سيدي القاضي، خلال الأشهر الأخيرة أصبحنا نسمع عن متهم خطير يتربص بأرواح السياسيين والأطفال الأبرياء في منطقة أصبحت تسمى بمثلث برمودا. المتهم هو واد اسمه الشراط يخترق غابة ابن سليمان ويصب في شاطئ من شواطئ الصخيرات. مؤخرا أصبح الجميع يتهم هذا الواد بأبشع التهم؛ منها وقوفه وراء موت الزايدي، رغم أن هذا الأخير مات غرقا تحت قنطرة السكة الحديدية، ومنها وقوفه وراء موت عبد الله باها، مع أن هذا الأخير مات تحت عجلات القطار، وها هم اليوم يتهمون الواد بالوقوف وراء غرق أحد عشر طفلا. سيدي القاضي، إن واد الشراط بريء من هذه التهم كلها، فهو مجرد مجرى مائي بسيط لا يد له في ما يقع من حوادث مميتة تقع بالقرب منه. لقد كنا سيدي القاضي نسير لأربعة عشر كيلومترا ونحن أطفال لكي نصل إلى هذا الواد الذي يزحف مثل ثعبان متعب وسط صخور وجبال منطقة عين الدخلة المتوارية خلف أشجار البلوط في الغابة الكثيفة الممتدة إلى حدود غابة المعمورة. نستيقظ في الصباح الباكر ونسير لساعات طويلة لمجرد أن نصل الواد ونسبح في مياهه الطينية بحثا عن انتعاشة مسروقة من قيظ تلك الأيام البعيدة، غير عابئين بأقدامنا المنبلة بسبب طول ساعات المشي أو بجلودنا التي تدبغها الشمس بأشعتها الحارقة. كان واد الشراط ملجأنا الوحيد لمقاومة القيظ نحن أبناء الفقراء. أما الذين كانت لهم وسيلة نقل، دراجة هوائية في الغالب، فكانوا يركبونها نحو شاطئ بوزنيقة، حيث البحر الذي يصب فيه واد الشراط، والذي منه يتسلل سمك البوري ويتوغل نحو عمق الواد لكي ينتهي عالقا في شصوص قصباتنا ثم مشويا فوق النيران التي كنا نعدها مثل هنود صغار. سيدي القاضي، هناك أبرياء كثر في ملف غرق أطفال نادي التايكواندو بمدينة ابن سليمان، أما المتهمون الحقيقيون فإن محكمتكم الموقرة لم توجه لأي واحد منهم أي صك اتهام. إن تهمة القتل الخطأ الناتج عن الإهمال التي وجهتها محكمتكم الموقرة للمدرب والبطل الرياضي، مصطفى العمراني، هي مجرد تهمة وليست إدانة، ولذلك فمن حقنا جميعا بل من واجبنا أن نعتبر المتهم مصطفى العمراني بريئا، إلى أن تتم إدانته طبعا أو تبرئته من المنسوب إليه. سيدي القاضي، هناك إشارة مهمة يجب أخذها بعين الاعتبار، وهي أن أية عائلة من عائلات الأطفال الغرقى لم تبادر إلى وضع شكاية بالمدرب، بل إن هذه العائلات غادرت سرادق العزاء حزنا على رحيل أبنائها وذهبت إلى مقاطعات المدينة لكي توقع تنازلات رسمية تمتنع فيها عن متابعة المدرب. سيدي القاضي، لقد تفهم الجميع قرار اعتقال المدرب فور وقوع الحادث المأساوي، لما في ذلك من إجراء حمائي ووقائي له ضد أي عمل انتقامي قد يكون محكوما بقوة الصدمة التي عاشتها عائلات الأطفال الغرقى، وتفهم الجميع قرار الاعتقال أيضا لأن الرأي العام كان يطالب بتحديد مسؤول عن الحادث المأساوي. لكن قراركم متابعة المتهم في حالة اعتقال كان قرارا قاسيا، لأن المتهم لديه كل ضمانات الحضور، كما