على سبيل البدء : ماذا سيحدث بعد الانتخابات البرلمانية المغربية المزمع تنظيمها في السابع من أكتوبر 2016 ؟ سؤال يتردد صداه بين المهتمين بالشأن السياسي بالمغرب، خصوصا وأن هذا الموعد سيكون حاسما فيما يتعلق بجدية الدولة المغربية في ترسيخ مبدأ الاحتكام للصناديق الانتخابية، وجعلها الفيصل في تشكيل السلطتين التشريعية والتنفيذية. الكل يترقب ماذا ستفرزه الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر من نتائج، فهذا اليوم لن يكون كباقي الأيام، لكونه سيتحكم ولو نظريا في المستقبل القريب للمغرب، وسيؤكد أو ينفي استمراره فيما يسمى بالانتقال الديموقراطي. لكن السؤال الذي يجب أن يطرح أولا وقبل سؤال إفرازات هذه الانتخابات هو : هل فعلا ستكون هذه الانتخابات حاسمة في رسم ملامح سنوات المغرب القادمة ؟ أو بصيغة أخرى أ لن تكون كسابقاتها مجرد حدث موسمي لن يغير شيئا سوى اسم رئيس الحكومة ؟ الجواب سيكون مجانبا للصواب بدون استحضار السياق الذي تجري فيه هذه الانتخابات، والظروف والملابسات الداخلية والخارجية التي ترافق هذا الحدث. داخليا يعيش المغرب الآن أزمة اقتصادية خانقة تبرز تمظهراتها في زيادة المديونية، وانهيار القدرة الشرائية، وضعف الاستثمارات. هذا إلى جانب الاحتقان الاجتماعي الناتج عن نفض الحكومة ليدها من القطاعات الاجتماعية وعلى رأسها التعليم والصحة، والمراجعة المجحفة لنظامي التقاعد والمقاصة، والزيادات الصاروخية في مجمل الاقتطاعات الضريبية. أما على المستوى السياسي فهناك طلاق بائن بين عامة الشعب والانشغال بالشأن العام، واحتراب فاحش بين القوى الحزبية المختلفة اتسع مداه بفعل شساعة الفضاء الأزرق الإلكتروني، تتناطح فيه الرؤوس الكبيرة حول الأمور الصغيرة، بعيدا عن هموم الواقع وانشغالات المجتمع، بدل أن تتصارع حول الأفكار والبرامج والمشاريع. لكن المعلم السياسي البارز المرافق لهذه الانتخابات يكمن في هيمنة واضحة للمؤسسة الملكية على مفاصل الدولة، وتواجدها المستمر في الواجهة، رغم كل ما قيل عن اتساع صلاحيات رئيس الحكومة، وتحمله لمسؤولية إدارة السلطة الننفيذية مع دستور 2011، فالملكية في المغرب ما زالت تنفيذية، تتمتع بصلاحيات واسعة، وتتمركز في يدها السلطات، ولا تخضع لأي رقابة شعبية. وينضاف لكل هذه الأجواء الداخلية الغائمة، أجواء إقليمية ودولية مضطربة، بسبب الأزمات المشتعلة والمزمنة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ( ليبيا وسوريا والعراق واليمن)، والحرب العالمية على داعش وضلوع ذوي الأصول المغربية والمغاربية في مجمل العمليات الإرهابية، ثم دخول قضية الصحراء الغربية في نفق مظلم بفعل رعونة الدبلوماسية المغربية، وانعدام كفائتها وتخبط قراراتها. مؤشرات أهمية الانتخابات 7 أكتوبر : هل هذه الانتخابات التشريعية هامة حتى تستحق الانشغال بها وبما سيترتب عنها من نتائج ؟ أعتقد أن القراءة الفاحصة للواقع المغربي تؤكد أنها ستكون كذلك، ليس بسبب السياقين الداخلي والخارجي المرافقين لإجرائهما والمشار إليهما سابقا، بل بسبب مؤشرات هامة نبسطها في النقط التالية : رغبة الدولة في الحفاظ على صورة المغرب في الخارج كبلد مستقر، يمارس تداول السلطة عبر آلية الانتخابات المنتظمة، ويخضع لنتائجها في تشكيل الحكومة كما حدث في انتخابات 2011، وبذلك يتأكد ما يسمى بالاستثناء المغربي، والذي يجعل المغرب واحة للديموقراطية والحرية والانفتاح، وسط محيط إقليمي قاحل وغير مستقر، ونموذجا متميزا للدولة العصرية التي تزاوج بين أصالة موروثها