هذه قصص حقيقية، وشهادات قد يصادفها أي منا ويستمع للحكي... قد يقف عند بعض المعاناة.. قد يستمع وينصرف، لكنها في عمقها هي تجارب أناس عاشوها... قد تنتهي نهايات سعيدة وتنسى، لكنها أحيانا تبقى عالقة في القلب والذاكرة وتنغرس غصات ثاوية في الحلق، لذلك فهي تستحق النشر وإعادة النشر لأنها تجارب بشرية، وتجارب البشر لها رائحة وطعم ولون الزمن... وكل ا لأزمان، وبهذه الصفة فهي ليست أحكاما تتقادم، ولكنها تظل عبرا تتداول... إعداد: زهرة لعميرات أسباب كثيرة تدفع بناتنا لهجرة الديرة والعشيرة والحضن العائلي الدافئ والارتماء في غياهب الغربة بكل قسوتها وعنفها وتداعياتها السلبية، التي تأتي على الأخضر واليابس.. ويضيع الطموح، الأمل، المستقبل، والحلم بتكوين أسرة في البلد الوطن الذي لم يعد يقدم لشبابه وشاباته إلا الإحباط والإحساس بعدم الانتماء. زينب، فاطمة الزهراء، ورابعة... فتيات طرقن باب الهجرة لالتماس فرصة الرزق الحلال والهروب من أتون البطالة القسرية، فهن جامعيات يتأبطن شواهدهن لأزيد من أربع سنوات، ومن تخصصات مختلفة.. طرقن كل الأبواب لمعانقة فرصة عمل تقيهن ذل الحاجة وتضمن حقا في الشغل، لكنهن في الأخير قررن الهجرة بعد الحصول على عقود شغل وكان ما لم يكن منه بد. حين تحاصرنا الهواجس في الغربة... نستحضر الأهوال التي مررنا بها في سبيل الحصول على شغل داخل الوطن. في بلد الهجرة حين تخلد زينب إلى وحدتها تدير شريط عباس الخياطي «خويا خويا يا الغادي مسافر والله بك ما سخيت...».. هذا الشريط يؤنس وحدتها ويجعلها تضحك من مفارقة غريبة تناقشها عبر الهاتف مع زميلها على مقعد الدراسة الذي لازال يبحث عن فرصة شغل في أحضان الوطن، ومعا يتهكمان على التفكير الذكوري الذي كان يفصل كل شيء على مقاس الذكورة حتى أغاني السفر والهجرة. عملت زينب قبل سفرها في إحدى المؤسسات ا لخاصة ثم درّست مادة الرياضيات في مدرسة خاصة قبل أن تقرر ترك العمل والبحث عن وظيفة العمر، ولكن بعد أربعة أعوام من حصولها على شهادة إدارة الأعمال من إحدى المدارس الخاصة لم تجد تلك الوظيفة في بلدها، فهاجرت للعمل في شركة تأمين خاصة في دولة خليجية. لا تعتبر زينب نفسها حالة شاذة، تستوجب الاستفاضة في الحديث عنها، هي ليست إلا جامعية لم تجد في بلدها الأم فرصة عمل ترضي طموحاتها فهاجرت. تقول: «هجرة البنات» وضعية حديثة العهد في المجتمع المغربي وعلى رغم أن سفرهن وإقامتهن في الخارج لأسباب متنوعة يعود إلى عشرات السنين، إلا أن حجم هذه الهجرة يتزايد بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، فما هي الأسباب التي تدفع فتيات المغرب إلى الهجرة؟ «غياب فرص العمل، الإحساس بعدم الانتماء السياسي، ضيق الآفاق الفكرية والثقافية، أسباب لا يمل كثيرون من ترديدها قبل الركوب على متن الهجرة هربا إلى بلد آخر طلبا للرزق، ويجمع الشباب والشابات على نبذ هذه «العلل الداخلية» ورفض «الحياة في بلد لا يؤمن لأبنائه متطلباتهم الحياتية ولا يراعي تطورهم السياسي والفكري» وعلى رغم الدوافع الكثيرة التي يوردنها تعلل معظم الفتيات هجرتهن «بالهروب من وطن أصبح سجنا كبيرا ثم البحث عن فرصة عمل أفضل». الواسطة إلى المهجر! قبل الحصول على إجازة في الإعلام لم يخطر على بال رابعة (25 عاما) السفر، كل ما كانت تبحث عنه هو «الشهادة ثم العمل في إحدى ا لمؤسسات الصحافية» تقول: «بعد التخرج تدربت في أكثر من مؤسسة إلا أن القيمين على المؤسسات لم يلتزموا في المسألة المادية، وكما يحصل عادة لم يتم توظيفها في أي منها». أحست رابعة بأنها تعمل من دون مقابل، بحثت عن عمل لشهور عدة ثم يئست، فكرت في السفر إلى الخليج «هناك يمكنني أن أدخر، لم أعد أفكر سوى في المال» تردد العبارة نفسها التي تتكرر يوميا على ألسنة فتيات كثيرات. سافرت رابعة إلى الإمارات لتعمل في إحدى الصحف، لكن البلد الجديد لم يكن مشرعا أبوابه لاستقبالها كما كانت تعتقد «الوضع مختلف تماما في الخارج، هناك صعوبات كثيرة تواجهنا قبل التوظيف بدءا من البحث عن الأشخاص الذين يمكن أن يرشدونا إلى أصحاب العمل، مفاتيح المؤسسات - وتماما كما في المغرب علينا مواجهة معضلة البحث عن الواسطة». وتقول فاطمة الزهراء منتقدة التمييز في التعامل بين الفتاة العربية والأجنبية