تعتبر أوقات الشدة والأزمات فرصة لا تتكرر للتجار لمضاعفة ثرواتهم ولصغار التجار لتوسيع تجارتهم وممتلكاتهم، وقد عانى المغاربة الضعفاء من تسلط هؤلاء عليهم خلال فترات المجاعات والأوبئة، فمنذ قرون مضت لم نتخلص من هذا السلوك ولا يمكن الجزم بإمكانية التخلص منه في المستقبل، وحاضرنا يمنحنا فرصة لمعايشة هذا السلوك غير الأخلاقي لبعض التجار في استغلال الأزمة للاغتناء، فالمرحلة التي يمر منها المغرب حاليا في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد أظهرت معدن هذه الفئة المتاجرة بمعاناة البسطاء. وبالعودة إلى مرحلة محددة من تاريخ المغرب نجد أن سلطة المخزن وعلى رأسها السلطان كانت تجد نفسها مكرهة على التدخل بقسوة لصد المضاربين بالأسعار والمحتكرين للمواد الغذائية وخاصة الحبوب، فالخبز كان ولا يزال عملة تشتري مقابلها استقرار البلد فثورة الجياع لا يمكن أن يصدها أحد. المولى إسماعيل يعاقب المحتكرين المغرب بلد فلاحي والمغربي فلاح بالفطرة، لذلك كانت الحبوب والخضروات متوفرة وكان ربما بإمكانها أن تستجيب للطلب المرتفع في سنوات الأزمة، لكن الظاهر هو أن الاحتكار هو السبب المباشر في الغلاء وليست قلة المعروض، وعن هذا نجد رواية نقلها لنا جندي إسباني كان مسجونا في مكناس يدعى جوزيف دي ليون، عن تدخلات المولى إسماعيل الذي شهدت البلاد خلال فترة حكمه أربع سنوات عجاف من سنة 1721 م إلى 1724م. يقول دي ليون إن المولى إسماعيل كان يخوض حربا على المحتكرين في سنة حل بها القحط في البلاد، فقد الكثير من المغاربة حياتهم خلالها بسبب الجوع، وتأكد للسلطان أن ندرة الخبز سببها تخزين التجار لكميات من القمح الذي يتوفرون عليه ويبيعونه بأسعار جد مرتفعة. وجد المولى إسماعيل أن هؤلاء يبيعون القمح بما يعادل 20 بيسيوس (العملة الاسبانية) للصحفة الواحدة (مقياس للوزن) فأمرهم فورا بعرض كل مخزونهم من القمح للناس وبيعه بثلاثة بيسوس فقط، وتوعد التجار المخالفين للأمر السلطاني بمصادرة ممتلكاتهم وإعدامهم. ثم يضيف الشاهد على هذه الرواية أن السلطان المولى إسماعيل، بعث أحد القياد إلى السوق ليتأكد من أن التجار نفذوا أمره، وعاد إليه القائد يخبره أن القمح يوجد بوفرة، لكنه علم أن أحد كبار الباشوات لم يعرض كل مخزونه من القمح في السوق فأمر بتوثيقه من رجليه وجرجرته عبر أزقة مكناس إلى أن تمزق جسده ووزع قمحه على الفقراء. ضرب الرقاب بسبب الخبز وضع المخزن في عهد المولى إسماعيل أسعار المواد الغذائية الأساسية تحت المراقبة وكان يوظف “خطة الحسبة” ويكلف بتنفيذها شخص تسمى وظيفته “المحتسب” ويعاونه على ذلك مجلس مشكل من أرباب الحرف والتجارة، ولكن السلطة المخزنية كانت إلى جانب نظام المراقبة هذا، تعتمد على شبكة مخبرين يتجولون الأسواق ويرفعون التقارير حول الأسعار، وقد كان الخبز الهم الذي يشغل بال السلطان. ويحكى أنه كان يراقب الأفران بنفسه حيث يأخذ الخبز ويفحص جودته ويقيس وزنه، فإذا وجد أنه لا يصلح للأكل أو تلاعب الخبّاز بوزنه، فإن السلطان يحكم عليه بالموت وتُضرب رقبته. ونجد عند جوزيف دي ليون، أن نفس العقاب يتم تطبيقه في حالة ما تبث أن تجار الفواكه يبيعون بضاعة فاسدة أو يرفعون الأسعار، لكن الموت يكون مصير المحتسب وليس التاجر، وقد يكون الحكم مخففا فتتم مصادرة أملاكه وإقالته من وظيفته. لقد كان المولى إسماعيل يتوصل بكل ما يدور في السوق ويراقب أسعار كل المواد الغذائية الأساسية وجودة البضائع المعروضة، وفي حالة تم رصد أي غش أو تدليس فإن العقاب ينزل على القواد والباشوات. لا رحمة بالمُدلّسين تؤكد شهادة جوزيف دي ليون وفق ما ورد في كتاب “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب” لمحمد الأمين البزاز، أن سلطة المخزن وبهذه الوسائل التي كان بالإمكان استعمالها بدون إشكال، نجحت في التخفيف من وطأة المجاعة، حيث يقول دي ليون “بعد هذا التشهير لم يقع نقص أبدا في القمح إلى غاية نهاية عهد المولى إسماعيل”. وقد جاءت هذه الشهادة بعد توثيق لمشهد عقابي كان بطله المولى اسماعيل الذي اكتشف أن الطحّانين في مكناس كانوا خلال سنة القحط يمزجون الدقيق بالجير للزيادة في وزنه، مما تسبب في موت عدد كبير من الناس، فتم توقيف أمين الحنطة وباقي الطحانين ولما توعدهم السلطان بعقوبة الإعدام اعترفوا بجريمتهم. بعد اعتراف هؤلاء بما اقترفوه في حق المغاربة، أمر السلطان ”بجرجرتهم بواسطة البغال عبر المدينة، البعض منهم لأنهم مذنبون والبعض الآخر لأنه لم يبلغوا بهم”.