… الذي حدث خلال تلك اللحظات العصيبة التي اجتازها المغاربة وهم يتابعون برنامج الزميل جامع گولحسن، لم يكن أمرا عاديا. كان الأمر أشبه بحمام ليس حمام ابن كيران الذي "تتْناتف فيه العيالات" وليس حمام الاتحاد الاشتراكي الذي قال أحد قيادييه السابقين إن الحزب دخله (خلال مؤتمر مكتب الصرف الشهير) ليزيل عنه الأوساخ (إثر انشقاق الحزب). … كان الأمر أشبه بحمام بارد في عز الثلوج. كل شيء كان ممكنا قبل تلك الحلقة. الإحصاء الوطني، وما خلفه من أسئلة وملاحظات وحوادث متفرقة، كان يمكن أن يكون موضوعا للسياسة. التنزيل الديموقراطي للضصطور، كان يمكن أن يكون موضوعا للسياسة. إضرابات النقابات والدخول المدرسي والوضع الصحي في البلاد… كلها كان يمكن أن تكون موضوعا للسياسة. … الانتخابات الجماعية المرتقبة أيضا كانت موضوعا للسياسة. … كانت السياسة جاهزة، حاضرة، وكان الساسة في الموعد. ساسة من تلك الطينة النادرة التي جادت بها علينا "سنوات الضياع". … في أسوأ كوابيس التشاؤم الممكنة، لم نكن لنتخيل أن نهايتها ستكون بقادة مثل هؤلاء. شباط الذي تقف كل لغات العالم الحية والميتة أمامه عاجزة. لشگر الذي صار الانتحار معه عنوان حزب، ونبيل بنعبد الله الذي سارت بحكاياته الركبان من روما إلى آخر مؤتمر فاق فيه عدد قيادات الحزب الصغير أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. كانوا جميعا هناك، جاؤوا كي يبشروا المغاربة بدخول سياسي جديد، بأوراش مفتوحة وأخرى مغلقة، بأفعال تنتظر الفاعل. … جاؤوا كي يغرسوا في قلوب المغاربة بعضا من بذرات أمل في السياسة… بعضا من شغف بالشأن العام. … جاؤوا كي يؤكدوا لكل المشككين منا أننا بالفعل بلد الاستثناء. وكان كل ذلك ممكنا… كان كل شيء ممكنا، لو… فقط لو أن الذين حضروا لم يكونوا شباط، ولم يكونوا لشگر… ولم يكونوا بنعبد الله. كتاجر مفلس لا يجيد بيع سلعته، لم يجد "ثلاثي الفرح السياسي" الناجي من أطلال "الكتلة الديموقراطية" التي لم يبق منها إلا كتلة من ذكريات، وكتلة من قيادات الله وحده يعلم كيف تسلقت سلاليم تنظيمات انتهى بها المطاف إلى ما يشبه إرثا ترك على المشاع. … لم يجد ثلاثي الفرح السياسي شيئا يقال ولا يفعل سوى رمي جثة السياسة المتحللة أصلا بزخات رصاص طائش. الدولة التي يقدمها قادة الزمن السياسي الضائع على أنها دولة الاستثناء، تحولت في أقل من شبه جملة إلى ما يشبه قلعة من قلاع الحكم البائد… الذين يحكمون في بلدي، قالوا في "مباشرة معكم": نحن حكومة صاحب الجلالة. … والذين يعارضون في بلدي، قالوا: نحن معارضة صاحب الجلالة. في أقل من لحظة، نسي الساسة ببساطة كل الطبول التي قرعوها انتصارا للضصطور الجديد. … في أقل من لحظة، نسي الجميع دولة المؤسسات وفصل السلط وحولوا البلاد في جملة بئيسة وتافهة إلى "سلَطة"… إلى شلاظة. ليست هناك مؤسسات، وليست هناك سلط، وليس هناك شعب. كل ما في بلدي، حسب بنعبد الله ولشگر، هو الملك… الملك الذي تريده الحكومة حكرا عليها، وتريده المعارضة عنوانا لوجودها ومصداقيتها. هم أنفسهم الذين يملأون الشوارع والأزقة