الآن وقد وطوى العدالة والتنمية صفحة عبد الإله بنكيران، فهل سيتمثل الحزب "الإسلامي"، مع فقيه ورجل دين اسمه سعد الدين العثماني، محددات الحزب السياسي أم أنه سيتعامل كتنظيم بنفس دعوي في حقل سياسي لا يسمح بأن يجتمع الدين والسياسة إلا في مؤسسة إمارة المؤمنين؟ إنه السؤال الذي طفا إلى السطح خاصة بعد أن نزلت حركة التوحيد والإصلاح الذراع الدعوي للحزب بثقلها ضد التمديد لبنكيران، وكيف غلف بعض قادة هذه الحركة التصويت ضد الولاية الثالثة غلافا دينيا كما لو أن الخلاف بين أنصار التمديد والرافضين له هو خلاف "وجود" وليس خلاف "حدود". وهكذا كاد أن يعتقد البعض أن التصويت لفائدة بنكيران لولاية ثالثة ليس مجرد تقدير سياسي تحكمه ثنائية "الخطأ والصواب" بين مناضلين في حزب سياسي يدبر ما فضل من القرارات الصغيرة في واقع مغربي خالص. بل إن البعض كاد أن يعتقد أن التصويت للتمديد من عدمه تحكمه ثنائية "الحق والباطل" وأن كل من صوت لبنكيران فهو آثم. وقد لاحظنا كيف تشابه البقر على بعض قياديي البيجيدي عندما اعترف أحدهم، أمام أعضاء المجلس الوطني للحزب في هذه الدورة الاستثنائية، أنه عانى كثيرا لولا أنه استعان بما كتب في السيرة النبوية، الذي قاده إلى بناء موقفه الرافض للولاية الثالثة. فهذا الخلط بين الدعوي والسياسي بهذه الكيفية غير العالمة تزرع اللبس والغموض وقد تشوش على مستقبل العلاقة بين الدين والسياسة في السلوك السياسي لحزب يقتسم مع الدولة نفس المرجعية الإسلامية. ولا أخفي أني تحدثت اليوم الى صديق عن هذه القضية المتعلقة بالعلاقة بين الدعوي والسياسي مع مجيء مرتقب للفقيه العثماني إلى رئاسة الحزب، وخلفه حركة دعوية داعمة لمنهجه في الحكومة والحكم. وقد فاجأني هذا الصديق عندما قال "فعلا، أنا جد متخوف من أن يقع بعض الاصطدام بين البيجيدي وبين جهات رسمية تحتكر توظيف الدين من داخل مؤسسات الدولة". وكان لابد أن أرد بهذا السؤال: لكن كيف يمكن أن يقع هذا الاصطدام في الوقت الذي قطع الحزب والحركة أشواطا متقدمة في هذا الذي يسميانه "التمايز" وليس "الفصل" بين الدعوي والسياسي؟ لنستمع هنا إلى ما قاله هذا الصديق جوابا عن سؤالي: "أنا كخصم سياسي للعدالة والتنمية أفضل أن أمارس السياسة مع بنكيران عوض أن أمارسها مع العثماني". لماذا؟ "لأن بنكيران يحتكم إلى قواعد اللعب السياسي المتعارف عليها داخل الحقل السياسي المفتوح فيما يحتكم العثماني ربما إلى القواعد الشرعية المعتمدة داخل تنظيم سياسي مغلق ولا أحد يعرف معه الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة". والواقع أن شخصية العثماني هي ربما بهذه الخلفية التي تعلي من هوس التأصيل الشرعي للسلوك السياسي ولو ربما بهاجس انتخابي يروم استمالة تنظيمات سلفية وإسلامية أخرى لازالت تعتبر العمل السياسي رجسا من عمل الشيطان. وربما هذا الهوس بالتأصيل الشرعي للفعل السياسي هو الذي جعل العثماني يخصص الكثير من الجهد والكثير من الكتابات والمؤلفات لما يسميه فقه مراتب الأعمال والفقه الدعوي والسياسة عند ابن تيمية وتصرفات الرسول بالإمامة. وهذا له معنى واحد لا ثاني له وهو أن المرجعية الإسلامية لها ربما فهم خاص عند الفقيه العثماني قد لا يتكامل مع معنى هذه المرجعية عند المؤسسة الدينية الرسمية وعند القائمين