أنور مالك سمعنا ولا زلنا نسمع منذ وصول عبدالعزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم أن الجزائر عادت بقوة إلى الساحة الدولية، وخاصة أن الدبلوماسية الجزائرية يشرف عليها الرئيس بوتفليقة شخصيا وهو الوزير الفعلي للشؤون الخارجية، أما أولئك الذين يحملون الحقيبة فهم مجرد ديكور ليس إلا، حتى أن الكثير من المراقبين يعلقون على أن الرئيس لم يستطع التخلص من رواسب الماضي الذي تولى فيه حقيبة الخارجية في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين لأكثر من عشرية... ولا نريد أن نغوص كثيرا في الماضي السحيق الذي عرفت فيه الدبلوماسية تقلبات وتحولات واغتيالات ومعاهدات تحتاج إلى مجلدات، غير أن الذي يهمنا ونحن على أبواب نهاية العهدة الثانية لبوتفليقة، التي تعني نهاية تنفيذه لكل الوعود التي قدمها في حملاته الانتخابية في 1999 و2004، من تحقيق العزة والكرامة ورفع راية الجزائر خفاقة في الساحة الدولية... ترى هل تحقق ذلك أو أنه مجرد حديث للاستهلاك الإعلامي والاحتيال الانتخابي؟ !! لقد فضحت مجازر غزة تلك التصريحات الزاعمة بأن الجزائر عادت لسابق عهدها، وصارت الدول العربية والإسلامية وحتى الغربية منها لا يمكن أن تتجاوزها في الصغيرة والكبيرة، ولكن في خضم جحيم الفسفور الأبيض ومحرقة الصهاينة على الفلسطينيين انكشفت للعلن عورة هذا الإدعاء، وإن كنا نحن نرى بطلانه من قبل، وتأكد لنا أكثر في فرنسا لما تمّ تأسيس الإتحاد من أجل المتوسط برعاية الرئيس الفرنسي ساركوزي، والذي وجد بوتفليقة نفسه على الهامش بعد مد وجزر وتناقض عرفه الموقف، وحتى من خلال ما يتم ضبطه حاليا في إطار هذا الإتحاد... ولكن الدبلوماسية الجزائرية التي تظهر متوحّشة وجبارة وجريئة لما يتعلق الأمر بالبوليساريو أو في الخرجات المضادة للمغرب، فأين هي يا ترى في جحيم غزة هذا؟ !! دبلوماسية منتصف الليل عندما سئل عبدالعزيز بلخادم وهو وزير دولة وممثل شخصي للرئيس وأمين عام لجبهة التحرير الوطني، عن غياب بوتفليقة الذي لاحظه الجميع وأثار أطرافا مختلفة في هذا الظرف العصيب، فقال بالحرف الواحد: (الرئيس لم يتحدث للصحافة ولم يصدر تصريحات، لكنه أجرى عدة اتصالات مع رؤساء دول إضافة إلى إعطاءه تعليمات بإقامة جسر جوي لإرسال المساعدات لصالح سكان غزة)... لو كانت عادة الرئيس هو العمل بسرية لصدقنا هذا الكلام الاستهلاكي، ولكن الذي نعرفه أن التلفزيون الرسمي وعبر نشرته الرئيسية كل يوم يفتتح الأخبار بقراءة تلك البرقيات التي يتبادلها الرئيس مع نظرائه حتى ولو كانت تهاني أو تعازي، أو الأخرى التي يبعثها أثناء عبوره الأجواء، ولم تغفل يوما وكالة الأنباء في الترويج لكل الاتصالات الهاتفية التي تحدث، فدوما نسمع لقد “أجرى فخامة الرئيس مكالمة هاتفية مع نظيره “فلان” وتبادلا وجهات النظر في قضايا دولية وإقليمية”، فترى لماذا أحجم الرئيس بوتفليقة هذه المرة عن نشر برقياته أو الكشف عن أسماء رؤساء الدول الأخرى الذين اتصل بهم من أجل قضية غزة؟ !! بالتأكيد إن كان ما قاله بلخادم صحيحا، فإن الرئيس إتصل بنظيره المصري والملك الأردني ورئيس السلطة الفلسطينية، لأنه لا يمكن أن يتصل بجمهورية الرأس الأخضر أو الصومال أو إثيوبيا أو حكومة المالكي، فترى لماذا لم تنشر وسائل إعلامهم أخبارا عن هذه الاتصالات وهي التي ديدنها ذلك؟ هل طلب منهم الرئيس أن يبقى الحديث سريا للغاية؟ ماذا طلب بوتفليقة حتى فضّل أن لا يتم فضح مطالبه في حالة عدم الاستجابة أو خوفا من العواقب؟ هل من الدبلوماسية أن تتقدم دولة بمبادرات ما لأجل إيقاف الموت والدمار في بلد ما وتبقى سرية هذه في حالة واحدة لما تكون المطالب مشبوهة وقد تؤلب الرأي العام؟ !! بوتفليقة لما أراد التدخل من أجل السماح للوفد الطبي بالدخول لغزة عبر معبر رفح، أمر شخصيا القنصل الجزائري بإقناع السلطات المصرية وهذا حسب الدكتور عابد خويدمي، فترى إن كانت له إتصالات مباشرة بحسني مبارك فلماذا لم يطلب منه شخصيا وفضل الوسائط والقنوات الرسمية؟ !! لماذا لم تنشر وكالات الأنباء التابعة للدول الأخرى أخبارا عن هذه الاتصالات وخاصة أننا في ظرف تتسابق الحكومات التي لها تماس مباشر بفلسطين إلى حشد التكتلات التي تخدم أجندتها أو إبراز نفوذها الإقليمي؟ !! هل يتجرأ بلخادم ويذكر لنا إسم رئيس دولة واحد إتصل به بوتفليقة لأجل غزة، حتى نعرف حقيقة دوره الدبلوماسي؟ !! ليس من عادة الجزائر أن تتعامل مع مثل هذه القضايا بطريقة يمكن أن نسميها “دبلوماسية منتصف الليل”، وخاصة أن الجزائر لها إرتباط وثيق وتاريخي مع قضية فلسطين، وليس المجال الآن للبحث في أغوارها، ولكن يبقى التساؤل مطروحا لأن جواب بلخادم غير مقنع تماما: لماذا صمت بوتفليقة عما يجري في غزة، وإن كان قد عودنا بذلك في غزو أمريكا للعراق، حيث اختفى حينها من الساحة ولو بأخبار وصور عابرة على شاشة التلفزيون؟ !!
مجاديف الأتراك والفرس لا نريد أن نتحدث عن المسيرات التي رخص وخطط لها بإحكام، من أجل التغطية على الصمت الرسمي ومن الرئيس شخصيا الذي هو على موعد حاسم، ويتعلق الأمر بالرئاسيات التي صارت على مرمى حجر، وأكيد أن الشعب الجزائري الذي يحترق من تلك المشاهد الدموية والفظيعة التي تنقلها وسائل الإعلام، سيتساءل حتما عن موقف الرئيس الذي سيجد نفسه بلا شك أمام إمتحان عصيب، فيجب أن يقنعه بخياراته وأطروحاته التي أكيد ستخضع للتزويق والماكياج، خاصة أن شعبنا صار يعيش مأساة محلية جراء سياسة فاشلة عمرها عشر سنوات بسبب نظام أفشل لا يزال يحكم منذ 1962، وكذلك إقناعه بأن البلاد قامت بما عليها وشرفت جزائر الثورة والشهداء، ولكن هو أيضا سيكون امتحانا معقدا لأن عهد الكلام الذي يصدق مباشرة قد تولّى، والناس يؤمنون بالأفعال التي يرونها تتجسد في الواقع وليس بشعارات لا معنى لها... لا نريد أن نتحدث عن تلك الحملة التي يقوم بها زعماء ما يسمى بالإئتلاف الرئاسي والتي هي حملة إنتخابية رئاسية مسبقة فقط، يراد بها تبييض وجه الرئيس الذي سيجد نفسه أمام شعبه بعد أسابيع في حملة إنتخابية حاسمة وصعبة للغاية، وإن كانت النتائج محسومة سلفا، ويتنافسون أيضا من أجل الريع وتقاسم المكاسب والنفوذ... رئيس المجلس الوطني الكبير (البرلمان) التركي السيد كوكسال توبتان قام بزيارة للجزائر، ودعا