الانحياز في لغة العرب يعني المحاباة والتأييد، وانحاز إليه تعني مال إليه وحشد الجموع الغفيرة للدفاع عنه، أو على الأقل أيده بنصره في موقفه أوبرنامجه أو أعد له متكأ.. أما انحاز عنه فتعني عدل عنه، أوغيره بكيان آخر، فحاربه وحشد الجموع الغفيرة ضده لإسقاطه.. وتزامنا مع انعقاد قمة حركة عدم الانحياز.. قد ينحاز الشخص أو الحزب أو الدولة إلى شخص أوحزب أو دولة، أو إلى فكرة أو موقف أو كيان معين.. ويشترط لصحة ذلك وجود كيان مضاد ينحاز عنه، أو يعبئ الحشود للتظاهر ضده، أو على الأقل يسخر قوته وأجهزته لتوقيف مشروعه ودعم المشروع المضاد، وهدم أركانه، بكل الوسائل المتاحة، وهو ما لا يمكن القيام به دون تقوية مشروع تحكم بديل، والدفاع عنه.. ولامانع في إجهاض تجربة التناوب الديمقراطي .. كما لا يجب أن يُظهر انحيازه، ليتبرأ من التهم المنسوبة إليه، براءة الذئب.. وقد يُشيطن ويندد ويشجب من يتهمه بالانحياز، وهو ما لا يوفر فضاء سليما للتنافس الديمقراطي النزيه.. فقد لا يرقى هذا الانحياز إلى اعتباره مغامرة بالاستقرار السياسي، لأن الانحياز يعرف جيدا كيف يتم ضبطه، ليدخل من يشاء ويخرج من يريد بغير حساب. ويبقى التحدي هو ترشيد هذا الانحياز والتحكم فيه بلباقة وأناقة.. والحكمة هي تجنب أي تدبير أو إجراء متسرع، قد يخدم مصلحة المنحاز عنه.. وفي سياق آخر تستقبل فنزويلا المنحازة للبوليساريو، قمة حركة عدم الانحياز، التي تعيش بدورها احتجاجات ومظاهرات منحازة ضد الاشتراكي مادورو، في قمة عقيمةغاب عنها أغلب الزعماء، وكسب فيه المغرب رهان عدم مشاركة وفد البوليساريو في أشغال القمة. لم تجلب هذه القمة الاهتمام العالمي في ظل فقدانها للتأثير على المشهد السياسي الدولي، في قرن ماتت فيه الإديولوجيات، وغابت حكمة رجال الفكر والإيديولوجية والمواقف عن تدبير محطاته، إن الحكم إلا للمال والأعمال. ولا يمكن فهم واقع الانحياز بمعزل عن مؤتمر القمة للدول الأعضاء في مجلس الأمن الذي عقد في يناير 1992، بعد أشهر قليلة من سقوط القطبية الثنائية، إذ تحدث الجميع عن هيمنة القطب الواحد على السياسية الدولية، فأصدرت القمة بيانا تاريخيا ركز على رفض الإيديولوجيات، ونبذ الإرهاب الدولي، وتقوية دور الأممالمتحدة التي انحاز لها الجميع، لتنحاز هي الأخرى إلى القطب الواحد المهيمن. ربع قرن من الزمن كان كافيا لبناء استراتيجية للقضاء على عدم الانحياز، وسن حد أدنى من المعايير التي يجب أن تتوفر عليها الدولة لصون بنيتها الداخلية، واعتبار الانحياز فرض عين على كل من ألقى السمع وهو شهيد. عجلت المتغيرات السياسية بتشييع جثمان عدم الانحياز علميا وسياسيا ومؤسساتيا، فانهارت التنظيمات والمعسكرات، ليبقى الحكم للمعسكر الوحيد، الذي يجب عليه حفظ هيبته، ومكانته في النفوس، فله من التدابير الراقية ما يمكنه من توجيه المشهد السياسي "الدولي"، دون إثارة النقاشات حوله والمقامرة بسيناريوهات يغامر بنجاحها. ويندرج عدم الانحياز ضمن عدة سياقات (حزبية ووطنية وأممية).. هو شر لابد منه، حفاظا على الوحدة، واستمرارا لقوة النموذج الديمقراطي الذي نباهي به الأعداء.. فالاحتجاج دال، ونجاحه مدلول، ومخرجاته قد تكون واقعا مريرا، أضعف عددا لابأس به من دول المنطقة التي أريد لها أن تزيغ عن مكتسباتها الديمقراطية، ليفقد زعماؤها الإجماع الشعبي، فعزف روادها ألحان الحسرة على الماضي، بأنغام مقام الصبا، رثاءً للسلم والتعايش والأمن. فعودوا إلى رشدكم هداكم الله...