أن أهالي الضحايا تنازلوا عن متابعته. سيدي القاضي، إن المتهم مصطفى العمراني ليس مواطنا عاديا، فهو بطل للمغرب في فنون القتال لثماني مرات على التوالي، والنادي الذي يسيره فاز ببطولة المغرب للتايكواندو لثلاث مرات وبطولة المغرب العربي لمرة واحدة. سيدي القاضي، إن النظر في هذا الملف بمعزل عن السياق العام لمدينة ابن سليمان سيكون فيه تجن على العدالة، فالمسؤولية التقصيرية والإهمال اللذان يتابع بهما المتهم مصطفى العمراني هما في الحقيقة تهمتان يجب أن توجهان إلى السياسيين والمسؤولين الذين تحملوا ويتحملون مسؤولية وضع السياسيات العمومية، والتي تركت إقليم ابن سليمان خارج مدار التنمية لعقود طويلة. هل تعرفون سيدي القاضي ماذا كان سيكون مصير هؤلاء المئات من الأطفال الذين ظلوا يتدربون في نادي المتهم مصطفى العمراني إلى أن حصل كثير منهم على ألقاب وجوائز وطنية ودولية ؟ كانوا سيدي القاضي سينضمون إلى قوافل الشباب المدمن على المخدرات والقرقوبي وجميع أنواع الموبقات التي يتعاطاها أبناء ابن سليمان المنحرفون والجانحون في منعطفات الأزقة والدروب. فمدينة ابن سليمان، كما قد يخفى عليكم سيدي القاضي، لا يوجد بها أي سوق للشغل، عدا التجارة المعاشية والوظائف الإدارية والباعة الجائلين، وباعة المخدرات والخمور بالتقسيط. إنهم يا سيدي القاضي أهملوا هذه المدينة المظلومة لعقود طويلة، وظلوا يوهمون الناس بأن مدينتهم سياحية ويجب أن تظل خالية من المصانع والمعامل من أجل أن يظل الهواء نقيا، حتى ولو كانت رئات الساكنة وجيوبهم منخورة بسبب الفقر والرتابة والجمود. سيدي القاضي، لقد عشت 27 سنة في مدينة ابن سليمان، مسقط رأسي، وأستطيع أن أؤكد لجنابكم أننا لم نكن نعيش الزمن الرديء نفسه الذي يعيشه جيل اليوم، حيث المخدرات طوع اليد، لكن ومع ذلك لولا نوادي التايكواندو والكاراطي وكمال الأجسام، التي كنا نقضي فيها سحابة أيامنا لكنا انتهينا في الشوارع مدمنين ومشردين وفاشلين. لقد كانت هذه النوادي الرياضية ملجأنا وحضننا الذي نهرب إليه لتربية أنفسنا على أخلاق الرياضيين ومهارات الدفاع عن النفس وتقوية عضلات الجسد استعدادا لقساوة المستقبل. وقد كان بيننا من حصل على بطولات وألقاب وميداليات، فيما استفاد البعض الآخر من تلك الحصص لتكوين شخصيته وقدراته الذهنية. وشخصيا عرفت قيمة تلك الحصص التدريبية عندما هاجرت إلى إسبانيا ووجدتني في مواجهة جبال من صناديق البرتقال كان علي أن أشحنها في شاحنات كبيرة؛ عندها فقط فهمت أن العضلات يمكن أن تنفع عندما يقف الدماغ عاجزا. سيدي القاضي، لا تنظروا فقط إلى الأطفال الذين ابتلعتهم موجة في الشاطئ، فهؤلاء كان قدرهم أن يموتوا بتلك الطريقة مكتوبا في لوح الغيب قبل ولادتهم، وكل ما ارتبط بالحادث من رحلة وسباحة ليس سوى سبب. لا تنظروا فقط إلى الضحايا بل انظروا أيضا إلى مئات الأطفال الذين تدربوا على يد المتهم الماثل أمامكم