنية» في إسبانيا، ومثلها دعايات محتملة يقوم بها اللوبي الفرانكفوني ذو التوجه الاقتصادي الاحتكاري في المغرب بين الفينة والأخرى، دون أن يعني هذا بطبيعة الحال خلو تلك العلاقة (بين المغرب وإسبانيا) من معظم المشاكل التقليدية وهي معروفة لذوي الاهتمام حتى من غير المختصين في شؤون العلاقة الثنائية. ومع أنها قد تكتسي في كل مرحلة، حسب السياق الظرفي وخطط بعض الفاعلين وحساباتهم السياسية، ما يشبه التوتر الفعلي الذي قد تترتب عنه صراعات محتملة يمكنها أن تؤجج الوضع القائم أو أن تفتعل وضعا جديدا يكون داعيا للقطيعة أو ما يشبهها (كما حدث مثلا إبان حكم اليمين الإسباني بقيادة أثنار في يوليوز 2002، إلا أنها لن تغير من طبيعتها الجوهرية كشريك إستراتيجي وحليف موثوق به) كما يقال في البلدين عن حق. ولكن حدثت مؤخرا تطورات متسارعة أعادت بعض التوتر للعلاقات بين البلدين.. صحيح طرأت بعض المستجدات في الفترات الأخيرة، والتي تبدو في تقدير اليمين الإسباني وفي كتابات بعض الصحفيين المنشغلين بالموضوع. وفي مقدمتها ترسيم الحدود البحرية الذي قام بها المغرب وخصوصا بعد مصادقة البرلمان بالإجماع يوم 22 يناير 2020 على ذلك في جو احتفالي يمكن تأويله على أوجه شتى (ومنه على سبيل المثال: الانتقام من إسبانيا الاستعمارية كما يتمثلها المخيال الشعبي). وحقيقة ترسيم الحدود البحرية في رأيي، وسأكتفي بهذا جوابا دالا، أنه يبسط بصفة نهائية «كامل السيادة» وإن يكن بدون استشارة أممية، على الصحراء برا وبحرا، بعد أن بقي الموضوع منذ 1975 خارج الاهتمام الرسمي أو في الحدود المرسومة إلى الجنوب من مدينة طرفاية. ويتعلق الأمر أيضا بالمجال البحري الذي كانت تتطلع إليه جبهة البوليساريو بعد أن «رَتَّبَتْ» وضعها المادي (فضلا عن المعنوي عندما تتغنى بالتحرير…) في مناطق من الشريط المحاذي للجدار الأمني الذي ظل منذ وقف إطلاق النار في 1991 منزوعا من السلاح فأصبحت الجبهة تسميه بالأراضي المحررة.. مع ما لذلك أيضا من علاقة بالخيرات الأخرى في المنطقة (الفوسفاط والصيد البحري…). واعتقادي الشخصي أن السلطات الإسبانية لم تنشغل كثيرا بهذا الموضوع، وما عبرت عنه وزيرة الخارجية الإسبانية يعتبر تصريحا (من خلال تويتر) يتيما لم يفتعل قضية استثنائية، ولا كان في لغته أي اتهام أو تهديد، وإن يكن قد حوى إشارة مبطنة إلى تجنب «فرض الأمر الواقع» يمكن اعتبارها في العرف الدبلوماسي إشارة إلى وجوب التفاهم المسبق لرفع الحرج ووضوح الرؤية. هذا مع العلم أن الوزيرة نفسها أدلت من قبل، ربما خلال الصيف الماضي، بما يفيد أن المغرب حر في ترسيم حدوده البحرية وهو شأنه… ولا بد من الإشارة أن الأمر لا يتعلق في هذا الترسيم أولا وأخيرا إلا ب 12 ميلا من المياه الإقليمية (22 كلم) و 200 ميل من المنطقة الاقتصادية الخالصة (370 كلم) هذا فضلا عن 350 ميلا (648 كلم) من حدود الجرف القاري الذي يعتبر امتدادا طبيعيا لليابسة داخل المحيط وللدولة المغربية عليه حقوق سيادية وتستفيد من موارده الطبيعية