شهدت الصحافة المغربية في الأيام الأخيرة جدلا واسعا حول عدد من الوقائع التي تتفاوت التقديرات بشأنها بين من يعتبرها ضربة قاضية في مجال حريات الصحافة وهناك من يعتبرها "مواقف عابرة" تتطلبها المهنة من حين لاخر .. مصادرة صحيفتين وكان آخر هذه الوقائع قيام وزارة الداخلية بمصادرة العددين الأخيرين من الصحيفتين الاسبوعيتين المغربيتين المستقلتين "تل كيل" و"نيشان" بسبب نشر استطلاع للرأي عن العاهل المغربي محمد السادس. وقال مدير "تل كيل" احمد بنشمسي ان العددين المصادرين نشرا استطلاعا للرأي -- اجري بالتعاون مع صحيفة لوموند الفرنسية -- حول حصيلة السنوات العشر الاولى لحكم الملك. وأضاف ان "هذا الاستطلاع يكشف ان 91% من المغاربة يرون ان حصيلة اداء حكم الملك محمد السادس (في العقد الاول) ايجابية او ايجابية جدا". وينشر هذا الاستطلاع في "تل كيل" و"نيشان" النسخة العربية منها، بمناسبة الذكرى العاشرة لاعتلاء محمد السادس العرش في 30 تموز/يوليو ، موضحا ان صحيفة "لوموند" ستنشر نتائج الاستطلاع الثلاثاء المقبل، وقال وزير الاتصال خالد ناصري ان "المعاملة نفسها ستطبق على أي جهة تنشر" الاستطلاع. واضاف ان "النظام الملكي في المغرب لا يمكن ان يكون موضع جدل بما في ذلك عن طريق استطلاع" وتابع "إذا نشرت (لوموند) الاستطلاع فلن يسمح ببيعها في المغرب". وكانت الصحيفتان صودرتا في 2007 بعد نشر افتتاحية بالعربية والفرنسية كتبها أحمد بنشمسي بأسلوب ساخر واعتبرت السلطات انها تمس بعاهل المغرب. افتتاحيات بيضاء
العاهل المغربى الملك محمد السادس وقبل أيام من هذه الواقعة وفي سابقة هي الاولي نوعها في تاريخ الصحافة المستقلة بالمغرب، صدرت الصحف بافتتاحيات بيضاء احتجاجا على سلسلة المحاكمات والغرامات الثقيلة التي فرضت على عدد من الجرائد المستقلة في الفترة الأخيرة، كانت آخرها الأحكام الصادرة في حق كل من"المساء" و"الجريدة الأولى" و"الأحداث المغربية"، في الواقعة التي رفعها مكتب الأخوة الليبي عن معمر القذافي ، والتي قضت فيها إحدى المحاكم بتغريم كل واحدة من الصحف الثلاث مبلغ مليون درهم لفائدة القذافي، بتهمة "المس بشخص وكرامة رئيس دولة".
وخرج وزير الاتصالات قائلا :"إنه غير متفق مع القرار الذي اتخذته الصحف المستقلة بإصدار افتتاحيات فارغة"، واعتبر ذلك تجنيا وعدم إنصاف في التعامل مع الحكومة لأنها حملت ما لا طاقة لها به وما لا يد لها فيه. وأضاف الناصري أن الصحف أخطأت خصمها كما لو أنها كانت تبحث عن طريق للانقضاض على الحكومة مرة أخرى ، متسائلا :"من الذي قام بمقاضاة الجرائد أمام المحاكم؟"