قضايا الإرث بين التسيب والاجتهاد عبد الله الجباري أثيرت وتثار قضايا الإرث في المغرب، مرة بعد أخرى، مرة بشكل فردي وشخصي من قبل بعض المعارضين لمقررات الإرث، ومرة بشكل جماعي، وفي الآونة الأخيرة، صدرت عريضة موقعة من قبل مائة شخصية وُصفت ب"الوازنة"، تدعو إلى إلغاء التوريث بالتعصيب، بناء على مسوغات سننظر فيها أدناه. لعل من نافل القول، التأكيد على أن الساحة العلمائية تعرف خمولا وكسلا فكريا، مما يورث فراغا في الساحة الثقافية. وهذا ما يحفز بعض غير المتخصصين لاقتحام العقبة، وخوض غمار "الاجتهاد" و"التجديد"، لتكسير الطابوهات، وخرق المسلّمات. وهو ما يستتبع حربا غوغائية في الساحة الإعلامية، بالردود والردود على الردود، مع تسلح المتحمسين من الطرفين بالسب والشتم والتنقيص من المخالف، وهذا ما لا يجوز في ميدان المناظرة. ولو تحمل العلماء مسؤوليتهم في التفكير والاجتهاد والإبداع، لما ورّطوا المجتمع في مثل هذه الغوغائيات المرفوضة عقلا وسمعا. وسأتناول ما أثير مؤخرا وما لم يثر من قضايا الإرث في هذه العجالة، وفق نقاط متفرقة. الأولى : فلسفة الإرث في الإسلام ميّز المسلمون بين فقه الإرث وفلسفة الإرث، فركزوا على الأول وأبدعوا فيه واختلفوا حول قضاياه، لكنهم أغفلوا فلسفة الإرث التي تنبني عليها تلك الأحكام والفروع. وكان حريا بعلمائنا أن يصدّروا كتب الفرائض بالأرضية الفلسفية للإرث ابتداء، ثم الانتقال إلى فقهه ثانيا. بالنظر في المنظور الإسلامي للمال، نجده فرعا من أصل، وجزءا من كل، وهو مبدأ الاستخلاف في الكون، فالله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، وبما أن المال بكل أنواعه جزءا من الأرض، فإن الإنسان مستخلف في المال ضرورةً، لذا قال عز وجل : "آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"، ولم يقل جل وعز : وأنفقوا من أموالكم، أو : أنفقوا من ممتلكاتكم، أو غيرها من العبارات. ولم ينسب المال للإنسان حقيقةً، بل جعله مجرد مستخلف فيه. مما يعني أن التصرف المستقل في المال هو لمالكه حقيقةً، وهو الله تعالى، لذا يتدخل بأحكامه الحكيمة في الأموال، فيفرض الزكاة، ويحرم معاملات بعينها، ويبيح أخرى. ولو كانت للإنسان الملكية التامة للمال، لكانت عنده الحرية المطلقة في التصرف فيه، ولمَا تدخل الله تعالى فيه بإيجاب زكاة أو ترغيبٍ في صدقة أو غيرهما. وهذه النظرة الإسلامية للمال، تخالفها النظرة الأخرى، وهي النظرة القارونية التي لا تؤمن بالاستخلاف، قال تعالى عنه : "وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة"، وفي هذه الآية تنصيص على أن الله تعالى هو الذي آتاه المال والكنوز، لكن قارون أنكر هذا الإتيان الإلهي، وزعم أنه – باستقلال تام ومطلق – حصل على تلك الأموال، فقال : "إنما أوتيته على علم عندي"، وأنْ لا دخل لله تعالى في ثروته. من هنا، يقف الناس عبر العصور مع المال وفق تصورين : مبدأ قارون، ومبدأ الاستخلاف. ومن لم يفهم مبدأ الاستخلاف، ولم يستوعب قضاياه، سيحتج