السياسي (المخزن) وحداثة النظام الديموقراطي. كما أن الدولة ترغب في عدم خسارة رصيد الثقة الذي كسبته داخليا وخارجيا خلال زلزال الربيع العربي، وعدم تبديد الشرعية الدستورية الجديدة التي حصنتها حسب اعتقادها من ارتداداته. لذلك تبقى محطة الانتخابات التشريعية القادمة فرصة لتأكيد كل ما سبق، ولإبراز إرادة المغرب الحقيقية في المضي قدما في مسار الانتقال الديموقراطي. انزعاج المؤسسة الملكية من الأجواء التي تسبق هذه الانتخابات من جهة، والذي تم التعبير عنه بوضوح في خطاب الذكرى السابعة عشرة لعيد العرش، فقد أبدى الملك استياءه من الزج باسمه وشخصه في الصراعات الحزبية بمناسبة قرب الانتخابات، ومن استغلال هذه الأخيرة لتصفية ما سماه بحسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة. ومن جهة أخرى التأكيد وفي نفس الخطاب على أهمية هذه الانتخابات، لكونها ستكون حاسمة في تحويل الاقتراع من مجرد آلية للوصول لممارسة السلطة، إلى وسيلة يتم فيها الاحتكام للمواطن في اختيار ومحاسبة المنتخبين. فالمؤسسة الملكية على ما يبدو تنظر بتوجس لهذه الانتخابات، مما يؤكد طابعها الاستثنائي، وترى فيها فرصة حاسمة، لكن الاجواء التي تصاحبها يكتنفها الكثير من التشويش. فض الاشتباك القائم بين حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة المنتهية ولايتها، وحزب الأصالة والمعاصرة المحسوب على المعارضة، وإنهاء الشوط الثاني من صراعهما بعد أن أفضى الأول لانتصار حزب العدالة والتنمية عقب انتخابات 2011، هذا الاشتباك الذي سمم الحياة الحزبية، وحولها إلى ميدان للسب والشتم وتصيد الزلات والعثرات عوض التدافع الفكري والإديولوجي، وقضى على ما تبقى من مصداقية العمل الحزبي، وجعله مجرد استعراض للقدرات الفردية في التلاسن والتنابز، ووصم الخصوم بأحط الألقاب المنتقاة من معاجم الحيوانات والكائنات الأسطورية. فقد تحسم هذه الانتخابات ولو مؤقتا في هذا التقاطب القائم بين هذين الحزبين، وقد تخفف من حدة الاحتراب اللاسياسي واللاأخلاقي، والذي أصبح السمة الغالبة للحقل الحزبي بالمغرب. صعوبة التحكم في الخريطة الانتخابية كما كان يحدث سالفا، فوزارة الداخلية التي كانت ومازالت مهندس هذه الخريطة والممسك بكل خيوطها، صارت اليوم تجد صعوبة في ذلك، ليس بسبب تراخي قبضتها الحديدية على الحقل السياسي، بل لبروز متغيرات جديدة وطارئة على العملية الانتخابية برمتها، أهمها ضعف المشاركة سواء في التسجيل أو التصويت، وقوة الرقابة التي تمارسها شبكات التواصل الاجتماعي على هذه العملية، وتزايد تأثير التقارير التي تنجزها الهيئات الحقوقية الدولية حول الانتخابات خصوصا وحول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية عموما، وتحولها لأداة لإحراج الدولة المغربية. كل هذه المتغيرات تجعل مهمة التحكم في نتائج الانتخابات بالوسائل التقليدية مهمة صعبة بل ومستحيلة. فهذه المؤشرات مجتمعة ومتفرقة وغيرها، تدفع صاحب الرؤية الموضوعية للجزم بأهمية الانتخابات القادمة، ولكن في ذاتها، أي بالنظر إليها كحدث سياسي موسمي، بعيدا عن قدرتها على الحسم في الإشكالات الكبرى التي تواجه المغرب. ذلك لكون الانتخابات في المغرب كانت ومازالت للأسف وسيلة لصناعة واجهة براقة لعملية ديموقراطية مزيفة، وخلع حلة الشرعية الديموقراطية على النظام القائم، ولا يعول عليها في إحداث قطيعة مع السلوك التسلطي لهذا النظام، فغاية التنافس الانتخابي بين القوى الحزبية يبقى محصورا في الوصول لسلطة شكلية، لا تملك من أمرها شيئا، في حين السلطة الحقيقية يتم الوصول إليها وممارستها بعيدا عن إرادة ورقابة المجتمع. سيناريوهات تشكيل الحكومة المقبلة : لنعد لسؤالنا الرئيسي : ماذا سيحدث بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016 ؟ السؤال هنا ينصب على النتائج التي ستؤدي إليها خصوصا على مستوى من سيحظى برئاسة الحكومة، والقوى الحزبية التي ستشكلها. السيناريوهات لن تخرج نظريا عن ثلاثة : فوز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى ولكن بفارق صغير عن الأحزاب المنافسة، وترؤسه للحكومة، وتشكيله لنفس التحالف القائم الآن، مع فارق بسيط سيعود بالحكومة لنسختها الأولى إذ سيعود حزب الاستقلال المنسحب، وسيخرج حزب التجمع الوطني للأحرار. حصول حزب الأصالة والمعاصرة على الصف الأول، وفوزه بالتالي برئاسة الحكومة، وتحالفه مع كل من حزب الاتحاد الاشتراكي والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، مع احتمال إشراك أحزاب صغيرة أخرى في التحالف كحزب الاتحاد الدستوري. تمكن حزب الاستقلال من تشكيل الحكومة بعد حصوله على أكثرية الأصوات، والتي ستتألف مبدئيا من أحزاب الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، مع إمكانية توسيعها لتضم حزبي الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار، في حال ما إذا كان المطلوب تشكيل ما يسمى بحكومة وحدة وطنية. هذه السيناريوهات الثلاثة إذن هي الراجحة نظريا كما قلنا آنفا، بالنظر للمعطيات الموضوعية المستمدة من الواقع الحالي للحقل الحزبي، ومن موازين القوى المتنافسة داخله، ومن حجم القدرة على التنافس الانتخابي والفوز بالأصوات. لكن أ لسيت هناك إمكانية لوجود سيناريو رابع ؟ سيناريو مخالف لكل ما سبق ؟ بلى، هنالك سيناريو آخر، ويتمثل ببساطة في حصول حزب العدالة والتنمية على المرتبة الأولى في الانتخابات، لكن بفارق ضئيل عن حزبي الأصالة والمعاصرة والاستقلال، وتكليف الملك لأمينه العام بتشكيل الحكومة، ثم فشل هذا الأخير في هذه المهمة، بسبب عدم توفره على الأغلبية اللازمة بفعل إحجام مجمل الأحزاب عن المشاركة في تحالف حكومي بقيادة حزبه. هنا سيتم الانتقال إما إلى ما يشبه السيناريو الثاني أو الثالث، فيكلف الحائز على المرتبة الثانية أي حزب الأصالة والمعاصرة أو حزب الاستقلال بتشكيل الحكومة بالمواصفات المذكورة سالفا. وعندما سيعترض حزب العدالة والتنمية، ويرفع حجة مخالفة هذا الإجراء للدستور، والذي ينص صراحة في الفقرة الأولى من الفصل 46 على أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، سيتم مجابهته بالفصل 42 الذي يقول : الملك ضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية. كما أن تنصيب حكومة فاقدة للأغلبية أو بأغلبية صغيرة يهدد استقرار العمل الحكومي، ويعرضه للتعطيل المستمر. وعندما سيطالب حزب العدالة وللتنمية بحل مجلس النواب والدعوة لانتخابات جديدة، سيرد عليه بأن قرار حل البرلمان، كما هو وارد في الفصل 96 من الدستور، قرار بيد الملك، ولا يتعلق أصلا بهذه النازلة، والدستور نفسه لا يلزم الملك بهذا الإجراء، ولا يتحدث عن ما يجب فعله، في حال عجز الحزب الحاصل على المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية عن تشكيل حكومة، لذلك لا مفر من الاحتكام للفصل 42 من الدستور. وحينما سيصعد هذا الحزب من لهجته، ويعتبر إقصاؤه من حقه في تشكيل الحكومة ورفض إعادة الانتخابات ، انتكاسة للمسار الديموقراطي بالمغرب، ودليلا على صواب المقولة التي ظل أمينه العام يرددها في الآونة