وقنوات التلفزة كل انتخابات. يملأون الدنيا ضجيجا حينها، كي يقولوا للمغاربة إنهم أحزاب الشعب، وإنهم وجدوا من الشعب ومن أجل الشعب. هم أنفسهم الذين جاؤوا إلى التلفزة خارج زمن الانتخابات، كي يقولوا للشعب إنهم لا يعرفون في هذه البلاد غير الملك. … نعم، بكل بساطة جاء ساسة سنوات الضياع إلى التلفزة كي يزايدوا على المغاربة بالملك. هذا بالضبط ما حدث، لا أقل ولا كثر. … هذا بكثير من البؤس هو عنوان دخول سياسي نطلب من الله أن يخرجنا منه سالمين. دخول سياسي يعترف فيه الساسة بكل بساطة بغياب كل عناوين ما سمي بالمغرب الديموقراطي الحداثي، من دستور جديد، وفصل للسلطات ودولة المؤسسات، واقتران المسؤولية بالمحاسبة. المثير في الحكاية، أن إدريس لشگر، القائد الأخير للانتحار الاشتراكي للقوات الشعبية، اعتبر في تصريحات صحافية أن حديثه عن "معارضة صاحب الجلالة" جاء فقط كرد على نبيل بنعبد الله الذي تحدث عن "حكومة صاحب الجلالة"، وأن الهدف من كلام لشگر… كان فقط تذكير الحكومة بأن "الملك ملك كل المغاربة"، و"لا داعي للاختباء خلف القول بأننا حكومة الملك". بمعنى آخر، إدريس لشگر، كي يجبر الحكومة على عدم الاختباء وراء الملك، قرر -بكل بساطة- أن يلجأ لنفس اللعبة، وأن يختفي هو وكل هذا الأرخبيل الذي يسمى معارضة… خلف الملك. … هو دخول سياسي إذن يطرح أكثر من سؤال. لماذا يفرض على المغاربة أن يتعايشوا مع كل هذا الكم الهائل من الأحزاب، إن كان الجميع في النهاية يختفي وراء ملك البلاد؟! لماذا يكون علينا أن نشارك في كل هذه الانتخابات… مادامت جميع الأحزاب في النهاية تحمل نفس الغاية والهدف وسبب الوجود، وهو الاختفاء وراء الملك ؟! … بطبيعة الحال هناك سؤال قد يكون أهم من كل هذه التفاصيل، وهو … هل من حق أي كان بحسب مقتضيات الضصطور أن يستعمل أو يستقوي بالملك؟! هي في النهاية مجرد أسئلة لا تنتظر جوابا، ولا تبحث عنه. أسئلة ولدها دخول سياسي يبشرنا بأمور عظام (الله يحفظ). دخول سياسي، اختارت فيه الحكومة "الخلوة" بإيفران، ودشنه شباط برقصة "الرگادة" في وجدة، ودشنه نبيل بنعبد الله وإدريس لشگر بالمزايدة علينا بالملك، ودشنه السيد ظريف بإضافة حزب جديد للائحة الأحزاب المغربية المستعصية على العد والحصر. … بيني وبينكم، عوض إحصاء المغاربة بتلك الطريقة التقليدية البائدة التي نعيشها اليوم، كان يمكن للسيد الحليمي أن يقدم خدمة جليلة للمغرب والمغاربة، لو أنه فكر فقط في إحصاء عدد الأحزاب، وعدد المنتمين إليها، وطبيعة قياداتها وسلوكات منخرطيها… ربما كان يمكن لإحصاء من هذا النوع أن يجيبنا على أسئلة كثيرة تظل عالقة ، يبقى أهمها: "علاش اللي ما لقا ما يدار فهاد البلاد تا يدير حزب؟ ولماذا وصلت أحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي إلى… حدود لشگر؟ ولماذا اختار الاستقلاليون شباط …؟ ولماذا أصبح بنعبد الله زعيما؟ ببساطة، كان يمكن لإحصاء من هذا النوع، أن يجيبنا على سؤال بسيط: لماذا لدينا "ثلاثي فرح" اسمه شباط ولشگر وبنعبد الله… في بلد بكى أحزابه وسياسته منذ زمن بعيد؟!