على منح الأنثى نصف الذكر، وسيحتج على التعصيب، ولن يتوقف احتجاجه واستنكاره. ومن أدرك فلسفة الاستخلاف، يستقبل أحكام الله في توزيع التركة مسلِّما ومستسلما، راضيا بها، مطمئنا لفروضها. ثانيا : قطعيات الإرث وضرورة الطاعة والوفاء ذكر الله تعالى في محكم كتابه قضايا الإرث في ثلاث آيات من سورة النساء. اثنتان في بدايتها، وختم السورة بالثالثة، واستعمل فيها ألفاظ وعبارات يجب على المسلم أن يتوقف عندها، ويستوعب مدلولها ومعناها. افتتح الله تعالى المواريث بقوله تعالى : "يوصيكم الله" وختم حالات إرث الإخوة لأم بقوله تعالى : "وصية من الله". ووصف أنصبة الورثة المذكورة في النص بكونها "نصيبا مفروضا"، وختم حالات الوالدين بقوله تعالى : "فريضة من الله"، وختم هذه الحالات كلها بقوله : "تلك حدود الله". وافتتح حالات الإخوة في آخر السورة بقوله تعالى : "قل الله يفتيكم". وختمها بقوله تعالى : "يبين الله لكم أن تضلوا"، وبالتأمل في هذه العبارات ومعانيها، نفهم بما لا مجال للشك فيه، أن الأحكام القطعية المتضمنة في هذه الآيات هي أنصبة مفروضة من الله، ووصية الله، وفريضة الله، وحدود الله، وفتوى الله، وبيان الله. عزّ الله، جلّ الله. وقد يتذرع البعض لإدخال بعض التغييرات في أحكام الإرث القطعية، كالتسوية بين الابن والبنت، بدعوى تغيرات الظروف والأحوال من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا، وقد علم الله تعالى في سابق علمه وقوع هذه التغيرات، وعلم الله تعالى في سابق علمه صدور هذه الذرائع من أهل عصرنا، ولعل ذلك هو السبب في التركيز على صفة العلم الإلهي في آيات المواريث، فقال تعالى في ختام حالات الأولاد والوالدين : "إن الله كان عليما حكيما"، وقال تعالى في ختام حالات الزوجين والإخوة لأم : "والله عليم حليم"، وختم حالات إرث الإخوة بقوله جل وعز : "والله بكل شيء عليم". وهذا التكرار والتأكيد لصفة العلم الإلهي في هذا السياق، لا أرى له موجبا إلا لينبهنا إلى أنه سبحانه يعلم ما سيقع من متغيرات في الظروف الاجتماعية، ورغم ذلك، لم يترك بعض الأحكام لاجتهادنا، بل نص عليها بالنصيب المفروض القطعي. وقد سبق في علم الله تعالى أن هذه الأحكام قد يتمرد عليها، أو قد يخالفها عمدا لا سهوا بعض المكلفين، فختم الآيتين من سورة النساء بوعد ووعيد، فقال في الوعد : "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات … وذلك الفوز العظيم"، وقال في الوعيد : "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا خالدا فيها، وله عذاب مهين". وبعد ختم سورة النساء بأحكام وأنصبة الإخوة، افتتح الله تعالى مباشرة سورة المائدة بقوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم …"، وغني عن البيان، أن القرآن الكريم محكم الآيات، لذا اجتهد العلماء في إثبات التناسب بين السور والآيات، وإذا تأملنا آية سورة المائدة التي تأمر بالوفاء بالعقود، فإننا لم نجد قبلها ولا بعدها كلاما عن العقود المعروفة، كالبيع