على مؤسسة إمارة المؤمنين. وأتوقع والله أعلم أن تتجه الحزب والحركة إلى كثير من الانغلاق مع الفقيه العثماني الذي لا يملك كاريزما بنكيران في الدفاع عن الفصل الناعم بين الدعوي والسياسي خاصة مع الإكراهات أو الضغوطات التي قد يتعرض إليها الحزب من موقعه الحكومي. وحده بنكيران استطاع أن يمغرب هذا الإسلام السياسي بل حصنه بواقعية صادمة وطرد عنه تهمة التقية والارتباط بالخارج. وهكذا أصبح الإسلاميون مع بنكيران نبتة أصيلة خالصة للتربية المغربية لا كائنات غريبة وسط الوطن ووسط المواطنيبن. ولا أبالغ إذا قلت إن خصوم بنكيران سواء داخل الدولة أو خارجها لم يحسنوا صنعا عندما ضغطوا بقوة لينزل الزعيم من قمرة القيادة سواء من على رأس الحكومة أو من على رأس الحزب. وكم واهمون إذا كان هؤلاء الخصوم يعتقدون أن دفع بنكيران إلى الموت السياسي هو عمل بطولي فيه حياة للوطن، بل هو سلوك مخيف وقاتل للسياسة ولمعناها النبيل. وأكيد أن الخاسر الأكبر من رحيل بنكيران ليس هو بنكيران بل الخاسر الأكبر هو السياسة وهو الوطن الذي سيفقد زعيما سياسيا كبيرا ورجل دولة من العيار الثقيل وقائدا استثنائيا قدم خدمات كبيرة للبلد في لحظات عصيبة وارتبط اسمه في مخيال المغاربة بنظافة اليد والمعقول والوفاء للملك والملكية. ولا بأس أن أحكي هنا واقعة بطلها وزير من وزراء السيادة الذي حاول أن يفهم سبب ذلك البلوكاج الحكومي الذي استمر أكثر من خمسة أشهر دون أن يتمكن بنكيران من تشكيل حكومته عقب الفوز الساحق للعدالة والتنمية في انتخابات 7 أكتوبر. وجاء في تفاصيل هذه الواقعة، التي شهدها فندق بدولة إفريقية زارها الملك محمد السادس خلال تلك الجولة التي قادته لعدة دول إفريقية مباشرة بعد تلك المحطة الانتخابية.. قلت: جاء في تفاصيل هذه الواقعة أن الوزير المعني طرح "اقتراحا" لهذا البلوكاج في "جلسة خاصة" حضرها علية القوم وبعض المقربين من مراكز القرار. الوزير المعني، الذي أعيد استوزاره من جديد في حكومة العثماني، اقترح أن يتوقف هذا البلوكاج والدفع في اتجاه أن يظل بنكيران رئيس للحكومة لولاية ثانية. ولم يقف سعادة الوزير عند هذا الحد، بل إنه أعطى أمثلة من تجربته الشخصية على رأس وزارته مع بنكيران وروى كيف أن بنكيران وهو رئيس للحكومة كان خير داعم له ولأي مشروع اقترحه عليه. الوزير المعني فاجأ جميع الحاضرين في هذه الجلسة وقال أيضا إنه شخصيا لم يتذكر أن بنكيران رفض له فكرة أو اقتراحا، بل لم يلق منه إلا الدعم ولا شيء غير الدعم. ويبدو أن هذا الوزير السيادي ليس وحده من كان ضد إعفاء بنكيران، فحتى الملياردير والبنكي الكبير عثمان بنجلون، كما قيل لي، كان هو بدوره مع بقاء بنكيران على رأس الحكومة لولاية ثانية لأن الوطن في حاجة إلى أمثاله. بعض الأنباء أشارت إلى عثمان بنجلون أسس هذا الموقف بناء ربما على "جلسة استشارة" قد تكون جمعته مع الزعيم الاستقلالي امحمد بوستة قبل رحيله. وسامح الله أولئك الذين تحدثوا عن بنكيران المعارض، وهو بالفعل معارض للفساد ولكن ليس معارضا للدولة ولن يكون كذلك لأسباب عقدية تحدثنا عنها أكثر من مرة. وإذا كان البعض يريد أن يحتكر الملك لنفسه فإن بنكيران كان وسيظل ملكيا لكن بطريقته ولن يكون أبدا "أداة من أدوات الفساد والاستبداد"، كما قال هو بعظمة لسانه.