حنان عقيل : في كتابك "الأسطورة والتراث" كانت لك قراءات جريئة فيما يخص التوراة والإنجيل، كشفت من خلالها عن العلاقة بين الدين والأسطورة، لكنك عدت مؤخرًا لإثارة الجدل من خلال مقالك عن "الأزمنة الأخيرة لإسرائيل" والذي فسرت فيه الإصحاح التاسع عشر من سفر إشعياء في العهد القديم بأن أنبياء العهد القديم تمنوا خراب مصر وإذلالها.. ما الذي جعلك تثير هذه المسألة حديثًا؟ وما تفسيرك لذلك الهجوم الضاري عليك؟ * سيد القمني: في الفترة الأخيرة، وجدت عددًا كبيرًا من المسيحيين في مصر ينشرون على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي نبوءات للمدعو زورًا وبهتانًا بالنبي إشعياء، ليقولوا إن نبوءاته تتحقق الآن. عندما أجد في الظروف الصعبة التي تمرّ بها بلدي أناسًا شامتين ينشرون هذا السفر الذي يتنبّأ بخراب مصر من جميع الجوانب وجفاف النيل وقتل المصريين بعضهم بعضا، والقول إن مصر إلى دمار حتى لا يعود رئيس لها، وفي ذلك الوقت ستعود مصر للرب الحقيقي يهوه. من ينشر هذا الكلام لا يجب أن يقول إن الإسلام فقط فيه إرهاب وهو متمسك بسفر إشعياء والتوراة وهما أصل الإرهاب. من يعتمد إشعياء والتوراة يكون أسوأ ممّا جاء في تاريخ الإسلام من حروب فاتكة، وما دامت هذه مرجعيته لا يجب أن يغضب حين يتم إخضاعه لحكم إسلامي يفرض عليه الجزية. عندما اعترضت في مقالي على نشر مثل هذا الكلام، قامت ضدّي كتائب السلفية المسيحية أو الصليبية بمعنى أصح، وهم الذين يُقدّمون الدين على الوطن، وهذا لا يختلف عما فعله جماعة الإخوان والسلفية الجهادية الذين لم يرتقوا من مرتبة الإنسان السائر على قدمين الذي لا يستخدم عقله سوى في الشؤون اليومية. العبيد إذا أمطر عليهم سيد القمني سيل الحرية فتحوا المظلات؛ هؤلاء عبيد الكهنة، المسيح الحقيقي مواطن مصري قبل كل شيء. عندما كنت أنقد التراث الإسلامي كان المسيحيون يصفّق لي، ولكن عندما اقتربت من تراثهم المسيحي شنّوا هجماتهم الضارية ضدي، مع هذا، أنا لم أقترب بعد من نقد الأناجيل، وقد حذرهم تلاميذي من أن أقترب من تلك المنطقة. من يضع الدين قبل الوطن هو ذميّ وليس أكثر من ذلك، ويحتاج لمن يتكلم معه اللغة الإسلامية؛ اركع يا ذليل لسيدك المسلم وسأطبق عليك الشريعة ما دمت طالبًا لمصر خراب إشعياء. هؤلاء المسيحيون كنت أدافع عنهم وقتما كانوا كالأنعام لا يفهمون، وعندما كانت الكنيسة مصابة بخرس لساني وشلل رباعي كنت أطالب بحقوقهم، ليس لأنهم أقباط ولكن لأنهم مواطنون مصريون في المقام الأول. نتيجة لذلك اعتبروني تنصّرت بل أقرّوا بذلك، لكنني أوضحت لهم أنني لا أستطيع أن أكون نصرانيًا. انهيار أخلاقي حنان عقيل : تقول إن لديك العديد من الانتقادات للأناجيل، وأنك لا تستطيع أن تكون نصرانيًا.. لماذا؟ *سيد القمني: لا أستطيع أن أكون نصرانيًا لأسباب عدة؛ في المسيحية يصومون كثيرًا وأنا مؤمن بأن الفرد لا يستطيع أن يُنتِج شيئًا وهو صائم، بالنسبة إليّ رمضان شهر البهجة والسرور؛ أستيقظ قبيل المغرب بنصف ساعة ثم أتناول الإفطار وأقضي الليل في مشاهدة النساء الجميلات في التلفزيون، فأنا رجل عجوز أُحبّ أن أُمتّع نظري. من جهة أخرى، لا يوجد مسيحي واحد بوسعه تطبيق كلام المسيح وبالتالي لو اتبعت هذا الدين سأكون منافقًا. المسيحيون اخترعوا أسطورة تقول إن رجلا يُدعى سمعان الخراز قام بنقل جبل المقطم ويحتفلون به كل