الأخيرة، والمتمثلة في التحكم وقواه الغاشمة التي تستهدف التضييق على الحزب، هنا سيتم إفحامه بالقول إن خيار إعادة الانتخابات، والمسكوت عنه دستوريا، لن يحل الإشكال، بل سيضر باستقرار البلد، فها هي الجارة إسبانيا تعيش فراغا سياسيا غير مسبوق، فقد فشل الحزب الشعبي في تشكيل الحكومة عقب انتخابات 20 دجنبر 2015 رغم حصوله على المرتبة الأولى، لتعاد الانتخابات في 26 يونيو 2016، وتسفر عن النتيجة نفسها تقريبا، ولحد الآن مازال الحزب الشعبي عاجزا عن تشكيل الحكومة بفعل رفض كل من حزبي أونيدوس بوديموس والحزب الاشتراكي التحالف معه. هذا إلى جانب أن تأخير تشكيل الحكومة سيفتح مستقبل ملف الصحراء على المجهول، خصوصا وأن الدولة المغربية مقبلة على صراع مرير مع كل من المنتظم الدولي والاتحاد الإفريقي والخصوم الإقليميين حول ملف الصحراء، وتحتاج في هذا الظرف العصيب لوحدة الصف الداخلي، لذلك يبقى تشكيل حكومة قوية مدعومة بأغلبية برلمانية وازنة، تضم جل الطيف الحزبي بالمغرب، الخيار الأمثل لتصليب عود الداخل، وإعداده لمقارعة الخارج. زد على ذلك أن المغرب مقبل على تنظيم مؤتمر دولي هام، هو مؤتمر أطراف اتفاقية الأممالمتحدة الإطار بشأن تغير المناخ المسمى اختصارا كوب 22 في الفترة ما بين 7 و18 نونبر القادم، ومن غير المعقول أن يحل موعد هذا الحدث الاستثنائي، والذي يعول عليه كثيرا في تأكيد ثقة المنتظم الدولي في المغرب كنموذج للبلد النامي، والدولة منشغلة بمفاوضات تشكيل الحكومة، أو بإجراءات تنظيم انتخابات جديدة. بعد كل هذا الأخذ والرد، وحين ينقشع غبار الحروب الكلامية التي ستقع بين كل الأطراف، ستفضي سيرورة الأحداث للنتيجة الأرجح، و هي عدم قدرة حزب العدالة والتنمية على قيادة الحكومة القادمة، وبالتالي منعه بطريقة لبقة من تجديد ولايته الحكومية، بطريقة لا تتعارض مع الدستور، ولا مع مواصفات الانتخابات الحرة والشفافة والنزيهة، بعيدة عن تلك الطريقة الفجة التي استعملت عقب انتخابات 2007، وأقصي بواسطتها عبد الرحمن اليوسفي من الوزارة الأولى، رغم حصول حزبه الاتحاد الاشتراكي على المرتبة الأولى في تلك الانتخابات، بسبب ما سمي آن ذاك وباللهجة المغربية مولى نوبة، كناية عن الصراع الذي كان قائما بين حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال على منصب الوزير الأول. فهل جاءت الآن نوبة حزب الأصالة والمعاصرة لقيادة الحكومة والتي كان قاب قوسين أو أدنى منها لولا رياح الربيع العربي ؟ أم هي أوبة حزب الاستقلال وعودته للواجهة بعد التصدع الداخلي وانكسار شوكته الانتخابية ؟ دوافع إسقاط حزب العدالة والتنمية من رئاسة الحكومة : ولسائل بعد كل هذا أن يسأل : لماذا استبعاد السيناريو الأول الذي يبوئ حزب العدالة والتنمية، ويمنحه رئاسة الحكومة، ويخول له تمديد تجربته في تدبير الشأن العام ؟ أ ليس من مصلحة الدولة بقاء حزب وازن على رأس الحكومة، يحظى بشرعية انتخابية تأكدت في الانتخابات البلدية والجهوية الأخيرة ؟ حزب قدم لها خدمات جليلة بتمريره لقوانين لا شعبية تهيبت الحكومات السابقة من مجرد التفكير في مناقشتها ؟ لماذا يجب إقصاء حزب مهادن لم ينازع الدولة العميقة سلطانها، بل أذعن مرارا لنزواتها التسلطية ؟ حزب اختار العمل بتوافق مع المؤسسة الملكية وتحت مظلتها دون تبرم ولا امتعاض ؟ الجواب عن هذه الحزمة من الأسئلة يكمن في أن دوافع كثيرة، تداخلت خيوطها، وفتلت أليافها، لتشكل حبلا يخنق حلم حزب العدالة والتنمية في البقاء على رأس الحكومة. ويمكن تحديد أبرز هذه الدوافع والأسباب فيما يلي : انتفاء الحاجة لبقاء حزب العدالة والتنمية في قلب معادلة تدبير الشأن العام، بعد تغير الأوضاع الإقليمية التي حملته للحكومة، وتجاوز المغرب لمرحلة الربيع العربي وما صاحبها من انفجار في الشارع. فقد زال الخطر عن النظام السياسي القائم، ومن غير الضروري الآن الاستعانة بحزب وازن وذي رصيد شعبي، والدفع به للواجهة حتى تهدأ الأوضاع. احتراق ورقة القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية في لعبة تشكيل وقيادة أنظمة حكم جديدة بالمنطقة العربية، والانقلاب على تجربتيها الرائدتين، إما مدنيا بفعل الانتخابات كما حدث في تونس، وإما عسكريا بفعل تدخل الجيش كما حدث في مصر. وحزب العدالة والتنمية لن يشذ عن هذه القاعدة، لأن قواعد اللعبة واحدة. انتهاء الأجل الحكومي لهذا الحزب، وضرورة عودته لصفوف المعارضة أسوة بمن سبقوه، أي حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال اللذين اضطرا لترك مقود الحكومة، والتنحي جانبا وترك المنصب لحزب آخر. فلم يسجل تاريخ الحكومات المغربية، سواء منها التقنوقراطية أو الحزبية، قدرة حزب على قيادة الحكومة لفترتين متتاليتين. توجس المؤسسة المخزنية من تزايد رصيد خبرة حزب العدالة والتنمية في مجال التدبير الحكومي، والإشراف على المشاريع الكبرى التي انطلقت في ولايته، مما سيمكنه من تحقيق شرعية جديدة تنضاف للشرعية الانتخابية، وهي شرعية الإنجاز، تلك الشرعية التي يراد لها دائما أن تبقى ملكا للمؤسسة الملكية. سخط الدوائر المقربة من القصر من تلك الخرجات الإعلامية لرئيس الحكومة، التي يتهم فيها أطرافا معينة بالتحكم، والتشويش على العمل الحكومي، وينعتها بأقذع الصفات، ويربطها صراحة أو ضمنا بشخص مستشار الملك فؤاد عالي الهمة. فهذا السلوك ينظر إليه على أنه اجتراء على مقام الملك الذي يعلم الجميع مكانة هذا المستشاره منه. ضيق المخزن من تكرار بنكيران الحديث عن الدور الحاسم الذي لعبه حزبه في تهدئة الأوضاع إبان موجة الربيع العربي، والظهور كما لو أنه أنقذ الدولة وحماها عندما رفض الانخراط في حراك 20 فبراير 2011. فالمخزن لا يقبل أن يكون مدينا لأحد بشيء، ولا يرضى أن يمن عليه أحد، لذلك من الضروري محاسبة هذا الحزب على عدم كياسة أمينه العام. كاريزما رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة والتنمية، القائمة على عفويته التي تصل لحد السذاجة، وقدرته على مخاطبة الجموع بلغة قريبة من أفهامهم، وعدم ممارسته للغة الخشب، وعناده وعدم تحفظه في الكلام، جعلته يملأ الدنيا ويشغل الناس. وهذا أمر يزعج النافذين في الدوائر العليا للسلطة، الذين يرون أن تصرفاته هته تنتقص من هيبة رئاسة الحكومة. لكل هذه الأسباب وجب بالتالي قطع الطريق أمام حزب العدالة والتنمية، وأصبح من اللازم إبعاده عن رئاسة الحكومة المقبلة، وما تعرفه الساحة الحالية من قصف إعلامي على هذا الحزب بمدفعية الفضائح والملفات التي تظهر فجأة على السطح، ليس سوى تهييء للأجواء وتمهيد للطريق أمام حدث سقوط هذا الحزب. إن البيان المشترك الذي أصدرته كل من وزارتي الداخلية والاقتصاد والمالية حول تفويت قطع أرضية لخدام الدولة، والتي اتهم صراحة حزب العدالة والتنمية ودوائره الإعلامية بالتشهير، وتسريب قضية الشوباني الذي تقدم بطلب كراء أراضي للقيام بمشروع فلاحي شخصي في الحدود الترابية للمنطقة التي يتبوأ فيها منصب رئيس الجهة، وانتشار صور العرس الباذخ الذي أقامه الوزير بوليف لابنته، والتي تنافس رواد الفضاء الأزرق في إظهار صحتها أو