أحلام الثراء السريع مغرية لا شك.. قد تدفع البعض للتخلي عن المنطق، ومخالفة القانون، بل ولهذه الأحلام تجسيد خاص في مصر.. هذا البلد الذي لا زال مدفوناً تحت ترابه آثار أكثر من تلك التي تم الكشف عنها، وتقدر قيمتها بمليارات الدولارات، كما يرى الكثير من المختصين. فتنقيب الأفراد عن الآثار، بشكل غير مشروع، تحوّل مؤخرًا إلى ظاهرة آخذة في الانتشار بمصر، ووصل الأمر إلى أن دفع مواطنون حياتهم ثمنًا في مغامرة غير مضمونة العواقب. وعادة ما تتم عمليات التنقيب هذه خلسة، وغالباً في جوف الليل؛ خشية تعقب الأجهزة الأمنية لما لها من عقوبات قاسية تصل إلى السجن المؤبد، كما وصل الأمر إلى محاولات البعض التنقيب أسفل منزله لعله يصل في ليلة وضحاها إلى أمله في الثراء. حكايات الباحثين عن الكنوز، تحت التراب لا تتوقف، بعضها في قرى دلتا النيل شمالاً، والأكثرية في الصعيد (جنوب) الذي تكثر به الآثار، كما تسجلها محاضر الشرطة والنيابة المصرية. وسجلت محاضر النيابة عشرات القضايا من هذا النوع، ففي نوفمبر الماضي قال اللواء أحمد شاهين، مساعد وزير الداخلية لشرطة الآثار، في تصريحات صحفية، إن قطاع شرطة السياحة ضبط خلال عام 2015 فقط 3000 قطعة أثرية، قام اللصوص بالحصول عليها عن طريق التنقيب، إضافة إلى تحرير 1200 قضية حفر وتنقيب سجلتها محاضر الوزارة. وبحسب أحد البلاغات، في 19 يوليو الماضي، عُثر على جثامين 5 أشخاص لقوا مصرعهم أثناء تنقيبهم عن الآثار بقرية "العجميين" بمركز أبشواى محافظة الفيوم (وسط). وجاء ذلك بعد انهيار المنزل، الذى دخله المفقودون للبحث عن آثار فرعونية، إلا أن الأرض ابتلعتهم عقب تعميقهم للحفر لمسافات بعيدة، ليلقوا جميعاً مصرعهم فى الحال. كما شهدت إحدى قرى محافظة الشرقية (دلتا النيل) واقعة مأساوية في 30 يناير الماضي، عندما لقيت سيدة مصرعها وأصيب زوجها بإصابات خطيرة، جراء انهيار منزلهما بالقرية، التي ينتشر في أرجائها ما يقارب 100 موقع أثري، بحسب المركز القومي لتوثيق الآثار (حكومي). ولم تكن السيدة وزوجها هذه المرة هما المنقبان وإنما جار كان يحفر سراً ما ترتب عليه انهيار منزله ومنزل الجارين. وقضت محكمة بالسجن المؤبد على المنقب وغرامة 200 ألف جنيه مصري (نحو 20 ألف دولار). قرية عائمة على الآثار عبدالحميد تمام، (65 عامًا)، يعمل مزارعًا بقرية "مساره"، غربي مركز ديروط، بمحافظة أسيوط (جنوب)، قال إن قريته "عايمة (عائمة) على آثار فرعونية"، في إشارة إلى وجود كميات كبيرة أسفل مبانيها. تمام قال إن العمل في الآثار يفتح شهية أي شخص مهما كان تعليمه أو مدى التزامه الديني، ف"الدولارات التي ربما يحصل عليها من خلال بيعها لسماسرة مختصين تفوق الخيال حيث تصل للملايين"، مؤكدًا تغيّر حال الكثيرين في القرية من "العدم" إلى "مجالس الأثرياء". كما أن هناك مَن خسر ما يملك دون أي طائل – بحسب تمام – الذي سرد قصة لأحد جيرانه، قائلاً: "جاءهم أحد العرافين قبل سنتين من بنى سويف (صعيد مصر) ليبلغهم بأن إحدى حجرات منزلهم تحتوى على قطع أثرية على بعد عدة أمتار فقط، لتبدأ الأسرة بعدها في تحضير أدوات التنقيب التي أوصى بها العراف". وأضاف تمام: "ولأن الأسرة فقيرة لا تستطيع أن تحضر ما طُلب منها، فالعرافون طلباتهم غالية جداً، فالبخور المغربي القليل منه بنقود كثيرة وذلك لفك السحر الفرعوني