والذي أنقذهم من الوقوع ضحية إغراءات الشارع الذي لا يرحم في مدينة لا يقدم فيها المسؤولون لأبنائها أية فرصة للنجاة بمستقبلهم. إن هؤلاء الأطفال ليسوا أبناء عائلات ثرية وميسورة، بل هم أبناء الفقراء الذين يعول عليهم آباؤهم لكي يكبروا في جو سليم ويضمنوا مكانا تحت الشمس في المستقبل، معتمدين على مهاراتهم الذاتية ومواهبهم الدفينة التي تحتاج إلى من يكتشفها ويرعاها. سيدي القاضي، إن هذه المرافعة العفوية لا تطمح إلى التأثير على قراركم، معاذ الله، فالعدالة فوق التأثير والسادة القضاة أكبر من أن يتأثروا بمقال أو أي شكل من أشكال الضغط. إنها في الواقع مرافعة ضد النسيان والإهمال والتقصير الذي يمارسه واضعو السياسات العمومية ضد إقليم ابن سليمان. هؤلاء الذين وجدوا في مآسي عائلات الغرقى مناسبة لزيارتهم رفقة ممثليهم في البرلمان بحثا عن أصوات في الانتخابات المقبلة، مثل الوزيرين نبيل بنعبد الله وولد الباشا الصبيحي، أو مثل وزير التجهيز والنقل الذي وجد في حادث غرق الأطفال المأساوي مناسبة لكي يتحدث لنا عن حادثة غرقه في الشاطئ نفسه سنوات الثمانينات، وكيف أن العناية الإلهية أنقذته بعدما قذفته الأمواج نحو شاطئ النجاة، كما لو أن الأطفال الذين غرقوا استثنتهم العناية الإلهية التي يحتكرها السيد الوزير وإخوانه، الذين ينجون دائما من الموت في الكوارث بأعجوبة، عكس الناس العاديين الذين يموتون في حوادث مماثلة. فرئيس الحكومة ينجو من سقوط طائرته، فيما يموت زوجان مغربيان في سقوط طائرة بأوربا، ووزير الاتصال ينجو من الموت في فيضانات الجنوب فيما يقضي فيها مواطنون بالعشرات. سيدي القاضي، إن من يعاني في حقيقة الأمر من جريمة القتل الخطأ الناتج عن الإهمال هو هذا الإقليم الذي لا يرى فيه منتخبوه المسؤولية سوى مناسبة للوجاهة، فيما لا يرى فيه أثرياء الرباط سوى حظيرة كبيرة لتربية الماشية وإقامة المشاريع الفلاحية الضخمة التي تستنزف فرشته المائية. وإذا كانت العائلات المكلومة تبكي أبناءها الغرقى في شاطئ الصخيرات، فإن آلافا من العائلات الأخرى تبكي يوميا بالدم أبناءها الغارقين في بحور الإدمان والإجرام والبطالة. تلك البحور الهوجاء التي يحاول أمثال المدرب والبطل مصطفى العمراني رمي أطواق النجاة فيها من أجل انتشال الأطفال من أمواجها المتلاطمة. يحدث أحيانا أن ينفجر طوق النجاة ويغرق الطفل، لكن هذا لا يعني أن من رمى الطوق يجب أن يحاسب كقاتل. إن المتهم الحقيقي سيدي القاضي في كل ما حدث بإقليم ابن سليمان مؤخرا من وقائع مأساوية ليس هو واد الشراط ولا المدرب ولا حتى البحر، بل إن المتهمين الحقيقيين هم واضعو السياسات العمومية، فهم متهمون بقتل إقليم نتيجة الإهمال. والمصيبة أن هذا القتل لم يكن بسبب الخطأ بل إنه كان متعمدا، مما يجب معه تشديد العقوبة ضد هؤلاء المسؤولين والتماس أقصى ظروف التخفيف للمتهم الماثل أمامكم. ولمحكمتكم الموقرة واسع النظر.