، وقال أنتظر جوابا صريحا وشجاعا، فالحكومة حرمت على نفسها مقاضاة الجرائد رغم تعرضها باستمرار للقذف والتهجمات، ومع ذلك لا تمارس حقها في اللجوء إلى القضاء. وتركت يومية "الأحداث المغربية" ركن الافتتاحية في الصفحة الأولى بعنوان "كلمة الأحداث" فارغا، وكتبت أسفل المساحة البيضاء عبارة "بياض هذه الافتتاحية تعبير عن احتجاجنا على المحنة التي تواجهها الصحافة المغربية"، ونفس الأمر بالنسبة ليومية "الجريدة الأولى" التي تركت مساحة الافتتاحية التي يكتبها مدير الجريدة علي أنوزلا فارغة دون أي تعليق، مع وضع عنوانه الإلكتروني، أما "أوجوردوي لوماروك" فقد تركت هي الأخرى افتتاحيتها فارغة وكتبت على خط أحمر مائل "لا للأحكام القضائية الجائرة ضد الصحافة المكتوبة". ونفس الأمر بالنسبة ليومية"التجديد" التي وضعت تعليقا يقول"يوم بدون افتتاحيات: حذفته الأحكام الجائرة ضد الصحف"، وأسبوعية "الأيام" التي ترك مديرها نور الدين مفتاح زاويته فارغة وكتب على خط أحمر مائل "حذفته الأحكام الجائرة" مع صورته بشكل مظلل، وأسبوعية "الأسبوع"، وأسبوعية "الوطن الآن" التي تركت مساحة سوداء في مكان الافتتاحية مع تعليق "حذفته الأحكام الجائرة" ويومية "لوسوار" التي تركت بياضا دون تعليق، و"المساء" التي بقي فيها عمود مديرها رشيد نيني فارغا وحل مكانه اللون الأسود وصورة مظللة لصاحبها مع عبارة "حذفته الأحكام المجنونة" بالبنط العريض. وأعادت هذه الخطوة التي قامت بها الصحف معركة الصحف الوطنية أيام الاحتلال الفرنسي والإسباني للمغرب، عندما كانت الصحف تنشر افتتاحيات بيضاء فارغة، احتجاجا على ممارسات المستعمر الفرنسي، أو تحتجب عن الصدور بين الحين والآخر، وكذا ما حصل في بعض المحطات في مرحلة الاستقلال حين كانت صحف المعارضة تصدر افتتاحياتها فارغة كشكل من أشكال البيان السياسي ضد الحكومة، أو عندما اتفقت جميع الصحف المغربية خلال الثمانينيات على نشر افتتاحية موحدة في يوم واحد احتجاجا على سماح الحكومة ليومية "الشرق الأوسط" السعودية بالتوزيع في المغرب بنفس ثمن الصحف المغربية الأخرى لإضعافها، في حين أنها كانت تباع في عدد من البلدان العربية الأخرى بثلاثة أضعاف سعر الصحف المحلية. حركة ايجابية ووصف يونس مجاهد، رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، هذا الأسلوب الاحتجاجي بأنه "حركة إيجابية"، معتبرا ان صدور افتتاحيات بيضاء في جميع الصحف المستقلة تأكيدا على الرفض الذي عبر عنه الجميع سواء في النقابة الوطنية للصحافة المغربية أو في فيدرالية الناشرين المغاربة أو في الجسم الصحفي بشكل عام، لما تعانيه الصحافة المغربية المستقلة بالخصوص. ووصف محمد العربي المساري، وزير الاتصال السابق والرئيس الأسبق للنقابة الوطنية للصحافة المغربية خروج الصحف بافتتاحيات بيضاء بأنه مهزلة ومصيبة وأضحوكة، وقال إن القضية هي قضية معركة لربح الحق في حرية التعبير في المغرب. ورأى مدير صحيفة “المساء” سمير شوقي، أن “الافتتاحيات البيضاء” تعبير من الجسم الصحافي عن رفضه للأحكام القضائية “المجنونة”، التي تهدف إلى جعل المغرب بلا صحافة. وكتب رئيس تحرير “الجريدة الأولى” علي أنوزلا أن الكتابة ب”حبر أبيض” رسالة قوية، وناقوس خطر حول ما يهدد الصحافة المغربية، وفرصة للجسم الإعلامي كي ينقذ نفسه. العقيد معمر القذافي يأتي ذلك بعد أن أدانت محكمة مغربية ثلاث صحف مغربية، وأمرتها بدفع ما مجموعه 372 ألف دولار لليبيا؛ بعد نشرها مقالات انتقدت فيها نظام حكم الزعيم الليبي، معمر القذافي.
