كانت أسراب طيور الزرزور تأتينا مهاجرة في موسم المطر فتتكاثر بالآلاف على الأشجار العملاقة في بلدتنا والتي تتخذ منها مسكناً في غفلة منا، وتستعمر المكان بحشودها الهائلة، ثم تجتاح الحقول، وتأكل حبات الزيتون الطازج وتأكل معه ما لذ وطاب من غلال الفواكه والخضروات الطرية والمزروعات قبل أن يحين قطفها أو حصادها، فتتركنا بلا محصول، نستفيق على وقع أصواتها المزعجة وعضات مناقيرها الغليظة الكماشة إلى أطراف غلالنا ومحاصيلنا… لكن لا يُنسى ما كنا نفعل بها، جيل القدامى علّمونا ونحن علمنا من تلانا، كنا ننزع من أذيال الخيول أو الحمير سبائب الشعر نزعاً، ونستحبّ منها السبيب الطويل، وقد أصيب من أصيب أثناء القيام بهذه العملية أو بالأحرى المغامرة، بركلة أو رفسة هشّمت أسنانه أو أصابت جنبه أو أراقت دم جبينه أو كسرت عظامه، وقد نأخذها من محدب رقبة الحصان أو عرفه الطويل فهذا أجودُ لصيد هذا الطائر الجميل المتوحش، وأمتن من سبيب الحمار… كنا نتفنن في صنع الشراك، ولكل فنان طريقته، فبعضنا يَعْقِد السبائب على غصن شجرة أو على صفيحة خشبية أو على بساط من الخيش، ثم يخفيها بطبقة لطيفة من التراب أو الرمال وبعض الأغصان والأوراق الخضراء المكشوفة، وينثر فوقها الحب أو الذرة، فتندفع عليها هذه الطيور اللئيمة النهِمة فتعلق بها جماعات، وتحاول أن ترفع عنها الشراك بصفقات أجنحتها الصغيرة، وتكاد تحملها معها لولا أننا نحتشد عليها ونلتقطها في أكياس بعيداً عن عيون الماكرين الذين يرمونها بمقاليعهم، وفي المساءات النديّة تشتمّ رائحة الشواء اللذيذ ونحن نفرش صيدنا على شبك فوق جمرٍ لا يزال يتلهب أو صخر يرتعد من بركان يتّقد… إن القدامى من الصيادين ما زالوا على سيرتهم الأولى يَفْتِلون في كل موسم شركاً حديثة لهذه الطيور الأكُولة المزعجة الضارة، تشبه شباك صيد السمك، ويخترعون لها في كل زمان شركاً ووسائل سهلة تليق لصيدها.