منها إلى إجتماعين طارئين لمنظمة المؤتمر الإسلامي والإتحاد البرلماني الإسلامي يوم 14/01/2009 باسطنبول التركية، وهو الذي هللت له وسائل الإعلام المحلية، ووصفت الزيارة بأنها تدخل في إطار مراهنة تركيا على الجزائر لدعم مساعيها لوقف العدوان على غزة، ويوجد من ذهب إلى أنها تريد الاستثمار في الثقل الدبلوماسي للجزائر حتى تحقق تطلعات حكومة أردوغان، وطبعا سارع البرلمان الجزائري إلى قبول هذه الدعوة، بالرغم من أن مكتبه رفض مبادرة من بعض نواب المجلس والرامية إلى عقد جلسة علنية خاصة بمحرقة غزة، والتي بلا شك سيحاكم فيها الرؤساء والزعماء وسيجدها البعض فرصة لتصفية الحسابات مع السياسة الخارجية لبوتفليقة على مدار عهدتين كاملتين، ويكفي دلالة تلك المناوشات التي حدثت بين النواب تحت قبة المجلس الشعبي الوطني في جلسة 12/01/2009، وصلت حد الاعتصام بالشارع والتنديد بالبرلمان الذي لا قرار له... بلا شك أن قبول البرلمان لهذه الدعوة هي محاولة الظهور من بوابة أخرى خارجية وإنقاذ الدبلوماسية التي ثبت فشلها الذريع وليس كما يزعم أنصار النظام وأبواقه، وأكدت بلا منازع أن الجزائر لا تزال تقع بالمريخ، فهي الدولة الوحيدة التي لا تمسها الأزمة المالية العالمية وقدر الفلسطينيين السيئ أن الجزائر غير متاخمة جغرافيا لهم !! ويكفي أن الوزير الأول أحمد أويحيى قد رحب بإستضافة القمة العربية وهي التي تكلف الملايير من أموال شعب جائع، ولكن تمّ تجاهله من مختلف الأطراف المعنية، لعدم جدوى ولا فعالية للدبلوماسية الجزائرية في هذا الظرف، على عكس ما عليه شأن قطر التي لعبت دورا بارزا في لبنان، ثم هاهي تحاول وضع بصماتها على ما يجري في غزة، وهكذا تحول ذلك البلد الصغير جدا الذي يعادل في شساعته وعدد سكانه أحد محافظات الجزائر، إلى صانع القرار ودبلوماسيته توزن بالثقل وطبعا يعود أساسا لثقل قناة الجزيرة التي يرعاها، وصارت تصنع الأمم وتقود التوجهات العربية والعالمية باحترافية وامتياز، فضلا عن أسباب أخرى مختلفة ليس حينها. محاولة أخرى تسعى بعض وسائل الإعلام المحلية من خلالها حفظ ماء وجه الدبلوماسية الجزائرية التي لم يلتفت لها أحد مهما كان موقعه أو صلته بالحدث، وتتمثل هذه المرة في رسالة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى نظيره بوتفليقة، وطبعا مديرية الإعلام التابعة لرئاسة الجمهورية قامت بالترويج لها، ونشر حتى محتوياتها، وهي التي تجاهلت ما قام به بوتفليقة وفق رواية بلخادم التي هي ضعيفة في أبسط التقادير وإن كان الوضع يطالها من كل جانب، والذي ربما في ظرف الدم والأحزان أراد أن يعمل لوجه الله فقط، ولا يريد جزاء ولا شكورا وإن كانت المساعدات قد طبلوا لها كثيرا، وأطباء الجزائر الذين يعملون في غزة بدل أن يتحدثوا للعالم كشهود عن جرائم الفسفور الأبيض يطلعون عبر التلفزيون الرسمي يشيدون بخصال بوتفليقة... قال نجاد في رسالته: (وعليه فقد كلفنا السيد حسين دهقان نائب رئيس الجمهورية ورئيس مؤسسة الشهيد بشرح موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية لفخامتكم وتبادل الآراء حول إمكانات