وقضت المحكمة الابتدائية في مدينة الدارالبيضاء بتغريم علي أنوزلا، مدير "الجريدة الأولى، مائة ألف درهم (12.4 ألف دولار)، وبمليون درهم تعويضات لصالح القذافي؛ لإدانة أنزولا ب"المس بشخصية وكرامة رئيس دولة". وبنفس الغرامة والتعويضات قضت على كل من محمد بريني، مدير تحرير "الأحداث المغربية" والصحفي في الصحيفة مختار لبزيوي، والصحفي في "المساء" يوسف مسكين، ومديرها رشيد نيني. وكان "مكتب الأخوة العربية" التابع للسفارة الليبية في الرباط قد أقام دعوى قضائية ضد الصحفيين الخمسة؛ متهما إياهم بالحط من كرامة الزعيم الليبي، وذلك بسبب نشر مقالات "تنتقد انعدام الديمقراطية في ليبيا، وتنتقد معمر القذافي". ووصف نزولا هذا الحكم بأنه "سياسي نطق به قضاء غير مستقل لصالح الدكتاتور الليبي"، مضيفا: "سنستأنف الحكم، لكن ذلك لن يمنعنا من مواصلة انتقاد النظام الليبي". بينما قالت نقابة الصحفيين المغاربة إنها "أول مرة في تاريخ المغرب يرفع فيها ممثلو دولة أجنبية دعوى ضد الصحافة المغربية بموجب الفصل 52 من قانون الصحافة" المغربي، الذي يعاقب على "المس بصفة علنية بشخص رؤساء الدول وكرامتهم، ووزراء الشئون الخارجية للدول الأجنبية". وأضافت النقابة أن "هذا الفصل يتضمن عبارات فضفاضة تسمح بالمتابعات والعقوبات على نشر مجرد ما يعتبر من قبيل التحليل أو النقد المباح". وكانت هذه القضية قد أثارت انتقاد عدد من الهيئات الحقوقية المحلية والأجنبية، وانتقدت "الرابطة الليبية لحقوق الإنسان" في وقت سابق دعوى السفارة الليبية، قائلة إنه "لم يسمع أحد بعد بتقديم السفارات الليبية في الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية شكاوى مثل التي ينظر فيها القضاء المغربي". وأضافت الرابطة أن "أوصاف مهينة لا تقارن بما كتبته الصحف المغربية" أطلقت على الزعيم الليبي في الصحف الإيطالية أثناء زيارته لإيطاليا في وقت سابق هذا الشهر. ياتي ذلك بعد ان أقامت السفارة الليبية بالعاصمة المغربية الرباط دعوى قضائية ضد ثلاث صحف مغربية بتهمة "المس بكرامة الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي"، على خلفية بعض المقالات التي تناولته بالنقد وأشارت إليه بعبارات قالت السفارة إنها تسيء للزعيم الليبي. وتقدمت السفارة بشكوى لدى النيابة العامة ضد يومية "المساء" و"الجريدة الأولى" و "الأحداث المغربية" بدعوى أن مقالات وتقارير نشرتها الصحف المذكورة قد تضمنت ما اعتبرته "مسا بكرامة العقيد القذافي وأساءت إليه إساءة بالغة". وتناولت الشكوى الصحفي "يونس مسكين" بناء على ما جاء في تقرير إخباري نشره بجريدة المساء، في سياق تعليق لوزير الاتصال المغربي عن تشبيه مواقف الرئيس الفنزويلي بمواقف القذافي "الطفولية". وتتم محاكمة الصحف الثلاث وفق المادة 52 من قانون الصحافة المغربي الذي ينص على أنه "يعاقب بسجن تتراوح مدته بين شهر واحد وسنة واحدة وبغرامة يتراوح قدرها بين 10 و 100 ألف درهم (1.18 – 11.84 ألف دولار أمريكي) أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط على المس بصفة علنية بشخص رؤساء الدول وكرامتهم ووزراء الشئون الخارجية للدول الأجنبية". توتر مستمر وإذا كانت هذه هي المرة الأولى التي تحتجب فيها افتتاحيات مجموعة من الجرائد المغربية، فإنها ليست المرة الأولى التي يحتج فيها الصحفيون بالمغرب، إذ سبق أن نظمت نقابة الصحافة بالمغرب في 15 نوفمبر من السنة الماضية، وهو اليوم الوطني للإعلام، وقفة احتجاجية أمام مقر صحيفة "المساء" اليومية الخاصة؛ تنديدا بما وصفته ب"الحرب التي تشنها السلطة ضد الصحافة" بعد تعدد أحكام الحبس والغرامات بحق صحف وصحفيين. ويرى إعلاميون أن "التوتر مستمر بين السلطة المغربية والصحافة منذ مدة، خاصة مع بروز تجربة الصحافة المستقلة في المغرب وطرقها لعدد من الملفات الساخنة". وبحسب رأيهم تعتبر "الغرامات المالية الضخمة إحدى علامات التوتر وأحد أمضى الأسلحة المستخدمة في حرب السلطة على الصحافة، حيث يوظف القضاء لإصدار أحكام خيالية من شأنها أن توقف صحفا عن النشر"، وذلك كما حدث مع جريدة "لوجورنال إيبدومادير" مما اضطر الصحفي بوبكر الجامعي إلى بيع الجريدة والسفر إلى الخارج. وأيضا مثل ما حدث من توقيع غرامة مالية ضخمة في حق مدير يومية "المساء" والتي بلغت 696 ألف دولار بتهمة قذف وسب أربعة قضاة، والتي لم يسددها بعد وأرسل بخصوصها رسالة استعطاف للملك محمد السادس للتدخل من أجل إلغاء الحكم. كما أن هناك أساليب أخرى للتضييقات، منها المنع من مزاولة المهنة، مثل ما حدث مع الصحفي علي المرابط عندما حكم عليه القضاء بوقف مزاولة المهنة لمدة 10 سنوات، وأسلوب آخر أيضا هو الحبس، كالحكم الذي وقع على الصحفي مصطفى حرمة الله بالسجن 7 أشهر. قضايا القذافي في نفس السياق، تحدث عدد من الصحف المغربية عن تاريخ مقاضاة الزعيم الليبي لبعض الصحف المغربية والعربية والإفريقية. ففي 2004 تقدم القذافي بدعوى قضائية لدى المحكمة الابتدائية بالرباط ضد "مصطفى العلوي" مدير تحرير صحيفة "الأسبوع" الأسبوعية، وذلك بسبب رسم كاريكاتوري للقذافي صدر على الصفحة الأولى للجريدة عقب إعلان ليبيا التخلي عن برامجها النووية. كما سبق له أن رفع شكوى قضائية ضد جريدة "الشروق" الجزائرية قبل أكثر من عامين بتهمة المس بأمن الدولتين الليبية والجزائرية – على حد تعبيره - بعد اتهام الجريدة الجزائريةطرابلس بالسعي لزعزعة استقرار الجزائر باستخدام الطوارق. وفي العام الماضي تقدم القذافي عبر الممثل الإعلامي للجماهيرية الليبية في القاهرة بشكوى أمام القضاء المصري في حق جريدتي "صوت الأمة" و"الدستور" المصريتين بتهمة نشر مقالات تتضمن في طياتها عبارات سب وقذف بحق العقيد القذافي وتشويه سمعته. كما نقلت صحيفة "هسبريس" الإلكترونية أن رئيس تحرير صحيفة شعبية أوغندية قال في فبراير الماضي إن القذافي رفع دعوى قضائية ضد صحيفته بعد أن نشرت تقريرا أشارت فيه إلى وجود علاقة غرامية بين القذافي وبين الملكة الأم بإحدى ممالك أوغندا.
مجرد حالات بدروه ، يري عبد المنعم دلمي، رئيس فيدرالية ناشري الصحف المستقلة في المغرب، ومدير مجموعة "ليكونوميست"، ان وضعية حرية الصحافة في البلاد تشهد تطورا ملحوظا، ولكن التساؤل يبقى مطروحا حول وتيرته المتفاوتة بين السرعة أحيانا والتوقف أحيانا آخرى، دون أن يصل الى حد التراجع، معتبرا ان من أسباب تذبذب تطور أوضاع حرية الصحافة في المغرب هو أن المكتسبات التي تحققت لم تكن نتيجة ثورة أو قطيعة مع الماضي، بقدر ما كانت نتيجة تطور تدريجي شارك فيه فاعلون مختلفون وفي اطار توافقي. واعتبر دلمي المشاكل التي تثار في الفترة الحالية حول حرية الصحافة بأنها حالات ولا يتعلق الأمر بسياسة عامة للاعلام، وهو ما يعد في رأيه أمرا ايجابيا نسبيا. ولاحظ أن مقارنة الحالات المطروحة بما كان يحدث في السنوات السابقة يظهر بأنه لم يكن من الممكن تخيل وقوع مثل تلك المشاكل، مما يدل على التقدم الذي حصل، لأنها في نهاية المطاف عبارة عن حوادث سير غير قاتلة سواء بالنسبة للصحافيين أو المؤسسات أو المهنة.