عند الحديث عن الاستعمار، لابد أن يطل وجه فرنسا البشع نظرا للفظا عات التي ارتكبتها دولة الجنرال ليوطي في حق المستعمرات خاصة دول المغرب العربي . ولعل فرنسا مدينة كثيرًا للجزائر بتوفير أراضيها لها للقيام بتجاربها النووية، فبفضلها دخلت نادي القوى النووية منذ سنة 1960، بينما الجزائر نالت سمومها الإشعاعية ومخلفاتها الملوثة، التي لا تزال حتى اليوم تفتك بالإنسان والحيوان والنبات في صمت.
وكشف موقع ساسة بوست استنادا غلى صحيفة لوموند الفرنسية ومجلة لوبسيرفاتور عن جوانب من القضية في التسعينات، في تقرير مطول قضية التجارب النووية التي قام بها الجيش الفرنسي بصحراء الجزائر” ورغم مضي أكثر من عقدين من الزمن عن خروج هذا الملف إلى العلن إلا أنه بقي طي الكتمان، ولم ينجم عنه أي سياسات معينة تقوض خطر المخلفات النووية المحدق بالساكنة هناك في المساحات الملوثة إشعاعيًّا.
البداية في صبيحة يوم 13 فبراير 1960 الساعة السابعة صباحًا، شعر السكان بمنطقة رقان بما يشبه زلزال أرضي، أتبعه غبار كثيف، في اليوم ذاك دخلت فرنسا نادي الدول النووية، دون اعتبار للأضرار التي ستخلفها التجربة النووية على الإنسان والحيوان والنبات طوال عقود من الزمن.
اندلع سباق التسلح النووي المحموم مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ديغول رئيس فرنسا آنذاك يطمح لدخول بلاده إلى المعسكر الثلاثي النووي، أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي، فكان يحضر لمجموعة من التجارب الذرية في الجزائر وبولونيزيا. في يونيو 1958، اتخذ قرار إعداد ميدان أول تجربة نووية لفرنسا بمنطقة رقان بولاية أدرار، التي تبعد عن العاصمة الجزائر ب1700 كم، تم الاشتغال على المنطقة طوال ثلاث سنوات لتحضيرها، بالاستعانة بآلاف الجنود والعاملين، وقد بلغت تكاليف التجربة 260 مليون فرنك فرنسي.
لم تحظ فرنسا بدعم دولي في عزمها إجراء تجارب نووية بصحراء الجزائر، فقد رفضت أمريكا وبريطانيا مدها بالتقنية اللازمة للحصول على السلاح النووي، ما جعلها تعقد تعاونًا مع إسرائيل، التي ساعدتها تكنولوجيا في تحضير التجربة النووية التي كانت تعتزم القيام بها. وبالفعل قامت فرنسا بأول تجربة نووية لها برقان في فبراير 1960، كانت القنبلة النووية المجربة حققت قوة نيران تضاعف قوة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما بأربع مرات، وقد صاح ديغول عند تلقيه الخبر حينذاك “مرحي!”، سميت العملية بالجربوع الأزرق. مشاهد مخيفة قامت السلطات الفرنسية بإخبار ساكنة المنطقة قبيل التجربة الذرية بالتدابير التي يجب أن يتخذوها، بإغماض أعينهم والانبطاح فوق الأرض على وجوههم قبل الانفجار إثر رؤيتهم للطائرة التي ستحلق فوقهم، كما تم تسليم كل فرد صحراوي قلادة كشف الإشعاع تحمل رقمًا تسلسليًّا مع تهديد كل من يضيعها بالسجن، لقد كان الانفجار عظيمًا في يوم التجربة النووية، ارتفعت غمامة سوداء في السماء، وهبت رياح بها غبار كثيف، حتى أن عساكر الجيش الفرنسي والمستوطنين الفرنسيين لاذوا بالفرار من هول الانفجار النووي. في اليوم الموالي تفقدت القوات الفرنسية المكان واستعادت القلادات التي وزعتها على ساكنة المنطقة هناك لاختبارهم
لتتوالى بعد ذلك اليوم التجارب النووية بصحراء الجزائر حتى سنة 1967، وهناك تقارير تقول بأنها استمرت إلى 1978، حيث بلغ عددها 17 تجربة نووية، منها الجربوع الأبيض (1 أبريل 1960)، الجربوع الأحمر (27 ديسمبر 1960) والأخضر (25 أبريل 1961). كما قام الجيش الفرنسي بتفجيرات ذرية في أنفاق تحت الأرض منحوتة في جبال الصحراء، في منطقة الهقار على بعد 150 كم شمال تمنراست في جنوبالجزائر. كان الهدف من هذه التجارب الباطنية هو تجنب التلوث البيئي.- الآثار الكارثية للتجارب النووية خلفت التجارب النووية التي قامت بها فرنسا بصحراء الجزائر عواقب وخيمة على ساكنة المنطقة ونشاطها البيئي، لا زالت آثاره حتى الآن بادية.
