من عوامل تراجع اليسار كقوة فكرية وأخلاقية مؤثرة في الوعي الجماعي وفاعلة وطنيا ودوليا، انتصار المالية العالمية على الاقتصاد السياسي وانتشار التخلف الوهابي بعد حرب باردة حُسمت لصالح العولمة الرأسمالية على حساب الشعوب. بدوره، واستمرارا لحركة التحرر الشعبية، عانى اليسار المغربي من "سنوات الرصاص" التي لعبت الدور المنوط في إفراز انشقاقات داخلية بعد مشاركة جزء منه في مؤسسات ما بين 1972 و1996 المطبوعة بتحكم النظام، حملت تناقضات أفقدت الثقة في "دولة الحق والقانون" كمصطلح تنافست عليه الملكية ومكونات الحركة الوطنية. اليوم، هبت العولمة بمناخ جديد يعد بصحوة اليسار أمام تحالف الرأسمالية وتجارة الدين المناهضان للمصلحة العامة، ونعيش إنضاج الفكرة الوحدوية بين فرقاء الصف التقدمي تستمد قوتها من الميراث النضالي الجماعي المنبثق عن مقاومة الاستبداد والعمل النقابي والحقوقي والفكري الذي نجح في كسب مبادرات انتقالية للمنظومة المؤسساتية، طبعت جيلا جديدا من التقدميين والمُتاحة أمامهم إمكانية المساهمة في انتصار الاشتراكية كما هو الحال في أقطار المتوسط وأمريكا اللاتينية. اليوم، يواجه الاشتراكيون تحدي تقديم البديل للرأسمالية الجديدة والأصولية بالإجابة على أسئلة من قبيل: هل سيبقى لليسار علاقة نقدية مع السوق كمدافع على رؤوس الأموال؟ أو ما دور اليسار في تنامي أو تراجع الفكر العقلاني أمام الفكر المحافظ؟ أسئلة تُعرِّف يسار القرن 21 وتحثه على الفصل أو الانسجام بين مرجعياته على أساس المبدأ الذي يجعل من "تنمية الفرد شرطا لرقي الجماعة"، بعيدا عن تلك المراجعات "البيزنطية" التي أغرقته في نفق "النقد الذاتي" بعد نكسة التسعينات والصراعات التي حولته إلى شتات غير قادر على مواجهة التحالف الرأسمالي- المحافظ. رغم دلك لم يفقد اليسار شرعيته بل لا زال محوريا في توازن البلاد، متشبثا ببناء دولة العدل ورد الاعتبار للشغل كأساس الإنتاج أمام الرأسمالية الغير المتحكم فيها من طرف السيادة الشعبية، بهدف إخراجنا من الاختيار الاجباري بين الحل الأصولي والتقنقراطي الموالي لمؤسسات الوصاية الاقتصادية. اليوم، يدافع اليساريون عن الحريات الاقتصادية لكن أولا عن سمو حقوق الانسان على السوق المتوجهة فطريا نحو احتكار المال من طرف فاعل أو أوليغارشية، وذلك بإدماج التماسك الاجتماعي ضمن أهداف الرأسمالية عبر التعليم والصحة والثقافة ومجانية وجودة المرافق العمومية المنظمة من طرف دولة وطنية قوية، لتفادي الاختلال الهيكلي والفتن التي طبعت منطقتنا العربية-الأمازيغية-المُوحِّدة منذ وأد الاستقلالات. أمام هذه الحقائق الموضوعية التي يطول تفصيلها في هذا المقال، تتبنى الرأسمالية الجديدة تعليلا يُحمِّل "تدخل الدولة في الاقتصاد"– صُلب الاشتراكية في تعليق اليمينيين- مسؤولية الأزمات الاقتصادية، لتبرير التقشف و خوصصة المرفق العام من أجل خدمة المؤسسات المرتكزة على قروض دول العالم الثالث. على عكس ذلك، يؤكد اليسار على أن تراجع الدولة هو المسؤول عن الأزمة، و بدفاعه عن الدولة الوطنية كفضاء للانتماء وتعبير عن القانون فهو يقترح الوقاية من رد الفعل الديني على الواقع الطبقي بتكريس "الديمقراطية" كآلية لإدماج الحرية و المساواة في علاقة الشعب بمؤسسات ضامنة للاستقرار عوض ضمانه بمقاربة أمنية صرفة. اليوم، وفي زمن مطبوع بالراديكالية تتبارز فيه الشعبوية والأصولية، يتصالح اليسار مع أصوله الليبرالية المنبنية على القيم الكونية لتأسيس انطلاقة جديدة لمغرب في حاجة إلى خط ثالث يُرجع للعمل السياسي نبله بالقطيعة مع تمثيلية مشوهة تعترض على الشرعية الشعبية. فالقدرة التنظيمية للحركات الإسلامية والأساليب الانتخابية للأحزاب الإدارية في بحور الفقر تضل هامشية أمام الضمير اليساري وإرادة الشعب الممتنع الحامل لقناعات متعددة لا يمكن تجميعها إلا في خط اشتراكي صريح، ما انفك يقاوم التضليل و استغلال العقيدة في شرعنة بعض المصالح الطبقية، لنخرُج من حتمية الاستسلام إلى الظلامية أو الفساد ونستطيع الدفاع عن وطننا من التفكك من منطلق تحرري وشعبي. * دكتور في القانون الدولي للتنمية من جامعة نيس الفرنسية محام وجامعي فاعل حقوقي وسياسي يساري