التعاون وما يمكن إتخاذه من الإجراءات المشتركة)... وقد هللت الصحف للرسالة هذه أيضا واعتبرتها تدخل في إطار سعي إيران من أجل “الفوز” بالدعم الجزائري في خياراتها حول الوضع القائم والمتأزم في فلسطين، وان الرئيس نجاد لا يجد دبلوماسية ولا مقاومة أكبر من دعم نظام بوتفليقة له والذي بدوره يؤمن أن الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، وطبعا هي كلمة رددها الرئيس الراحل هواري بومدين والذي ظلّ الرئيس بوتفليقة يراهن على برنوسه كثيرا في إرساء دعائم حكمه وإضفاء الشرعية على نفسه، ويفتخر دوما أنه أحد تلاميذه الأوفياء، حيث أن صالح جعيواط والذي كان من ضمن الطاقم الطبي الذي سهر على رحلة علاج هواري بومدين، قد أكد أن بوتفليقة كان يذرف دموعا تماما كالأطفال على رئيسه الذي قلده حقيبة وزارية سيادية ولم يتجاوز عمره 25 عاما، فترى لماذا تجاهل ذكرى وفاته الأخيرة إن كان محبا ومريدا له، ولم يحضر لقراءة الفاتحة بمقبرة العالية إلا أرملته أنيسة بومدين وبعض الرفقاء الذي يعدّون على الأصابع، أم أن أوراق الرئيس الراحل قد احترقت وتجاوزها الزمن ولم يعد الرهان عليها مجديا في ظل واقع اجتماعي مزري وشعب مقبل على الانتحار والانفجار؟ !!. نرى أن الدبلوماسية الجزائرية التي تبدع كثيرا في قضية الصحراء الغربية، وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه، فبعد مراوغات بلخادم وجدت ضالتها في التسلل عبر بوابة تركيا ومن نوافذ إيران علها تعيد بكارتها الضائعة، ولكن يظهر رهان آخر بدا يسوق له إعلاميا ومن مصادر مطلعة ومن دون الكشف عن هويتها، وتتعلق بأنه من غير المستبعد أن تنسحب الجزائر من إتحاد المتوسط الساركوزي، وإن كان مدلسي أطلق رصاصات رحمة على هذا المشروع من خلال التلويح لتحفظات الجزائر التي ظلت تظهر إعلاميا ولكن لم نقرأ عنها شيئا لا في السلوك ولا في تصريحات أطراف هذا الإتحاد، أما مصادر أخرى فقد زعمت أن الجزائر ستجمد عضويتها بسبب ما يحدث في قطاع غزة... فهل تريد من هذا استقطاب بعض الاهتمام الإعلامي والدبلوماسي وخاصة من طرف الرئيس الفرنسي الذي قام بزيارة إلى الشرق الأوسط وحاول أن تحظى بلاده بدور رئيسي في توقيف الحرب الراهنة؟ !! هل وجدت الجزائر فرصتها في تصفية حساباتها مع جوانب مختلفة بعدما لاحظ الجميع حضورها المحتشم في إعلان الإتحاد بباريس في يوليو/حزيران 2008؟ !! هل أن الحكام العرب يعرفون أن بوتفليقة منشغل ببعث روح الحياة في حكمه الذي يحتضر، لذلك فضلوا أن يتركوه مع مشاكله المحلية ولا يورطوه في ما قد يخرجه من الباب الضيق؟ !! بلا شك أن ما يقال غير ما يخطط له في الخفاء، ولكن المؤكد أن الدبلوماسية الجزائرية بانت عوراتها إلى حد بعيد، وأن تلك الأحاديث عن الحضور العربي والدولي لها هو مجرد جعجعة في طحين، لأنه في عز أزمة يعرفها الشرق والغرب لا صوت لها ولا أحد التفت إليها ولا يوجد من استشارها في أدنى الأشياء، فماذا سيحمل بوتفليقة لشعبه في حملته الانتخابية القادمة بعدما اعترف بفشل برنامجه وهاهو الواقع يؤكد أن دبلوماسيته التي يشرف عليها شخصيا لم تتجاوز بوابة مكتبه؟ !!.