غير الحية كالنفط والغاز والمعادن. عقدة المشكل بالنسبة لإسبانيا، وهي التي لا تعترف بما يسمى ب(الجمهورية العربية الصحراوية) كامنة في أنها لا تسلم للمغرب تسليما تماما بالسيادة الكاملة على الصحراء، لا من زاوية الادعاء الرائج بأنها طرف وهي لا تدعي ذلك منذ اتفاقية مدريد عام 1975، بل من زاوية «التصور الأممي» الذي يعتبر الصحراء «إقليما غير مستقل» ومدرجا في لائحة (اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بإنهاء الاستعمار) بموجب قرار صادر في 1963. وهذا ما يعكر العلاقة بين المغرب وإسبانيا في بعض الأحيان، بل ويجعل الحكومات الإسبانية المتعاقبة، يمينية أو يسارية، رهينة للسياسات الحزبية المحلية المتبعة في المجال العام وعلى صعيد العلاقات الدولية، ولا تستطيع التهرب من «ذهنية الشارع العام» المناصر لأطروحة «الاستقلال والتحرر» التي غالبا ما تلتبس بالنوسطالجيا الاستعمارية أو بالتقدمية اليسراوية الجاهلة لحقائق تاريخ الجار الجنوبي. شكل اعتراف أمريكا بسيادة المغرب على صحرائه بالإضافة إلى صفقة أسلحة الطائرات بدون طيار قلقا لإسبانيا وتشنجا كبيرا بالمنطقة، انضاف إلى ما تراكم من توتر، فكيف يمكن إقامة توازن بين البلدين الجارين؟ لا يمكن قيام توازن عام بين إسبانيا والمغرب إلا بتدعيم المصالح المتشابكة التي تطورت في المجال الاقتصادي والسياسي والأمني بطريقة شديدة الحيوية والتفاهم في السنوات العشرين (إلا قليلا) الأخيرة، أي منذ أن وعت الحكومات الإسبانية المتعاقبة، يمينية ويسارية، أن الجار الجنوبي له مصالحه الإستراتيجية ضمن السيادة التي يفترضها لبلده على أرضه وفي اختياراته وقراراته. ومنذ أن أدرك النظام المغربي أيضا أن بمقدوره أن يجعل من العلاقة مع الجار الشمالي (والاعتبار السائد لدى النخب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونظام الحكم في المغرب أن إسبانيا قنطرة في الطريق إلى فرنسا) مجالا حويا لكل تعاون ممكن، بل ويمكن أن يجني منه (الهجرة والصيد البحري) ما لا يمكن تقديره من الأرباح المادية والمعنوية فضلا عن التقدير والاحترام. وهذا تحول استراتيجي بني على نظرة سلمية غير إكراهية حققت كثيرا من التجاوز، على الصعيد الحكومي وجوبا، للتصورات التقليدية التي كانت للإسبان عن المغرب (البلد الإسلامي المتخلف والإقطاعي، والجار غير المأمون، وثقافة «المورو» ومصدر قلق سياسي واستراتيجي…) وللمغاربة عموما عن إسبانيا بناء على نظرة جاهلة (التخلف، «بورقعة»، العنصرية…). أي أن إسبانيا بالنسبة للمغرب لم تكن شيئا مذكورا في أي شيء، أو هي مذكورة بالنسبة للكثيرين في (الأسوأ) مما يمكن تصوره على الصعيد الإنساني وغيره من الأصعدة، كما لو أن في الأمر «تشفيا» فيهم (من زاوية الدين الإسلامي والتخلف والتقليد والجهل أيضا) وفيما كسبوه بأحقية من تقدم ونهوض وديموقراطية متقدمة. القلق الإسباني، وقد عبرت عنه وزيرة الخارجية الإسبانية بدون الرجوع إلى أي قرار حكومي، بسيادة المغرب على صحرائه يجب النظر إليه، في