إنه الرئيس الجزائري الذي عاش في المغرب لسنوات طويلة بعد أن فر من الأجواء المختنقة في الجزائر. محمد بوضياف الذي يعد من صناع الثورة الجزائرية، وأحد أعمدة النضال والنظام الجزائري، هو نفسه الذي سيلتحق بالمغرب بعد صدور حكم بالإعدام في حقه من طرف الحكومة التي كان يترأسها الزعيم أحمد بن بلة، وذلك بعد أن وجهت له تهمة تهديد سلامة وأمن الدولة الجزائرية، لكن الحكم لم ينفذ نظرا لسجله الوطني، في الكفاح من أجل استقلال الجزائر. وبعد صدور حكم الإعدام قرر محمد بوضياف الابتعاد عن الأجواء التي كانت مشحونة في الجزائر، وسافر إلى باريس ثم إلى سويسرا وبعدها إلى المغرب، حيث استقر بمدينة القنيطرة، وتعرف عليه القنيطريون عن قرب، فكسب ودهم واحترامهم، مثلما ظل في حماية الملك الراحل الحسن الثاني، وهذا بالضبط ما كان يزعج ويغضب بن بلة وعددا من قيادات الجزائر، التي كانت لا تطيق الملك الراحل، لدرجة أنها فتحت معسكرات التدريب لليسار المغربي ممثلا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنظمته الموازية التي يقودها الراحل محمد الفقيه البصري. قضى بوضياف بالمغرب وبالضبط بالقنيطرة حوالي ثلاثين سنة، واشتغل في معمل للآجر، وكون من هذه المهنة ثروة محترمة، لدرجة لم يكن في حاجة إلى راتب حين عودته إلى الجزائر رئيسا للمجلس الأعلى للدولة الجزائرية. ومن خلال مهنة الآجر، تمكنت أيضا العائلة من أن تضم لنفسها دخلا مستقرا وعيشا كريما، وبدون إكراميات أو هدايا أو مساعدات الملك المغربي الراحل. حين اشتدت الأزمة في الجزائر، تقررت عودة بوضياف، وكان الرجل المحوري الذي بإمكانه أن ينقذ البلاد من المسار الذي دخلته، وكان يهددها بالحرب الأهلية، وقال حين وصوله إلى العاصمة في يناير 1992" جئتكم اليوم لإنقاذكم وإنقاذ الجزائر، وأستعد بكل ما أوتيت من قوة وصلاحية أن ألغي الفساد، وأحارب الرشوة والمحسوبية وأهلها، وأحقق العدالة الاجتماعية من خلال مساعدتكم ومساندتكم، التي هي سر وجودي بينكم اليوم وغايتي التي تمنيتها دائما. هذا ما قاله محمد بوضياف حتى قبل أن يعين وينصب رئيسا للجزائر، ولكنه بعد مرور شهور قليلة، وبالضبط في يونيو من نفس السنة وفيما كان يلقي خطابا بدار الثقافة، اغتاله أحد حراسه المسمى مبارك بومعرافي، وكان وقتها ملازما في القوات الخاصة الجزائرية، لكن الحادثة ظلت في الذاكرة الجزائرية مبهمة، حيث وجهت الاتهامات إلى عدد من قادة الجيش، ومنهم الذين تلمسوا الخطر الذي بدأ يشكله بوضياف على القضايا الإستراتيجية للدول الجزائرية، وفي مقدمتها الصحراء. حينما وصل بوضياف إلى الجزائر قادما إليها من المغرب، فاتح قادة الجيش وزعماء الأحزاب السياسية في عدد من القضايا، ومنها الصحراء، وطالبهم بضرورة تغيير موقفهم وطريقة تعاملهم في هذا الموضوع، وكان بوضياف حينها يحاول أن يدفع قادة الجيش بالتحديد إلى تليين موقفهم من الصحراء المغربية، وايجاد الحل الوسط المناسب لكل الأطراف، وهو ما اعتبره جنرالات الجزائر، ومنهم الجنرال نزار خطرا كبيرا. الجنرال نزار هو نفسه الذي سيقف سدا منيعا ضد رغبة الرئيس بوضياف في زيارة عائلته التي كانت ما تزال مقيمة بالقنيطرة، واقترح عليه أن يرتب له زيارة سرية باسم مستعار، مما أغضب الرئيس بوضياف كثيرا، خاصة وأنه حاول إفهام الجميع أن السياسة في واد والقضايا العائلية في واد آخر، لكن يبدوا أن المواجهة بين الجنرالات والرئيس بوضياف لم تكن في صالح هذا الأخير، حيث اضطر إلى إغماض عينيه إلى الأبد فوق منصة وزارة الثقافة في مشهد تاريخي مؤلم.