بعد صيف حار وممطر، يستعد ما يزيد عن 12 مليون من التلامذة والطلبة الفرنسيين لاستئناف دراستهم، ومعهم 954 ألف من المدرسين ينقصهم، روبير ريدكير، أستاذ الفلسفة بإحدى الثانويات بضواحي تولوز، الذي نصحته الشرطة بأن يتوقف مؤقتا عن مزاولة التدريس مع توخي الكثير من الحذر في تنقلاته، بسبب تلقيه تهديدات بالموت، بعد تصريحاته المثيرة للجدل قبل شهرين حول الإسلام والمسلمين. ويتميز الدخول المدرسي عن سابقيه بحدثين هامين خلفا ردود فعل تتفاوت بين الترقب والاستياء في الأوساط التعليمية والنقابية وأيضا في وسائل الإعلام التي أفردت لهما حيزا وافرا في نشراتها المرئية والمسموعة وفي صفحاتها الأولى. ويتعلق الأول بحذف ما يزيد عن 10 ألف منصب في قطاع التعليم وتعويض هذا النقص بإلغاء بعض الحصص الدراسية وتقليص ساعات العمل، والثاني بتقويم الخلل في بعض المناهج وإعادة الاعتبار للمدرسة ولهيئة التعليم بشكل عام. وتعلل الحكومة قرارها بوجود فائض في القطاع وخاصة في الأقسام الثانوية ( 83 أستاذا لكل ألف تلميذ مقابل 66 في ألمانيا و60 في بريطنيا)، فضلا عن الخلل الحاصل في عملية توزيع المدرسين، حيث 500 أستاذ للغة الألمانية بدون تلاميذ. بينما تعتزم الحكومة الاشتراكية معالجة الثغرة التي سيخلفها 11200 ممن سيتقاعدون في نهاية سنة 2016، بإلغاء بعض الحصص وتقليص ساعات الدراسة، وهو ما أثار استياءا كبيرا في الأوساط النقابية وجمعيات آباء التلاميذ، التي رأت في القرار عملية تقشفية ليس لها من سند أو مبرر سوى إرهاق رجال التعليم، وإضعاف مستوى التحصيل لدى التلامذة. وعن قرار تقويم الخلل في بعض المناهج وإعادة الاعتبار للمدرسة ولهيئة التعليم بشكل عام مع تكريس وترسيخ قيم التوقير والاحترام تجاه المدرسين، وفي مقدمتها وقوف التلاميذ عندما يدخل الأستاذ، فقد تفاوتت بشأنه الآراء بين من يرصد فيه جرأة وابتكارا غير مسبوقين في اتجاه تحسين أساليب التحصيل والمعرفة في الحياة المدرسية، ومن يعتبره، كبعض النقابات، مجرد نفخة إعلامية آنية. وتعكس فلسفة هذا التوجه معاناة عدد كبير من المدرسين الذين يوضعون أحيانا في أسوأ درجات المهانة، من خلال المشاغبة والتمرد المتعمد الذي يعرقل أداءهم، في غياب الوازع الأخلاقي أو التدخل الإداري الرادع لمساعدتهم. والعقاب الجسدي في المدارس ظاهرة لا ينفرد بها الشرق الأوسط وحده، بل يشكو منها تلاميذ أوروبا، وخاصة فرنسا رغم أن قانون 1886 الفرنسي منع تماماً أي عقاب جسدي للطالب مبينا إن العقاب الوحيد الذي يمكن أن يستخدمه المعلم هو إعطاء درجات سيئة، والحرمان الجزئي من الفسحة، والوقوف في الفصل، والاستبعاد مؤقتاً من الحصص واللوم والتوبيخ. ورغم حرص القانون ورحمته بالطلاب أكثر من المعلمين، فإن المحاكم الجزئية تقف مع المعلم في حالات محددة حيث المدرس من وجهة نظرها له قوة وسلطة تأديبية مبررها المسئوليات التربوية التي يتحملها في ظروف غير مواتية أحيانا. ثم إن شد الشعر والخدود والصفعات غير المؤذية والضرب على المؤخرة،، ما زالت أساليب يرى فيها معلمو فرنسا وسائل طبيعية للحفاظ على النظام داخل الفصل. وتفيد أرقام وزارة التربية الوطنية بأن تلميذا من اثنين قد تعرض، أو على الأقل شهد عملا عنيفا من المدرسين أثناء الدراسة، وهو ما أكده البحث الذي قام به برنارد دي فرانس، عالم بيداغوجي، وأظهر أن 50% من الأطفال في الحضانة تلقوا صفعات أو ضربة على الأرداف، وأن نسبتهم في الأول الإعدادي كانت 95% و24% في ثانية إعدادي. ورغم أن نقابة المعلمين أكدت أنه ليس من حق المعلم أن يلمس الطالب، فإن الواقع فرض رأيا آخر يجعل القرارات صعبة في التنفيذ، حيث إن 95% من المعلمين أبدوا رغبتهم في اللجوء للعقاب مع الأطفال العنيدين، بل لجأ 74% منهم فعلاً إلى العقاب الجسدي على اعتبار أنه الحل الوحيد من وجهة نظرهم. ويسوقنا حرص الحكومة الفرنسية على مبدأ الاحترام والتوقير تجاه المدرسين وخاصة في الأقسام الابتدائية والإعدادية، إلى بعض النوادر المستنبتة من بيئتنا التعليمية العربية. ونقصد بها التباين بين مكانة المعلم وقدسيته عند أحمد شوقي (قم للمعلم وفه التبجيلا)، ورد إبراهيم طوقان الذي عاش حياته كلها معلما في قصيدة ساخرة تقول بعض أبياتها : يكاد يقلقني الأمير بقوله....كاد المعلم أن يكون رسولا..لو جرب التعليم شوقي ساعة...لقضى الحياة كآبة وعويلا..يا من تريد الانتحار وجدته...إن المعلم لا يعيش طويلا. ونستحضر نحن تلامذة الستينات وبداية السبعينات عصا المعلم المصنوعة من الخيزران وتسابقنا لكسب وده والنهل من معارفه بعد أن رسخ فينا ثقافة الاستماع التي هي المحرك الأساسي لمنظومة الإدراك والفهم. فإذا كانت القراءة الصامتة قراءة بالعين، والقراءة الجهرية قراءة بالعين واللسان، فإن الاستماع الذي هو قراءة بالأذن، ساعدنا في أعمارنا الأولى على تنمية قدراتنا في تخيل الأحداث، والتقاط أوجه الاختلاف في الآراء. وهي ثقافة في طريق الانقراض مع تواري قيم التوقير والاحترام، ومعه نزوح المعلم إلى إنهاء الحصة (بخير وعلى خير) في ظل التمرد والمشاغبة السائدة في الأوساط المدرسية. ناهيك عن اعتراض سبيله إن جانب الصواب مع التلامذة أو سجل نقطة أو ملاحظة سيئة في دفتر التلميذ. ألم ينصح أحد الآباء ابنه بعد تراجع مستواه بقوله : قم للمعلم يا بُني عجولا...واضربه حتى يرتمي مقتولا...هاجمه بالكرسي واكسر رأسه...فالرأس كان مخرفا وجهولا...وإذا افتقدت من الكرسي عدة...أشهر عليه الساعد المفتولا.