السياق المذكور، من الزاوية التي أشرتُ إليها في السؤال السابق: أي المنظور الإسباني لحل القضية الصحراوية كمشكل إقليمي في إطار الأممالمتحدة ومخططها للوصول إلى حل متوافق عليه. ويبدو أن القرار الأمريكي جاء مفاجئا لجميع المهتمين بالموضوع، إلا للمغرب الذي جعله في حد ذاته حلا نهائيا وهو ليس كذلك بطبيعة الحال. وإذا كان من المهم، في إطار الاختيار الدبلوماسي الذي أقدم عليه المغرب بحشد الاعتراف الدولي لقضيته من خلال فتح القنصليات المختلفة في العيون والداخلة (وسوف يتطور ذلك بصورة أقوى مع الوقت دون أن يحقق الإجماع التام)، اعتبار الاعتراف الأمريكي أمرا في غاية الأهمية بالنظر لطبيعة الدور الأمريكي في مجلس الأمن كدولة كبرى ووازنة في السياسية الدولية، إلا أن حل المشكل الصحراوي، لا كما تتصوره إسبانيا بطبيعة الحال، سيظل مرهونا بطبيعة الحوار الذي يجب أن يقوم من جديد بين المغرب وجبهة البوليساريو (والجزائر بالنتيجة لارتباطها بالدعم المادي والمعنوي الذي توفره لتلك الجبهة المسلحة على أرضها). أعني أن الحوار هو المخرج السلمي الممكن مهما كان حجم الدعم الذي يضمنه المغرب لقضيته من باب الاعتراف أو من أي باب آخر… وإلا فإن المراهنة على تحلل وتفسخ جبهة البوليساريو أو انهيار دولة الجزائر… أو غير ذلك من السيناريوهات المفترضة في فترات الزهو بالنفس والتلذذ بالانتصار، قد لا يورط المراهنين على ذلك إلا في الوهم الخادع الذي قد يفيد في تسخين (الشوفينية) والعداء المزمن والاستصغار، ولكنه لن يضمن أي حل مهما كانت قوته ضارية ومفروضة. في 2007 نشرت مقالا بالإسبانية في جريدة (إلباييس) انتهيت فيه إلى ثلاث خلاصات أساسية أراها ما زالت ممكنة لحد الآن رغم اختلاف أو تغير جميع الظروف التي كانت قائمة في ذلك الوقت، كما أنها قمينة برفع «القلق الإسباني» من أي نوع كان: 1 الحوار (وقد توقَّعْتُهُ قبل أن ينطلق في «منهاست» بعد ذلك بشهور) مع جبهة البوليساريو قضية جوهرية لا بديل عنها لفهم مطامح الانفصال وتصوراته الإيديولوجية عن قيام «الدولة المستقلة» في الجنوب المغربي، وهو أسلوب فعلي مهما كانت الاختلافات والتناقضات للوصول إلى اتفاق حل أو يساعد على الحل ومن أجل إعادة بناء الثقة والأخوة بين المتحاورين. 2 من أساسيات هذا الحوار، كشرط عقلي وسياسي لقيامه بين طرفين، أن تقرر جبهة البوليساريو، باعتبارها طرفا تابعا ضمن إستراتيجية إقليمية، مصيرها عن دولة الجزائر. فالاستقلال في الحوار مبدأ وإلا عُدَّت مشاركة الغير فيه (الفرع) كطرف استقواءً بهذا الغير ومناورة لتحقيق وفرض الغلبة. 3 الحكم الذاتي (وهو متفرع في بعض جوانبه عن تقرير المصير) منطلق أساسي لكل حوار ممكن وواجب، لأنه يتضمن أهم الخصائص والشروط الضامنة للحكم: على المغرب أن يغتنمه لتعزيز السيادة وإطلاق النموذج الديمقراطي المجالي، وعلى «جبهة البوليساريو كتعبير شرعي (وليس وحيدا) ضمن تعبيرات صحراوية أخرى، أن تعتمده لإقامة جهتها الممكنة وفي إطار مغرب ديمقراطي ناهض ينعم بالسلم والاستقرار.