ما حدث اليوم في الدارالبيضاء، حدث مفصلي في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب. كنا نعتقد أننا قطعنا مع هذا النوع من الممارسة "السياسية"، ولكن البعض لازالوا يعتقدون أن المغاربة قطيع من القاصرين، يمكن ليّ رؤوسهم متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، وأنهم الأذكى من الجميع، وأنهم هم فقط من يفهم في السياسة دون سواهم. مسيرة الدارالبيضاء اليوم والتي وصفها العديد من المتتبعين ب"المهزلة"، تطرح العديد من الأسئلة. من هو هذا "المجتمع المدني" الذي طلب الترخيص أو وضع مجرد إشعار بتنظيم المسيرة التي حملت شعار "ضد أخونة الدولة والمجتمع"، أليس له اسم، أو عنوان، هل هناك جمعية محددة أو ائتلاف جمعوي أو شبكة من الجمعيات، طلبت ترخيصا للمسيرة، أو وضعت إشعارا فقط لدى السلطة بذلك؟، كيف تقبل وزارة الداخلية بتنظيم مسيرة لا تعرف من هو منظمها؟، ماذا لو وقع انحراف للمسيرة وحدث اصطدام بين أطراف ما داخلها، وسقط ضحايا. من ستحاسب الدولة أنذاك؟. إن "الواقفين" وراء مسيرة اليوم، يأخذون الدولة كرهينة بفعلتهم هاته، ويلقون بها في أتون لا يعلم أحد منتهاه. إذ سمحوا لأنفسهم بإدخال الدولة ومعها مصير شعب بأكمله في لعبة غير مضمونة العواقب. إنه غرور "السلطوية" الذي يجعل البعض يعتقدون أنهم يتحكمون في كل الحبال، ويتناسون أن للتاريخ مكر وما درس التاريخ بمخطئ. إن التفكير بأن فترة بنكيران ومعه العدالة والتنمية قد انتهت، ويجب طي صفحتهما نهائيا، بهذه الطريقة، أي عبر "التجييش" و "التكالب" هو لعمري الخطأ الكبير. لأن القضاء على العدالة والتنمية لن يكون إلا بمنحهم الفرصة لمواجهة الملفات الساخنة لتدبير الشأن العام، وبعد فشلهم فيها، سيلفظهم الشعب تلقائيا، وعبر صناديق الاقتراع التي لم تعد تفصلنا عنها سوى ثلاثة أسابيع، أما وضع "العصا في الرويضة" أمامهم فلا يزيدهم إلا قوة. إن الاعتقاد بأن عدم الاستقرار الذي تعيشه بلدان الجوار، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، ومع وجود الضوء الأخضر الذي رافقها من البلدان العظمى، يجعل الوقت مناسبا "للحسم" مع تجربة الإسلاميين في المغرب، وبأي وسيلة كانت، هو ليس ضربا لتجربة الإسلاميين، بل هو ضرب في الصميم للتجربة "البسيطة" للتمرين الديمقراطي في المغرب. وسيعيدنا القضاء على حزب العدالة والتنمية بهذه الطريقة، إلى ما قبل سنة 1993، أي قبل الحديث عن التناوب الذي كان من المفترض أن يقوده محمد بوستة، وهي نفس الفترة التي عرفت أيضا بروز نموذج "بنعلي تونس"، والذي لازال يجد له معجبين في المغرب ! إن مواجهة الإسلاميين اليوم، بهذه الطريقة، تظهر أن خصومهم أصبحوا على اقتناع تام، ونحن على بعد أسابيع فقط من انتخابات 7 أكتوبر أنهم الأقوى وأنهم سيفوزون، ولذلك يجب قطع الطريق عليهم بكل الوسائل، ولكن يتناسى خصوم العدالة والتنمية، أن الإسلاميين تحولوا إلى "بعبع" مخيف عبر مسار طويل، وعندما كان يجب مواجهتهم كان الجميع يفرش لهم الطريق بالورود، فقط لأنهم كانوا يواجهون قوى اليسار آنذاك، فمنذ مقتل عمر بنجلون، وبعده أيت الجيد محمد بنعيسى والمعطي أومليل، ومع السماح باكتساحهم لساحات الجامعات، مقابل التضييق على الآخرين، وبعد دخولهم إلى المشهد السياسي عبر حصولهم على الشرعية القانونية، بدل مجابهتهم وفتح الفضاءات العمومية أمام المثقفين المتنورين كان الكل مستسلما "للزحف الأخضر"، بل إن الجميع كان يسارع إلى مغازلتهم لغاية في نفس يعقوب، واليوم فقط، وبعد فوات الأوان، اتضح أنهم "أخونوا الدولة والمجتمع" !. إن الواقفين وراء مسيرة اليوم، يضرون بصورة المغرب، دولة وشعبا، بهذا النوع من الممارسات التي أكل عليها الدهر وشرب، وما "فضيحة" شرائط الفيديو التي تناقلتها المواقع الالكترونية الإخبارية، والتي خلفت سخطا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا دليل على المظهر الكاريكاتوري، الذي بدت به مسيرة اليوم، وهو ما جعل الجميع يسارع إلى رمي التهمة عنه وإنكار وقوفه وراءها، إذ أصبحت مسيرة لقيطة لا أب لها ولا أم. إن غرور "السلطوية" يؤدي إلى "التغول"، خاصة إذا كان الوهم وعدم الإنصات إلى درس التاريخ ديدنه، والخطأ في قراءة المعطيات السياسية محليا وإقليميا، قد تكون له نتائج، الغيب فقط من يعرف طبيعتها.