عام، وهي إحدى الخرافات التي إن قالها شخص يجب أن يُودع مستشفى الأمراض العقلية فورًا. وفي إنجيليهم "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل". الشعب المصري يعيش الخرافة بكاملها. أودّ أن أُعلن أنني مستعد أن أتعمّد غدًا لو استطاع واحد من أصحاب المعجزات في المسيحية أن يشفيني من جميع الأمراض المستعصية التي ابتلاني الله بها، وإلا فليخرسوا ويتوقفوا عن نشر الجهالة. سيد القمني: لم أقدم إنجازا إلا وتفوقت فيه على نفسي المسيحية كدين ليس لديَّ اعتراض عليها ولا تسبب لي أيّ مشكلة، هي ديانة سلامية شأنها شأن البوذية وغيرها. المشكلة عندي عندما تتحول إلى الصليبية ممثلة في هؤلاء المنتمين إلى إشعياء. لقد شرحت للبشرية سلّم القيم الذي يمكن أن نصعد من خلاله. وقلت إن الدرجة الأولى التي تُمثِل الرباط المتين في هذا السلّم هي الوطن، ولا يجوز أن تكون الدين بأيّ حال من الأحوال لتعدد مذاهبه وطوائفه. يليها العلم في الدرجة الثانية، ثم يأتي الدين والمذاهب في آخر السلّم لتمزقه ويمكن التغلب على ذلك وقتها. الشارع الآن (إسلامي ومسيحي) وصل إلى أقصى درجة من الانهيار الأخلاقي. الرباط لأيّ مجتمع الوطن. وفي الوقت الراهن، غابت قيم الوطن عند المواطنين وعند الحكام، وأخص بالذكر، الحكام الحاليين، ومن ثم غابت قيمة العلم. الاحتلال المتحضر حنان عقيل: هاجمت الفتوحات الإسلامية في عهد عمرو بن العاص في أكثر من حديث لك.. ما السبب؟ * سيد القمني: تمنيت لو أن عمرو بن العاص لم يدخل إلى مصر؛ أعتقد أن تاريخ المنطقة كلها كان سيتغير تمامًا آنذاك، فمصر عندما كانت تُحتل كان ذلك يتم على أيدي متحضرين، فالمتحضر الأقوى يُقدّر حضارة المتحضر الأضعف أمامه فيضيف له ولا يمحو حضارته. عندما دخل الإسكندر مصر أبقى على جيشه خارجها وكانت مصر في حالة انهيار تامة لكنها كانت بلد الحضارة، فنزل بقارب وطلب أن يحج لآمون، هذا المثقف الذي علّمه أرسطو لم يقل إما زيوس أو الجزية أو القتل. الروم أيضًا أضافوا لمصر وأكملوا المكتبة بعدما تم حرقها، أما عمرو بن العاص وقف على الحدود وطلب ثلاثة أشياء إما الإسلام أو الجزية أو القتل، وقتها لم يكن القرآن قد جُمِع بعد، كما أن حفظة القرآن منعهم عمر بن الخطاب من الخروج للغزو، والنصائح الجميلة للقوات الغازية بألاّ تقتل قعيدًا أو كبير السن أو عجوزًا، قتلتها الاستثناءات "إلا من شارك ولو بالمال أو الأدوات أو الطعام أو التحريض ضد الغزاة العرب"، ومن ثم كان يتم قتل كل من يحاول الدفاع عن أهله أو بيته حتى لو كان قعيدًا. حنان عقيل : في محاضرتك الأخيرة ببروكسل، والتي كانت سببًا في تحريك دعوى قضائية ضدك بتهمة ازدراء الأديان، تم تداول فيديو للمحاضرة تقول فيه بأن الخطر الحقيقي على العالم هو الإسلام ويجب التحرك للتخلص منه، وأن الأديان كلها حلت مشكلتها مع الحداثة عدا الإسلام.. ما حقيقة هذه الأقوال؟ وما تفسيرك لها؟ * سيد القمني: يرد بغضب: لم أقل هذا وأرفض هذا السؤال لأنه معتمد على فيديو مقتطع نشره العدوّ الخسيس وتداوله الكثيرون على المواقع الإلكترونية. من يسمع المحاضرة الأصلية سيعرف أنني قلت "الإسلام المعمول به حاليًا والمتداول بين الناس في العالم الإسلامي أشدّ خطرًا على العالم ويجب التخلص منه"، ولم يكن الحديث بهذا الشكل المقتطع الذي هدف إلى التشويه المتعمد. في المحاضرة: الغرب لديه مشكلة في التعاطي مع الإسلام، أقول لكم: زيدوا حقن الإسلاموفوبيا في العالم وعرّفوا العالم أنه في خطر ساحق، أيّ مسلم يعتقد أن دينه صالح لأيّ زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة، عندما يتبع أدنى ما فيه ينفذه كالزيّ واللحية، هذا رجل إرهابي. كل الأديان حلّت مشكلتها مع الحداثة إلا الإسلام لأنه يرفض التخلي عن فكرة الصلاحية لكل زمان ومكان، المشكلة أنك تواجه مجتمعًا بكامله، حكومات تريد المجتمع هكذا وتريد أن تقتلك أو تحبسك، عندما عجزت الأديان عن حماية البشرية وظهر منهج التفكير العلمي تمكّن العلم من إيقاف الكوارث التي كانت تصيب البشرية رغم وجود الأرباب، ووجد أن المشاكل لن تحلّ سوى بالعلم. حنان عقيل: على مدار أكثر من أربعين عامًا قدمت الكثير من الجهود البحثية والفكرية. هل ثمة مراجعات فكرية عدّلت فيها من أفكار تبنّيتها في وقت سابق؟ * سيد القمني: المراجعات الفكرية سمة رئيسية لأيّ باحث حقيقي، فالثبات على المبدأ ضد مفهوم البحث. قد أتبنى فكرًا ما وأجد براهين أخرى فيما بعد فأنتقل إلى فكر آخر أكثر صحة. مثلًا.. كتاب "النبي إبراهيم والتاريخ المجهول" واحد من عثراتي الكبرى، كنت آنذاك باحثًا مبتدئًا يملؤني الغرور، تحدثت فيه عن هجرة مصرية في نهاية الدولة القديمة وسقوطها وتفتت مصر وانتشار الاستقلالات المحلية، وعثرت في البحرين على (أبو هول مصري وحية مصرية من الذهب)، واعتبرتهما من الدلائل على هذه الهجرة والحضور، كان هذا نوعًا من الفانتازيا. هذا الكتاب الذي أبهر الكثيرين أعتبره كتابًا شديد التواضع، ولم أعد طباعته لهذا الخطأ الذي اكتشفته أثناء عملي في كتاب "النبي موسى وآخر أيام تلّ العمارنة".نحن في العالم العربي نعيش في الأساطير ذاتها منذ آلاف السنوات، وفكرة التوفيق بين الواقع العلمي والمعتقد الديني ليست سوى استجلاب للرزق. أدعو المروّجين لمثل هذه الإعجازات أن يأتوا من المقدس باكتشاف علمي جديد لم يأت به العلم، وإلا فما يحدث ليس سوى تعطيل للعقل وحجب له عن التعلم أيضًا، هناك فصل في كتاب "الأسطورة والتراث" أخطأت فيه؛ ففي باب "الأساطير التوراتية" قلت إنهم سرقوا من التراث البابلي والفرعوني، الأدلة التي قدمتها سليمة، لكنني في ذلك الوقت كنت عروبيًا ناصريًا بشكل متزمّت فكنت أكره اليهود باعتبارهم خونة التاريخ وغيره، وكتبت بهذه العقلية أنهم سرقوا لكن الحقيقة أنها لم تكن سرقة، كان من الطبيعي في ذلك الوقت أن تتلاقح الأفكار. مثل هذه الأخطاء اكتشفتها بنفسي ولم ينبّهني أحد لها، لكن ما أسمعه من ردود أفعال ليس سوى هراء لا قيمة له. حنان عقيل: وهل من اشتغالات فكرية جديدة تكتب عنها في الوقت الراهن؟ * سيد القمني: كنت أعمل على موضوع لكنني متوقف عنه منذ فترة، وصلت للفصل الثالث عشر من كتاب عنوانه "إلحادولوجي- تأملات ثانية في الفلسفة الأولى"، أقدّم فيه تأملات في الفلسفة الأولى، الوجود، متجاوزًا لديكارت، الذي لم يأت بعده شخص يقدم تأملات في الوجود. أهم شيء درسناه لديكارت كتابه "تأملات في الفلسفة الأولى" وهو مُكوّن من عشرة فصول بعشرة تأمّلات. في هذا الكتاب "إلحادولوجي" لا توجد مصادر أو مراجع، هناك عقل وفلسفة بحتة ومخاطبة للعقل المرتب، ولن يفهم الكتاب سوى هؤلاء الذين يمتلكون منهجًا ويعرفون الفلسفة. في هذا الكتاب أُزيّن اسمي في التاريخ بعد أن قدمته بشكل جيد طوال السنوات الماضية.