المحيط بالمقبرة، فاضطرت الأسرة لبيع ما تملك من الذهب، إلا أنه بعد الحفر لعمق 6 أمتار في باطن الأرض لم يجدوا شيئاً، وضاع الحلم ومعه المصوغات". ومضى تمام قائلاً: "الآثار لا تخرج إلا للموعودين بها، فهي أرزاق لا تقع في يد غير المحظوظين". والبخور المغربي يستخدمه العديد من الدجالين الذين يقنعون المواطنين بقدرتهم على استخدام الجن لمعرفة مكان الآثار أو لفك السحر الذي يعتقد أن الفراعنة كانوا يحصنون به مقابرهم منعاً لانتهاك حرمتها، مقابل أموال طائلة يحصدها هؤلاء المدعون، إلا أنه أحياناً تتصادف تنبؤاتهم مع الحقيقة، بحسب تمام. وبحسب إحصاءات غير رسمية، يبلغ حجم تجارة الآثار في مصر قرابة 20 مليار دولار سنويًا، لكن بعض الأثريين أكدوا أنه عقب ثورة 25 يناير 2011 زادت عمليات التنقيب والتهريب بشكل كبير يفوق هذا الرقم، مرجعين ذلك الى حالة الانفلات الأمني التي سادت عقب الثورة من جهة وتردي الأوضاع الاقتصادية للمصريين من جهة أخرى. القانون وحده لا يكفي ولم تنجح الإجراءات الحكومية في الحد من الظاهرة رغم إصدار قانون خاص لمكافحة التنقيب عن الآثار أو الاتجار بها، بحسب محمود كبيش المحامي عميد كلية الحقوق الأسبق بجامعة القاهرة. وأكد كبيش أن السلطات المصرية غيّرت القانون عام 2010 وحوّلت الجريمة من جنحة إلى جناية تصل العقوبة فيها للسجن المؤبد والغرامة ما بين 100 ألف جنيه (10 آلاف دولار) إلى 500 ألف (50 ألف دولار)، بموجب قانون الآثار. وأضاف، أن القانون نصّ على مصادرة المضبوطات الأثرية والأدوات المستخدمة في البحث عنها، والسيارات المستخدمة في نقلها وتسليمها للمجلس الأعلى للآثار التابع لوزارة الآثار. "القانون وحده لا يكفي".. بهذه الكلمات بدأت الأستاذة بكلية الآثار جامعة القاهرة، رحاب إبراهيم؛ حديثها، مؤكدة أن الأمر يحتاج لوعى مجتمعي بقيمة الآثار، إلى جانب تشجيع الدولة للأفراد على تسليم ما يجدونه عن طريق الحفر بأن تخصص مكافآت مجزية لهم. الأستاذة الجامعية أوضحت أن القطع التى تخرج من باطن الأرض بطرق غير مشروعة تفقد نصف قيمتها تقريباً بسبب طريقة الحفر الخطأ؛ لأن تاريخ أي أثر يتم على أساس الطبقة الأرضية التي وجد بها، والمنطقة التي عثر عليه فيها، وفي حالة عدم وجود معلومات كافية تقاس بحسب الظروف المحيطة بالمكان. رسمياً، اعترف وزير الآثار المصري خالد العناني بأن القطاع يعاني مشاكل أبرزها الإهمال وعدم التأمين الكافي، معتبرًا هذين سببين رئيسيين في عمليات التنقيب غير المشروع. وأوضح العناني، في تصريحات صحفية، أن الوزارة تعمل لمواجهة هذه المشكلة على محورين: الأول زيادة الوعي بأهمية الآثار وضرورة الحفاظ عليها، والثاني التعاون مع وزارتي الداخلية والسياحة. وعن الأسباب التي تدفع هؤلاء لهذه المخاطرة، استبعدت سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس (شرقي العاصمة)، أن يكون سوء الأحوال الاجتماعية وانتشار الفقر في الريف المصري دافعين لدخول بعض الأشخاص حقل التنقيب عن الآثار؛ لأن غالبية العاملين في هذا المجال ينتمون للطبقة المتوسطة. وأضافت أستاذة الاجتماع، أن مواجهة مثل هذه الأعمال المنافية للقانون تحتاج لتنشئة اجتماعية، وتطوير على المنحى التربوى والديني والوطني، إضافة إلى العنصر الأمني الذي يلعب دورًا كبيرًا في الحد من انتشار هذه الأمور.