لم تتخذ فرنسا الاحتياطات اللازمة للقيام بتجاربها النووية، كما أن العديد منها باء بالفشل، ما أدى إلى تفاقم الخسائر الناجمة عنها، حيث لقي المئات حتفهم فورًا، منهم 195 جنديًّا فرنسيًّا قائمًا على التجربة.
تعرض مئات الآلاف من السكان الجزائريين للإشعاعات النووية التي خلفتها التجربة، التي تتطلب للسلامة ابتعاد المواطنين عن نقطة الانفجار ب700 كم كما يحددها المختصون.
بعد فترة من التجارب النووية سجل الأطباء الجزائريون في المناطق التي تعرضت لإشعاع نووي انتشار حالات سرطان الجلد، وإصابات الأعين، مع العديد من الحالات المسجلة للعمى بين سكان المنطقة ريغان، وعدد كبير من الإجهاض والنزيف عند النساء وحتى الحيوانات، كما ارتفع عدد الوفيات عند النساء الحوامل وكذا عدد الأطفال المشوهين، بالإضافة إلى زيادة حالات العقم.
ولم تقتصر أضرار هذه التجارب النووية الفرنسية بصحراء الجزائر على ساكنة المنطقة، بل أدت أيضًا إلى تلوث البيئة والمياه الجوفية، وتدهور الإنتاج الزراعي الذي شمل اثنين من المحاصيل الرئيسية في المنطقة، وهما الحبوب والتمر، مثلما خلقت هذه الإشعاعات وباء “البيوض” الذي قضى على أشجار النخيل بالمنطقة وانتقل إلى مناطق أخرى أبعد.
وتتهم تقارير حقوقية وصحفية فرنسا باستعمال مئات الجزائريين في تجاربها النووية “كفئران تجارب”، إذ أدلى جندي ألماني كان يشارك الجنود الفرنسيين في مهمة السهر على التجربة النووية بشهادة لصحف ألمانية، تشير إلى استعمال 150 سجينًا جزائريًّا، معظمهم من المقاومة، تم ربطهم حول أعمدة تقع على حوالي 1 كم من مركز الانفجار لهدف “علمي”. وقد جيء بهؤلاء السجناء من المجاهدين من عدة محتشدات، استعملوا كأكباش لمعرفة مدى نجاح التجربة النووية 13 فبراير 1960. طمس الجريمة في ديسمبر من السنة الماضية، اعترفت فرنسا لأول مرة بجريمة التجارب النووية بمنطقة رقان، وسنت قانونًا لتعويض ضحايا الإشعاعات النووية، يشترط على المصابين المرضى تقديم أدلة كافية تثبت تسبب مخلفاتها النووية بالمرض. غير أن الناشطين الحقوقيين والجمعيات الجزائرية المعنية بهذا الملف، لا تعتبر ذلك خطوة كافية من قبل فرنسا، فلا زالت تمتنع عن مد الجزائر بخريطة جغرافية التجارب النووية التي عملتها منذ 1960، وتتكتم عن الآثار الحقيقية لإشعاعات الانفجارات على السكان والبيئة، رغم أنها تحتفظ بالمعلومات في سجلاتها الوطنية السرية. كما يعرف الملف تماطلًا غريبًا من قبل السلطات الجزائرية ومؤسساتها الإعلامية والبحثية، فحتى الآن لا توجد تقارير ترصد بدقة حجم الخطر الناجم عن المخلفات النووية التي تركها الجيش الفرنسي قبل خروجه من البلد، مثلما لم تسجل أي محاولة لتنظيف المناطق المشعة، بالاستعانة بالخبرة اليابانية في هذا المجال. قبل خروج قوات المستعمر الفرنسي من الجزائر، قامت بالتخلص من مخلفات تجاربها النووية، وذلك بدفن مئات الأطنان من المواد والمعدات والحيوانات المختبرة، وهي ملوثة بشكل كبير جدًّا تحت أطنان من الرمال، لذلك فبعض المختصين يؤكدون أن خطر الإشعاعات النووية بصحراء الجزائر لا زال قائمًا حتى الآن في تلك المنطقة.