المهاجرة «يندهشون لأنني فتاة عربية غير متزوجة أسافر وحدي بهدف العمل والحصول على مال». سافرت فاطمة الزهراء إلى دبي لتعيش «تجربة السفر والحصول على استقلاليتها الكاملة والهرب من قلة فرص الشغل، لم يشغل البحث عن عمل بالها كثيرا فهي اختارت عن اقتناع الانطلاق من نقطة الصفر، بدأت بالتعرف على الأماكن والمناطق التي عليها أن تقصدها غير أن «المشكلة الأساسية للفتاة المهاجرة هي الحصول على مسكن، لم يكن لديهم الثقة بي كيف سأسدد فواتير الكراء طالما أنني لا أعمل ولا أحد يكفلني تقول: التعامل مع الشخصيات الغريبة مشكلة أخرى واجهت فاطمة الزهراء أثناء سفرها، «عليك أن تتعامل مع أشخاص لا تعرفهم ولا تعرف كيف يفكرون ولا كيف هو أسلوب حياتهم وطريقة ممارسة أعمالهم، يعني كان كل شيء غريبا بالنسبة إلي». لم تبق فاطمة الزهراء عاطلة عن العمل لوقت طويل لأنها وصلت البلد في الصيف وفي الصيف تكثر الوظائف وهكذا أصبحت الجامعية موظفة في إحدى شركات البيع في دبي و«بدخل يتجاوز ثلاثة أضعاف ما كنت أتقاضاه في بلدي». تضيف: ولكن ما ينغص متعة الحياة بالنسبة إلى فاطمة الزهراء هو صاحب الشغل الذي يعامل الموظف كملكية خاصة، فلا يحس العامل بأنه يتقاضى أجرا لقاء عمله فقط. تنتقد فاطمة الزهراء ظروف العمل الشحيحة في المغرب التي غالبا ما تخضع المرء قسريا إلى ضعوطات الهجرة إلى الخارج... وتحن إلى أهلها الذين شجعوها بعدما وجدوا أنها تتعب في بلدها ولا تحصل على نتيجة». وتقول: «في الغالب البنت لا تسافر إلا طمعا بالنقود لا رغبة في الاستقلال عن أهلها» قصة فاطمة الزهراء تصلح نموذجا لقصص جامعيات كثيرات لم يحالفهن الحظ بالعمل في اختصاصهن، حازت على الإجازة في الاقتصاد قبل أن تمضي سنة ونصف السنة عاملة في أحد الأسواق الممتازة بأجر زهيد، منذ عامين سافرت من أجل العمل ولأسباب مادية بحثة بعدما أمن لها أحد الأقارب عقد عمل في مؤسسة خاصة. هناء مؤهلة لتحمل عبء الهجرة وفرض وجودها واستقلاليتها: الرغبة في الحصول على عمل أفضل لم يكن إلا السبب المعلن لسفر هناء تقول: لست مرتبطة عاطفيا، وأرغب في العيش وحدي ويبدو المبرر كافيا في نظرها لتحمل أعباء الإقامة في ا لخارج. وإذا كانت قلة فرص الشغل قد حملت هؤلاء الفتيات على الهجرة وطلب الرزق في بلاد الله الواسعة وتحمل عنف الغربة، إلا أن هناك عنفا آخر وصفنه بإجماع أنه ماركة مغربية مسجلة، وأصرين على الإفصاح عنه لأنه أقسى من الغربة، أفظع من البطالة... إنها سمعة المغربيات ا لمهاجرات في بلدان الخليج.. تلك السمعة السيئة التي تحملك أحيانا على التمويه على هويتك للخلاص، وقلن بلسان واحد: «قد تستطيع الواحدة منا أن تتحمل قساوة الغربة وصعوبة العيش بعيدا عن الأهل ودفء الديرة وأنس العشيرة للارتماء القسري بين أحضان أناس آخرين لهم عاداتهم وتقاليدهم وطرق عيشهم وأشياء أخرى كثيرة، نكون مجبرات على مجاراتها وتحملها، لكن يبقى أشد وقعا على النفس وإيلاما ما نتجرعه مع كل نفس من مهانة - نحن المغربيات المهاجرات في دول ا لخليج - بسبب عنف الصورة الجاهزة، التي تحاصرنا هناك وتقدمنا لهذه المجتمعات «كشيء» للمتعة... «آلات جنسية» لإنتاج اللذة وإشباع هوس جنسي أبدي،، وأنى حلت المغربية تحاصرها نظرتان، نظرة اشتهاء من الرجال ونظرة احتقار ممزوج بالغيرة والحقد من النساء، ويصبح من الصعب أن تدافع الواحدة عن نفسها... وإلا فسنقضي كل الوقت نشرح للمهووسين، أننا فعلا مغربيات، ولك جئنا لبحث عن العمل الشريف.. وإننا لسنا كل البيض الذي يوضع في نفس السلة، لكن لا سبيل لتغيير الصورة أو حتى تلطيفها فنحن في هذا الصدد كمن يطحن الهواء، وتصير الهوية والانتماء، أشياء ينبغي التستر عليها ومداراتها على أناس يعرفوننا فقط بقدرة فتياتنا على الإمتاع والمؤانسة والبراعة في النزال والكر والفر في الفراش، وهي للأسف شهرة لم يستطع أن يمنحها لنا الانتماء لبلد بطبيعة خلابة... بتاريخ وحضارة.. بشعب مكافح... بشواطئ تنتج من الخيرات ما كان كفيلا لمنحنا الرزق في بلدنا وليس استجداؤه عند آخرين يمرغون كل يوم كرامتنا في الوحل، وليس أقلها أن تخفي الواحدة منا جلبابها وزيها المغربي لتختبئ في (دشداشتهم)... حتى تخفي معالم الانتماء لبلد نعيش فيه سجنا كبيرا ونغادره متابعين بأهوائه المريضة.