البعض يرى أن تحييد العنف يعني التنظير الإيديولوجي للصلح مع إسرائيل، شريحة أخرى ترى أن اللاعنف يعني تعطيل الجهاد، وفريق ثالث يرى أن السلام جميل ولكنه غير واقعي، ويرى فريق رابع أن التعامل بالحسنى هو صورة غير مباشرة للاستسلام لإرادة الخصم وتعزيز قدرة الهجوم عنده. تحييد العنف ليس تكتيكاً سياسياً، ولا يعني التنظير للصلح العربي الاسرائيلي؛ فالسلام العربي العربي هو التناقض الجوهري، والصراع العربي الاسرائيلي هامشي. ظهر هذا بشكل فاقع في انفجار أحداث الشرق الأوسط؛ فقد نسينا اسرائيل. وفي اللحظة التي يتعافى فيها البدن العربي من حمى الغدر والتآمر والاقتتال الداخلي، وتسمم جو الثقة، وترتفع عنده مؤشرات قوة الجهاز المناعي الداخلي، فستتحول اسرائيل إلى (فورموزا) الشرق الأوسط؛ لأن الأزمة العربية داخلية بالدرجة الأولى في قدرها ومصيرها؛ فلو خسف الله الأرض باسرائيل فلن تنتهي أزمة الثقافة العربية. وتحييد العنف لا يعني إلغاء الجهاد حسب المنظور الإسلامي؛ فلابد من فهم (وظيفة) و(شروط) الجهاد. كما أن النهج السلامي اقتصادي إلى أبعد الحدود، ويمكن مشاركة شرائح واسعة من المجتمع في ممارسته بما فيها الطفل والمرأة، كما فعلت سمية في صدر الإسلام، في جو نظيف أخلاقي وتحت ضوء النهار، وليس في الأجواء المظلمة تحت الأرض، حيث تتعانق السرية والعنف في زواج غير شرعي وغير مبارك. واللاعنف ثالثا لا يعني الاستسلام وتعزيز إرادة العدوان عند الخصم، ومنشأ المغالطة غموض آلية عمل اللاعنف السيكولوجي وقانون عملها. واليوم تكسب هذه الدعوة أتباعها مع الوقت أفواجا، تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام القديمة، في مد جغرافية البيت الحرام؛ لتتحول الكرة الأرضية كلها إلى كعبة كبيرة، ويمتد زمن الأشهر الحرم لتنقلب السنة كلها عاماً حراماً لا يسفك فيه دم الإنسان الحرام. لابد إذاً من تفكيك آليات العنف واللاعنف لنرى الأفكار الأربع تحت ضوئه. العنف طيف متحرك من الفكرة إلى الفعل؛ فالحروب تبدأ في الرؤوس قبل سل السيوف، والكراهية تبرمج تعبير الوجه الحاقد، واللفظة السامة، ومد اليد واللسان بالسوء. العنف إذاً ذو ثلاثة تجليات: يبدأ من كراهية الآخر، ويمر في قناة عدم اعتماد (الخطاب) الإنساني، وينتهي باليد والسلاح لأذية وإلغاء الآخر، ليصل في تصعيده الأعلى وجرعته القصوى إلى التصفية الجسدية، بما يشبه عملية التأله؛ فالحياة والموت بيد الله، والعنف يرى أنه يحيي ويميت (أنا أحيي وأميت)، لشعوره أنه يملك الحقيقة الحقيقية النهائية من طرف واحد، بدون السماح لأي شريحة أخرى بالتنفس، أو حتى الوجود الفيزيائي. ليس أمامه إلا العدم والعدم فقط؛ في آليات الخطاب الإفنائي المتبادل. المحتوى النفسي، وعدم اعتماد الخطاب الإنساني، والتصرف الفيزيائي باليد والسلاح، ثلاث ترجمات للعنف وآلياته، في لغة واحدة من إلغاء الآخر، وعدم السماح له بالوجود والتعبير بشكل مخالف، ولا مانع من مصادرة الحقيقة لصالحه، وإشهار كل سلاح في وجه المختلف، بما فيها الهرطقة، تمهيداً لاستباحة دمه لاحقاً. تحييد العنف يشكل ضرورة للعالم العربي اليوم؛ فمع مراقبة المحطات الفضائية تتجلى صورة عالمين مختلفين على وجه الأرض، عالم ودع القوة، وآخر مازال يستحم فيها، تنقلها الصواريخ المتساقطة والرؤوس المقطوعة وأحيانا دم السياح. لا يعني هذا الكلام تبرئة طرف على حساب إدانة طرف آخر، فالعنف له خلفية وظروف نفسية ومبررات إيديولوجية، ينفجر عبرها ومن خلالها. الصراع الأموي الخارجي تم إحياؤه مرة أخرى بأسماء جديدة، بعد أن تمت مصادرة خطاب العصر الراشدي، ولكن هل تحييد العنف فكرة غير واقعية في ضوء كل هذا الصخب في المنطقة؟ هل تحييد العنف (أوتوبيا) وفكرة طوباوية مثالية غير واقعية، تشكل نوعاً من السباحة في الخيال والتقوى الباردة والمنطق اللاعقلاني؟ لنفكك آليات العنف واللاعنف، ونطرح السؤال الملحَّ التالي: هل العنف يحل المشاكل حقاً؟ العنف لا يحل المشكلة، ولو ظهر بشكل سطحي أنه هدَّأ وضبطَ حالةً ما، بل يعقَّدها ويصعَّدها درجة أخرى؛ لإقحامها في دورة عنف جديدة أشد هولاً وأعظم نكرا، والتحطيم العنفي المسلح للخصم، يحول المقاومة إلى جزر مختفية، تعتمد خطاب السرية ولغة الحقد والتنظيم العسكري والتريث الدموي بانتظار الفرصة المواتية، ليشتعل الجمر المتربص تحت الرماد بعد حين، ودروس التاريخ مليئة بهذه القصص لمن يقرأ، (ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً مفترى). عندما يصطدم عنيفان مثل المادة ومضاد المادة، فإن الارتطام يقود إلى تشظي وتحطم كلا القوتين، مع تفوق أحد الطرفين بفارق بسيط، ولكن هل ينتهي الصراع مع تفوق أحد الطرفين وهزيمة الآخر؟؟ المهزوم يعاني من عدم توازن نفسي، يحاول استعادته بكل طريقة، فهي رغبة ملحة وجودية، وإعادة الاعتبار لنفسه آلية نفسية ملحِّة وصحية وضرورية؛ فلا يمكن للإنسان أن يعيش وهو لا يحترم نفسه؛ فإذا شعر بالذل انزلقت النفس مباشرة إلى آلية الحقد والانتقام تتغذى منهما للتعويض. الطرف المهزوم ضمن آلية رد الاعتبار يتحرك آلياً للانتقام، ولكن الانتقام يعني ضمنياً الاستعداد لدورة صراع جديدة. الصراع القادم يحتاج أدوات جديدة، ويجب أن تكون الأدوات الجديدة أمضى وأشد وأكثر حسماً في الصراع المقبل، وتراهن على الفوز المبين. حتى يضمن المهزوم لنفسه نجاح الجولة القادمة، يجب أن يستعد بطاقة هي أفضل من طاقة خصمه السابقة، التي هزم بواسطتها. صراع روما وقرطاجنة القديم كان على هذه الشاكلة، فكل جولة كانت أفظع وأروع وأعظم تجهيزا وأكثر كلفة وأشد إراقة للدماء من نموذج الحروب العالمية في العصر القديم. دورة الحرب سارت بعد روما وقرطاجنة، حتى ختمت ووضعت أوزارها في صبيحة يوم 16 يوليو على الساعة الخامسة والنصف صباحاً، بانعطاف نوعي مصيري في تاريخ الجنس البشري، عندما انفجر أول سلاح نووي تجريبي في آلامو جوردو. بعد الحرب الكونية تحول العالم إلى شريحتين: أولى تملك التقنية والعلم ومصارف المال ولا تحل مشاكلها بالحروب، مع كل امتلاكها للسلاح وتقنيته، في مفارقة عجيبة، وشريحة لم تنتبه إلى حركة التاريخ؛ فهي مازالت تعيش في عصر الفتوحات، كما رأينا في الحرب العراقية الإيرانية في حرب عجاف، استمرت أطول من الحرب العالمية الثانية، تغذي نارها وتنفخ أوارها ثلاثون دولة مستفيدة من دخل يصل إلى 400 مليار دولار، وأوقيانوس من الدماء، وجبال من أشلاء الشباب المذبوحين في معارك كربلاء والقادسية، بما يزيد عن حجم وارتفاع جبال الهيملايا. أ