والكراء والإجارة …، بل هي مسبوقة بأحكام المواريث، ومتبوعة بأحكام بهائم الأنعام، وهذا يدل على أن تلك الأحكام هي بمثابة عقود بين الإنسان وربه، يجب عليه الوفاء بها. وهذه النكتة لم أجدها مذكورة في كتاب، ولم أجد من التفت إليها من العلماء الأعلام، فإن تبين صوابها فهي تفضل من المولى الوهاب، وإن كانت خطأ فمن تسرعنا وقلة فهمنا. وهذا طبع الإنسان. ثالثا : ضرورة الاجتهاد إذا تجاوزنا ما ورد من القطعيات الفرَضية في الكتاب والسنة، فإن كثيرا من أحكام الإرث مندرجة ضمن الظنيات، التي يجوز الاجتهاد فيها، ويجوز الاختلاف حولها بين أهل العلم والشأن. وإذا لم يكن من بدٍّ للاجتهاد في مجال الإرث، فإنني أدعو إلى الاجتهاد انطلاقا من نقطتين اثنتين : أ – الاجتهاد من أجل العودة بأحكام الإرث إلى القرآن : مما يعرفه كثير من المختصين، أن بعض أحكام الإرث المعمول بها هي من اجتهادات علمائنا الأقدمين، أو من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم، ومعلوم أن اجتهاداتهم غير المجمع عليها لا ترتقي إلى درجة الحجية والقطع، وهنا أسوق أمثلة تبين بعض اجتهاداتهم التي تبتعد بالحكم المعمول به عن القرآن ذاته. المثال الأول : إذا مات رجل وترك زوجة وأما وأبا، فللزوجة الربع (12/3)، وللأم الثلث(12/4)، وللأب الباقي (12/5). المثال الثاني : إذا ماتت امرأة، وتركت زوجا وأما وأبا، فللزوج النصف (6/3)، وللأم الثلث (6/2)، وللأب الباقي (6/1). من خلال هذين المثالين، يتبين أن الأم ترث بنص القرآن ضعف الأب في المثال الثاني، والأب يرث أكثر منها بقليل في المثال الأول، وهذا التقسيم الفرَضي، تشبث به ابن عباس رضي الله عنهما، وأفتى بأخذ الأم نصيبها القرآني ولو كان أفضل من الأب/الذكر، أما زيد بن ثابت رضي الله عنه، فاجتهد بخلاف القرآن، ولم يستسغ حصول الأم/الأنثى نصيبا أفضلَ من نصيب الأب/الذكر، فأعطاها ثلث الباقي، وهو غير موجود في القرآن. وقال ابن مسعود : "ما كان الله ليراني أُفضل أمّاً على أب". وهذا قول غير صحيح، وهو من الصحابة رضوان الله عليهم من باب الخطأ مع قصد الحق. وأفضلية الرجل على المرأة ليست من القواعد المقطوع بها، والتي تخول للمجتهد الاعتماد عليها في تأويل النص وتفسيره، وقد رد ابن حزم على ابن مسعود رضي الله عنه ومن تبنى رأيه، وبيّن بالدليل أفضلية الأم على الأب، من حديث حُسْن الصحبة، حيث أجاب النبي صلى الله عليه وسلم السائلَ فقال : أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك. ثم بيّن بالدليل القرآني تسوية الله تعالى بين الأب والأم في 6/1 عند وجود الولد، ثم تساءل : "فمن أين تمنعون من تفضيلها عليه إذا أوجب نص ؟". من هنا، فإني أدعو إلى الاجتهاد في إرجاع بعض الأحكام الفرَضية إلى النص القرآني، والالتصاق به، وفاءً له، والتزاما بوصية الله، وفريضة الله، وحدود الله. خصوصا أن هذا النص يعطي للأم نصيبا أفضل من نصيب الأب، مما يفند دعاوى بعض الناس الذين يزعمون دونية المرأة في الإسلام. وامتهان كرامتها، وتمييز الرجل عليها. ب – الاجتهاد في الظنيات : في الإرث ومباحثه قضايا ظنية، يجوز الاجتهاد فيها، إثباتا ونفيا، مثل ما يرد في التعصيب وأحواله، وقد استقر العمل الفقهي في المذهب المالكي، على منع بعض الأقارب من الإرث، مثل الجد أبي الأم، والعمة، والخال وابنه، وأبناء البنت، وغيرهم من ذوي الأرحام. فهل يعد هذا من القطعيات ؟ وإذا لم يكن قطعيا، ألا يجوز إدراج هؤلاء ضمن الورثة ؟ وإذا أدرجناهم، فما هي مرتبتهم ؟ وهل يكون الخال بمنزلة العم أم بعده ؟ وهل المطالبة بتوريث هؤلاء تعد خروجا عن الدين ونكوصا ؟ مع العلم أن بعض المذكورين أو كلهم يرثون في بعض المذاهب الفقهية، وهو ما يحتم علينا في المجتمع المغربي الانفتاح على المجتمعات الحنفية لدراسة طريقة تنزيلهم لهذه الأحكام، ومعرفة مدى مرونتها أو صعوبات تنزيلها. ويمكن توسيع دائرة الوارثين من هذه الناحية، ويمكن في المقابل إعادة النظر في مسألة الوصية الواجبة، وهي وصية قانونية غير شرعية، فرضها القانون على التركة، ولا علاقة لها بالإرث من قريب أو بعيد، وقد طبقها العمل القضائي المغربي منذ عقود من الزمن، وحري بنا أن نتوقف عندها بالدراسة والتحليل، من أجل معرفة شرعيتها وجدواها، وهل يحق لنا إبقاؤها أو حذفها ؟ إلا أن هذا الاجتهاد يجب أن يسلك سبله الحقة، ومسالكه الطبيعية، ولا يمكن أن يُفرض بأجندات أو باستعراض عضلات هنا وهناك، لأن القضايا العلمية يجب أن نسلك فيها المناهج والمسالك العلمية، ولا نناقشها تحت وقع العرائض والاحتجاجات، والعرائض والاحتجاجات المضادة. رابعا : العريضة المريضة صدرت الأسبوع الماضي عريضة موقعة من قبل مائة شخصية "وازنة" تنتمي إلى عالم السياسة والطب والمسرح والشعر الحر، مفادها الرئيس، إلغاء مبدأ التعصيب بالنفس، وتضمنت العريضة بعض العبارات التي أتوقف عندها، وأدعو الباحثين إلى دراستها والاهتمام بها. أ – جاء في العريضة : "ينتج عن تطبيق نظام الإرث عن طريق التعصيب بالنفس، ظلم كبير لا يتماشى مع مقاصد الإسلام"، وبعد صدور العريضة، كتب خالد الحري افتتاحية في جريدة الصباح، ضمّنها قوله : "إن نداء المثقفين لحظة تاريخية لمجتمع ونخبته، قررا قطع شعرة معاوية، مع التخلف وظلم المرأة". وهكذا نجد الحديث عن الظلم والظلم الكبير ورفع الظلم، وغير ذلك، والسؤال : أين هو الظلم ؟ فالقانون المغربي لم يَحرم البنت من الإرث، ولم يحرمها من نصيبها القرآني، ولو حرمت من هذا لكان ظلما حقا. فعلى أية مرجعية يقف هؤلاء ليصفوا هذا ظلما وذاك عدلا ؟ أم أن المسألة مجرد أحكام انطباعية لا غير ؟ وأرى أن الأليق والأنسب في هذه المسألة، الابتعاد عن عبارة "الظلم"، لأنها حكم قيمة غير منضبط، وما يراه أحدنا ظلما، قد يراه الآخر عدلا. وإذا تم التوافق على إعطاء حق لشخص دون آخر، لا يسمى هذا المَنح ظلما للغير، وأوضَحُ مثال أُورِده في هذا المقام، التوافق الدستوري حول منح حق وراثة العرش للابن الأكبر للملك، ولا يُعطى هذا الحق للبنت ولو كانت كبرى، ولا يعطى للأبناء الذكور الآخرين، وهنا لا نجد تسويةً، ولا نجد ظلما. وقد يزعم المرء –بحسن نية أحيانا – قصد العدل وإرادته، ويسلك في ذلك مسلك الهوى، وهو ما حذر منه القرآن الكريم بقوله : "فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، قال ابن العربي المعافري : "معناه لا تتبعوا أهواءكم في طلب العدل برحمة الفقير، والتحامل على الغني"، وما قام به أصحاب العريضة، هو محاولتهم طلب العدل، برحمة البنت، والتحامل على الأخ أو العم، سواء بسواء. ومن معاني "العدل" : المساواة. والمساواة لا تكون إلا بين الشيء ومثيله ونظيره، وإذا أردنا أن نحكم بالعدل في الإرث، فلنقارن بين البنت والبنت، وليس بين البنت والعم أو الأخ، لأنهما ليسا نظيرين ولا مثيلين لها. أما العدل في الأحكام الإلهية الشرعية، فما يُعرف إلا بالله تعالى، وكيفما صرف حكمه فهو العدل. ومن عدله أن أعطى للبنت نصفا، وللعم أو الأخ ما بقي. والحديث عن الظلم في الإرث، والإشارة إليه، افتتح به المثقفون المائة عريضتهم، فقالوا في مطلعها الذي يفتقر إلى براعة الاستهلال : "يعطي قانون المواريث الحق للرجل في الاستفادة من الإرث كاملا، في حال كان الوريث الوحيد، في حين لا تستفيد المرأة من هذا الحق، إذ ترث فقط نصيبا مقدرا معلوما يسمى فرضا". وهذا ليس ردا على الفقه والفقهاء كما يدعي بعض عرّابي العريضة في شروحهم وحواشيهم التي نشروها بعد العريضة، بل هو رد على القرآن نفسه، ورد على كلام الرب الحكيم العليم. ودوننا آيات إرث الأولاد، ففيها : البنت ترث النصف في حال الانفراد. البنت ترث الثلثين بالاشتراك في حال التعدد. البنت ترث نصف الابن إذا وُجد. وسكت النص عن حالة واحدة، وهي وجود الابن دون غيره، فبما أن الآية سكتت عن حالته، فهل نمنعه ؟ أم أن سكوتها بيان لحاله ؟، وهو أخذ جميع الميراث، وهو ما تندد به العريضة في العبارة السابقة. وتستنكر عدم حصول البنت على مثله. ونفس المنطق القرآني في حالة الابن، نجده في حالة الأخ إذا لم يكن معه إخوة وأخوات. فإنه يأخذ التركة كلها. وبعد ذلك، يدعي الموقعون المائة أنهم لا ينتقدون القرآن وأحكام القرآن، ويكتفون بانتقاد الفقه الذي لا يساير عصرنا فقط. ولنا سؤال آخر : لماذا اعتبر المائة وأنصار المائة إرثَ الأخ أو العم مع البنت مخالفا لمقاصد الشرع ؟ بأي منطق يتكلمون ؟ إن توسيع قاعدة الإرث، وإعطاء الأخ أو العم نصيبا من التركة، لهُو من صميم مقاصد الإسلام، لأنه يرسخ مبدأ التكافل الأسري، ومبدأ تداول الأموال، "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"، ويرسخ مبدأ تمتين العلاقات بين أفراد العائلة، وغيرها من المقاصد السامية، فكيف يقلب هؤلاء المائة هذه المصالح إلى مفاسد ؟ ويتبنون مبدأ الإقصاء ويجعلونه من مقاصد الإسلام ؟. ب – جاء في العريضة : "ما الذي يبرر أن يظل الأقارب الذكور (الأقربون والأبعدون) يتقاسمون الإرث مع فتيات يتيمات لا يتحملون مسؤوليتهن المادية أو المعنوية في شيء ؟ إذ أن القانون الذي يبيح لهم اقتسام إرث لم يساهموا فيه، لا يجبرهم في المقابل على حماية ورعاية الأسرة المعنية". وهذه الفقرة الصغيرة تحتاج إلى مقال موسع لبيان تهافتها وضعفها وقلة بضاعة منشئها ومروجها. وأكتفي بآخرها : أكاد أجزم، أن أصحاب العريضة قرروا ابتداء توجيهَها إلى السذج والجهال والأميين، وإلى الغوغائيين والديماغوجيين، ولو قرروا أن يوجهوها صيحةً للمثقفين والقانونيين والعلماء، لما سقطوا في الدرك الأسفل من الصياغة الفقهية والقانونية. وفي الفقرة السابقة يستنكرون على الوارث نيل حصة من "ثروة لم يسهم فيها". مما يعني أن سبب الإرث في مخيلتهم هو الإسهام في الثروة، مَن أسهم فيها فله الحق في الإرث، ومن لم يسهم فلا حق له. وهذه كارثة بكل المقاييس، ولو طبقناها لقلبنا المنظومة الفقهية والقانونية رأسا على عقب، ولصرنا أضحوكة بين أمم الإنس والجن على السواء. وبناء على رأي العريضة وأصحابها المائة، فإننا نقرر الآتي : ** من مات وترك ابنه جنينا في بطن أمه، فالجنين لا يرث، لأنه لم يسهم في الثروة/التركة. ** من مات وترك أطفالا صغارا، رضعا أو رضيعات، فلن يرثوا، لأنهم لم يسهموا في الثروة/التركة. ** من مات بعد زواجه بأيام قليلات، فزوجته لن ترث، لأنها لم تسهم في ثروته. وإذا اتبعنا منطق المائة ممن وقعوا العريضة المريضة، فإنه لن يرث في أحسن الأحوال إلا الزوجة التي أمضت مع زوجها سنوات عديدات، لأنها قد تسهم في الثروة، والأب إن أسهم مع ابنه في بناء ثروته، وقد نعطي الأسبقية للإخوة على الأبناء، وأبين ذلك من خلال مثال واقعي : ** شخص عاطل عن العمل، تعاون إخوته وعمه، واقترضوا مالا ليذهب إلى أوربا من أجل العمل، ولما امتلك ثروة، تزوج، وأنجب بنتا، وبعد ذلك بأيام توفي، فمن الذي أسهم في بناء ثروته ؟ بنته أو إخوانه وعمه ؟ إن كلمة "الإسهام في الثروة" لا يمكن أن تصدر عن إنسان يعرف ألفباء الفقه والصياغة القانونية الدقيقة، لأنها عبارة غير منضبطة بأي ضابط، ولا يستطيع قبولها أي رجل قانون يحترم تخصصه، وهنا أبين ألمعية ونجومية الفقهاء مقارنة مع الشخصيات "الوازنة" المائة، فإن الفقهاء قالوا : الإرث يكون بسبب القرابة والزوجية، وهما سببان منضبطان، وقال المائة : يكون الإرث بسبب الإسهام في الثروة، وهو سبب غير منضبط، ولو طبقناه لما أعطينا للبنات نفس النصيب، بدعوى أن إحداهن أسهمت في الثروة أكثر من أختها، وهنا ننتقل إلى بناء الأحكام على الأذواق. ج – جاء في العريضة المريضة : "فما الذي يسوغ أن يستمر العمل بقانون التعصيب ؟ علما بأن هذا القانون لا يجد أي سند في القرآن الكريم، فضلا عن أنه لا يتناسب مع مقاصد الشريعة الإسلامية في تحقيق العدل بين الناس". والحديث عن العدل والمقاصد بينا وهاءه ولا عِلميتَه. وعدم وجود أي سند في القرآن للتعصيب غير سديد. بل هو مذكور في القرآن، ففي حالة الابن المنفرد دون البنت، سكت عنه القرآن، ولم يبين فرضه، وهذه إشارة إلى أخذ نصيبه تعصيبا. تنبيه : علّق العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة على العريضة، ووصف الموقعين عليها بأنهم يشهدون على أنفسهم أنهم لا يعرفون شيئا من الشريعة. وهو مُحِق في ذلك، ومن كانت له معرفة بالشريعة لا يمكن أن يتحدث عن ربط الإرث بالإسهام في الثروة. وعلق أستاذنا العلامة أحمد الريسوني على العريضة، وبيّن أن الشعب كله يقف في صف الشريعة باستثناء بعض الخوارج الجدد، وهو وصف دقيق، لأن من يريد الخروج عن القواعد المنضبطة، هو من الخوارج الجدد، الذين يريدوننا أن ندخل في متاهات أحكام وعلل غير منضبطة. خامسا : ما بعد المريضة بعد صدور العريضة المريضة، تولى بعض الموقعين عليها التوسع في الشرح والتوضيح، من خلال مقالات وحوارات، وهذه وحدها غريبة، حيث صار أصحاب المتن هم الشُّراح والمُحَشُّون، ومن ذلك، الحوار القصير والضعيف لوزير الصحة السابق الدكتور الحسين الوردي. قال في حوار مع جريدة أخبار اليوم : "موضوع التعصيب في الإرث، فيه حيف وظلم كبير ضد النساء، ويجعلهن أكثر عرضة للهشاشة والفقر". وختم استجوابه بقوله : "شخصيا، لا أقبل أن يهاجمني أحد ويتهمني بالجهل". سنخضع للسيد الوزير السابق، ولن نصفه بالجهل، ولكن، ليسمح لنا بفهم كلامه، وإلزامه بلازمه. ربط الوزير السابق بين التعصيب والهشاشة والفقر ربْط السبب بالنتيجة، ولمحاربة النتيجة، طالب بإلغاء السبب. وأنا أشكره على هذا الاجتهاد، وبناء عليه، فإن الشعب المغربي يعاني من الهشاشة والفقر، بإجماع المؤسسات والهيآت المحلية والدولية، والسبب في هذه الهشاشة هو مؤسسات البلد من برلمان وحكومات متعاقبات وغيرها، فهل نطالب بإلغاء هذه المؤسسات لأنها أسهمت ورسخت الهشاشة والفقر في المجتمع، كما رسخ التعصيب الهشاشة والفقر عند المرأة ؟. يعرف المغاربة أن حزب الوزير (التقدم والاشتراكية) أسهم في خمس حكومات متعاقبة، وكان المغرب وما زال يعاني من الفقر والهشاشة، وكان حزب الوزير مسهما رئيسا في ترسيخهما، فهل نطالب بحل حزبه ونظرائه وإلغائه من الساحة السياسية ؟ ويعرف المغاربة أجمع، أن قطاع الصحة أشرف عليه السيد الحسين الوردي طيلة سنوات، وخرج منه وهو في كامل هشاشته، فهل يعدُّ هذا سببا لإلغاء الحسين الوردي وحذفه من الحياة السياسية والإعلامية نهائيا ؟ إن الموقعين على العريضة لا يتقنون الصياغة الفقهية القانونية المقبولة، كما بينت من خلال الأمثلة السابقة، وزاد الوردي الطين بلة بهذه التعليل الهش الفقير علميا، ومع ذلك، فإنه لا يسمح لأحد أن يتهمه بالجهل. وفي الختام، لا يسعني إلا أن أشكر المائة، كلاًّ باسمه ونعته، لأنهم خلقوا زوبعة في المجتمع، وكأنهم من نوع مثقفي الإثارة، وأشكرهم على أن أشعروني بضعفهم الفقهي والقانوني، حتى أكون على بينة من أمرهم، ولن أقبل منهم "اجتهادا" في المستقبل. كما أوجه نداء إلى العلماء، ليتحملوا مسؤوليتهم في حمل لواء البحث والمعرفة، وأن ينبذوا الكسل والخمول، وأن يتحركوا دون انتظار إشارة من أحد، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.