الدولة تغضب مثل الأفراد، وعندما تغضب تفقد أعصابها، وعندما تفقد أعصابها ترتكب أخطاء بعضها صغير وبعضها كبير... الفرق بين غضب الأفراد وغضب الدولة أن الغضب الأول آثاره محدودة، أما الغضب الثاني فآثاره كبيرة، وقد يكلف صورة البلد غاليا، وقد يخلف ضحايا أفرادا وجماعات، وإحساسا بالظلم والحگرة وعدم الإحساس بالأمن. لا أجد من تفسير لمشكلة الدولة مع المؤرخ المعطي منجب إلا تفسير الغضب وردود الفعل غير المحسوبة، وسوء الفهم الناتج عن عدم اعتياد الدولة القبول بالرأي الآخر، والاحتفاظ بهدوء الأعصاب أمام المعارضة. السلطة فقدت الصبر على القبول بهامش كبير للحرية التي تكفل للجميع التعبير عن الرأي في الداخل والخارج دون تشنج، ودون رغبة في تكميم كل الأفواه، ودون غريزة الانتقام... ما هو ذنب المعطي منجب، المؤرخ والمناضل والباحث الذي نسج، على مدى سنوات طويلة، علاقات واسعة مع مراكز بحث وجامعات في أوروبا وأمريكا؟ ما هي الجريمة التي ارتكبها مدير مركز ابن رشد واستوجبت منعه من السفر، وإغلاق الحدود في وجهه؟ ما هي الجريمة التي تورط فيها المؤرخ؟ أسس مركزا للأبحاث والدراسات تحت اسم ابن رشد، ومن البداية أعطاه طابعا تجاريا على شكل شركة خاضعة للقانون التجاري، ولم يختبئ تحت عنوان جمعية لها صفة غير ربحية، كما يفعل الكثيرون للتهرب من الضريبة، وبدأ المعطي يشتغل منذ سنوات مع مؤسسات وجمعيات وهيئات في الداخل والخارج، يقدم استشارات، أبحاثا، تداريب وندوات. إلى هنا تبدو الأمور عادية، لكن ما أقلق بعض دوائر السلطة المنغلقة أن المعطي يكتب ويتحدث ويصرح دون خطوط حمراء في الداخل والخارج، في الوقت الذي يتقيد جل الباحثين والصحافيين والمثقفين بدفتر تحملات غير معلن، فيه سقف معين لحرية الرأي والتعبير، أو لنقل أن المعطي منجب أوقف جهاز الرقابة الذاتية في عقله، وبدأ يتحرك دون الانتباه إلى إشارات هذا الجهاز. لما بدأت آراء المعطي وتقييمه للوضع السياسي والحقوقي تظهر في بعض تقارير «هيومن رايتس ووتش» وبعض الصحف الأمريكية ومراكز البحث هنا غضبت الدولة على المعطي، وبدأت ترى فيه خصما يناهض سياستها وأسلوب تسويقها لصورة البلد، وعوض أن تستعمل السياسة وفن التواصل وتقنيات الإقناع، وخطة الرد على رأي برأي وتقييم بتقييم وتقرير بتقرير وملاحظة بأخرى، مرت مباشرة إلى الأسلوب الذي تعرفه.. «الزجر»، حتى لا أقول القمع.. إقفال الحدود لمنع حركة جسد المعطي، فيما عقله حر، ورأيه حر، وكتاباته حرة، ثم من إقفال الحدود إلى إقفال المركز، ومنه إلى المرور إلى الحسابات البنكية، طبعا دون نسيان الحملات الإعلامية السوداء المرتبة وفق أسلوب «attaque-le»، وهكذا صدرت الإدانة الإعلامية ضد المؤرخ حتى قبل أن يفتح القضاء الجالس له ملفا، وحتى قبل أن يوجه القضاء الواقف إليه تهمة، وحتى قبل أن ينتهي الشرطي من لعبة سين جيم. هل البلاد بكل هذه الديناميكية السياسية التي فيها، وبكل ما راكمته من تجربة وانفتاح وتحول ديمقراطي، وبكل تاريخها وموقعها، لا تحتمل آراء المعطي، ولا تتحمل رأي شخص يبقى شخصا، مهما كانت علاقاته ومهما كان تأثيره؟ أيها «الإخوان»، البلد أكبر من ردود الفعل هذه، ولا نحتاج إلى عرائض دولية للتضامن مع مواطن مغربي اختار أن يعيش في بلده وأن يعمل فيه، وأن يساهم في تطوره الديمقراطي بطريقته. كتب يوما الشاعر المغربي عبد الحق سرحان: «هل تعلمون أن المغرب هو أجمل بلد في العالم، وأن هذه العبارة السياحية تُعزى إلى الكاتب والطيار الفرنسي سانت إكزوبري، فبياض الثلوج وخضرة السهول وزرقة المياه وألوان الكثبان، وغيرها مما كان الرجل يشاهده من قمرة طائرته، جعلته يلخص اللوحة في عبارته الشهيرة. أما نحن، فنرى المغرب من الأرض لا من السماء، ونحلم أن تكون الحياة على أرضه أجمل».