لا شك أن الزيادة في الأجور تكتسي أهمية بالغة، خصوصا بالنسبة للمأجورين والموظفين أصحاب الأجور المنخفضة ، لكن اتخاذ مثل هذا القرار يجب أن يتم في إطار تصور شامل ومتوازن يتوخى توفير شروط العيش الكريم لجميع المواطنين بدون استثناء ، عبر تشجيع الاستثمار وإحداث المزيد من فرص الشغل وتجنب السقوط في التضخم وانعكاساته السلبية اجتماعيا واقتصاديا ، وعلى هذا الأساس ، فإن المناقشات حول رفع الأجور، في الحوار الاجتماعي ، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الوضعية الاقتصادية العامة للبلاد ووجهة نظر مختلف الفاعلين والمتدخلين .. صحيح أن أصحاب القرار مطالبون بالتفكير في تحسين أوضاع الشغالين سواء في القطاع الخاص أوالعام ، ولكن قبل ذلك ، فإنهم مطالبون بالبحث عن السبل الكفيلة بضمان الشغل للذين هم في حاجة إليه، وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين بشكل عام ، علما أن الأجور المرتفعة وحدها لا يمكنها التخفيف من أثر التضخم الوطني والعالمي ، بل إن الخطوات غير المحسوبة، في هذا المجال ، قد يكون لها أثر عكسي وقد تؤدي إلى تقهقر القدرة الشرائية للمواطنين و إلى فقدان فرص الشغل المتوفرة . وفي إطار هذا التصور الشامل، من المفروض اعتماد نظام ضريبي عادل ومنصف يهتم بالتقليص من الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة وتلافي مظاهر الضغط الضريبي، ومواصلة الإصلاحات الهيكلية التي باشرتها بلادنا منذ مدة.. ومن الواضح أن نجاح هذا التصور الشامل يفترض بالضرورة التزاما واضحا من الحكومة والفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين ، في إطار توافق تام بين مختلف الأطراف ، بحيث يتحقق رضى النقابيين عن المقترحات التي تقدمها الحكومة وأرباب العمل ،وتقتنع الحكومة وأصحاب المقاولات بالمطالب التي يقترحها النقابيون ، فإيجاد الحلول للمشاكل المطروحة لا يتوقف عند الحديث عن الرفع من الأجور وإنما يتعداه إلى النهوض بأوضاع المجتمع و حماية و تقوية تنافسية المقاولات الوطنية وتحسين خدمات المؤسسات والمرافق العمومية وتوفير التمويل اللازم لكل العمليات المبرمجة .. ويظهر أن الحكومة الحالية ، بالرغم من الظرفية الصعبة ، بذلت مجهودا موفقا لبلورة هذا التصور الشامل ، حيث اعتمدت على مقاربة متعددة الأبعاد ، شكل فيها الرفع من الأجور عنصرا مفصليا ، حيث تم تخصيص غلاف مالي للحوار الاجتماعي فاق 16 مليار درهم ، وهو الغلاف الذي لم يسبق لأي حكومة أن اعتدمته ، كما تم الإعلان رسميا عن مأسسة الحوار الاجتماعي لأول مرة في تاريخ مغرب مابعد الاستقلال ، وبلغة الأرقام ، فإن الحكومة شرعت منذ يوليوز 2008 في تنفيذ التزاماتها المتمثلة في الرفع من أجور الموظفين المرتبين في السلالم من 1 إلى 9 مما سيمنع لأول مرة ، عدم تقاضي أي موظف في القطاع العمومي أقل من الحد الأدنى للأجور ، و الزيادة من الحصيص المخصص للترقية إلى 25 في المائة بالأقدمية و11 في المائة بامتحان الكفاءة المهنية، والتخفيض من الضريبة على الدخل بنسبة 4 % ، و الرفع من سقف الأجور المعفاة من الضريبة على الدخل من 24 ألف إلى 30 ألف درهم خلال سنتين؛ والرفع من مبلغ التعويضات العائلية بنسبة 33 في المائة ؛ والرفع من الحد الأدنى للمعاشات إلى 600 درهم ، إضافة إلى الرفع من الحد الأدنى للأجر الفلاحي وإقرار التعويضات العائلية لأول مرة في تاريخ المغرب بالنسبة للأجير الفلاح ، وكذا إحداث تحفيزات وتعويضات عن العمل ولأول مرة بالمناطق النائية والصعبة بالعالم القروي بالنسبة لرجال ونساء التعليم والصحة والقضاء.. ومن المؤكد أن هذا التصور الشامل يترجم حرص الحكومة على تحسين مستوى الدخل لعموم الموظفين والأجراء ، واستكمال المنظومة القانونية المرتبطة بمدوة الشغل والوظيفة العمومية ، وتوفير الآليات الضرورية لعزيز الحريات النقابية وتطوير منظومة الحماية الاجتماعية ، وهي ، على كل حال، إجراءات وتدابير تتجاوب مع انتظارات الطبقة الشغيلة وتأخذ بعين الاعتبار مقترحات ومطالب الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين التي من المفروض ألا تقف عند مطلب الرفع من الأجور ..