فبركتها، وأخيرا فضيحة عمر بنحماد وفاطمة النجار الداعيتان المعروفان، والقياديان في حركة التوحيد والإصلاح، المتهمان بالفعل المخل في الشارع العام، كل هذه الفضائح المتزامنة هي قصف تمهيدي لهذا الحزب، في انتظار الضربة القاضية التي ستطيح به خارج حلبة التنافس على رئاسة الحكومة المستقبلية. كما أنها ستستعمل أمام الجمهور داخليا وخارجيا كمبررات حقيقية لتضاؤل شعبيته، وبالتالي من غير المستغرب سقوطه انتخابيا، في حين أن المبررات الحقيقية تكمن فيما سردناه سابقا، وليس في هذه الفضائح التي تمتزج فيها الاخطاء والزلات بالتصيد والترصد. على سبيل الختم : إن انتخابات السابع من أكتوبر هو موعد جديد سيخلفه المغرب مع الديموقراطية، بل وحتى مع الانتقال الديموقراطي السليم، لذلك من الغباء الانشغال بهذا الاستقطاب الحاد والعنيف السابق لهذه الانتخابات، الذي تدور رحاه بين كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة، وبتلك الفضائح والتسريبات والخوض فيها من باب الدفاع أو الهجوم على هذا الحزب أو ذاك، كما يفعل غالبية المنشغلين بالحقل الحزبي، فالبصيرة تقتضي عدم الوقوف عند العرض، والنفاذ للمرض. فما نعيشه في هذه الأيام السابقة للانتخابات هو عملية تعتيم كبرى، الغرض منها إلهاء الجميع عن شيئين : أولهما معضلة كساد الانتخابات كمنتوج سياسي للاستهلاك الداخلي، بسبب إدراك المواطنين عدم جدواها في تحسين مستوى حياتهم، وثانيهما غياب رهانات حقيقية من وراء إجرائها بسبب هندسة السلطة بالمغرب، والتي تمنع الاستحقاقات التشريعية من إفراز سلطة تنفيذية حقيقية، بسبب كون هذه الأخير في يد المؤسسة الملكية بموجب الدستور. وبالتالي، فالممسكون بزمام السلطة يدركون أن غياب المحفزات الطبيعية للانتخابات، والتي تتمثل في قدرتها على إنتاج خلايا حيوية جديدة ونشيطة في جسم السلطة، والتخلص من فضلات وسموم الميتة والمعطوبة منها، يحولها (أي الانتخابات) إلى مجرد لحظة استحمام، تنظف ظاهر جسد السلطة دون باطنه. لذلك نجدهم، وهم يواجهون مشكلة ضعف بريق الانتخابات، وانعدام جاذبيتها، والذي يتبدى أساسا في إعراض الناخبين المفترضين عن التسجيل في اللوائح الانتخابية (الرقم الذي أعلنته وزارة الداخلية عن عدد المسجلين لا يتعدى نصف مليون ناخب جديد)، يسعون لرش هذه الوجبة الانتخابية القادمة بالبهارات الحارة للتنافس الحقيقي والحر بين الفرقاء الحزبيين، والتوابل المنسمة لحياد الإدارة ووقوفها المسافة نفسها منهم جميعا. وقد وجد هؤلاء النافذون الفرصة سانحة في هذا التناطح بين طرفي المعادلة الحزبية بالمغربية، فنفخوا في نار الصراع الدار بينهما، وسَعَّروها حتى أخفى دخانها ما سواه، ولعل أهم ما أخفاه أن الفاعل الرئيسي الافتراضي في العملية الانتخابية قد انفض من حولها، وقطع الرجاء منها، وترك المجال للقوى الحزبية لتتنافس في مباريات بدون جمهور. إن الحاجة ماسة الآن لاستيعاب حقيقة أن الحقل السياسي بالمغرب يحتاج وبشكل استعجالي لإعادة هيكلة، يكون فيها للانتخابات البرلمانية دور فاعل في تشكيل السلطة ومحاسبتها، ومجال فعلي لمشاركة المواطن في تدبير الشأن العام، والتأثير في الاختيارات الكبرى للدولة، في أفق الوصول لانتخابات ديموقراطية بمواصفاتها الحقيقية. لذا فانتخابات السابع من أكتوبر ستكون للأسف فرصة ضائعة، لأن أفقها ضيق، فهو لا يعدو إعادة توزيع القوى الحزبية على هامش السلطة، لذلك مهما حدث بعد هذا الاستحقاق الانتخابي، فلن يغير في جوهر الإشكال المؤرق : متى وكيف يصبح المغرب بلدا ديموقراطيا ؟