نحتاج في كل مرة لصورة تقذف بنا في بركة الواقع، لتوقظنا من سباتنا المفتعل، وتحرك فينا الجانب المستميت بعد فقدان الأمل، هكذا طل علينا عمران وقبله ألان، بأجسادهم المستسلمة لقدر سطره قداتهم، فموت ألان الفعلي على الشاطئ أمس حاكته اليوم نظرة استلام عمران بهدوء صادم عائد من موت معنوي، وهجرتهما شقت نفس القارب إلى وجهتن انتهتا بصمت على خلاف صرخة الطفولة عند الألم. عندما يحزم الشخص أمتعته ويعد العدة للرحيل، وينوي مغادرة الوطن، يستعد نفسيا وجسديا لعيش محطة أخرى من الحياة، محطة تبدأ بلقب مهاجر، وبصفة "غريب"، ويبدأ هذا الوصم من أبسط دوائر الانتقال، فحلول شخص بمنطقة غير مسقط رأسه وحتى من داخل بلده تمنحه تسمية "البراني" "براني على القبيلة"، وإن انتقل من مدينة إلى أخرى دائما ما يحمل اسم مدينته أكثر من اسمه الحقيقي، وتتسع رقعة الألقاب وتشتد حدة الصفة كلما ابتعد الشخص عن المركز، وعن موطن رأسه، فبانتقاله لبلد عربي ينعت بجنسية بلده الأصلي، وإذا ما حل ببلد أجنبي لقب بالعربي، وسجل تحت كل تلك النعوت التي باتت ترادف هوية العربي، لتبقى أرقى صفة، صِفة مهاجر، صفة جاءت نتيجة لظروف حتمت الانتقال، فرصة عمل هي، أو بحث عن لقمة عيش كريم، أو دراسة، أو أسباب أخرى كثيرة، المهم أنها لن تشفع لك عن صفة مهاجر. يتنفس المهاجر الصعداء في بلد المهجر يبحث عن أشخاص من هويته، ويفرح إذا وجدهم من بلده، ويغبط إن كانوا أبناء مدينته، وعزاؤه الوحيد حلول عطلته السنوية لزيارة الأهل والأحباب، ولاستنشاق عبق تراب أرض الوطن، يرحل وهو متأكد أنه سيعود خلال السنة المقبلة أو كلما سنحت له الفرصة، يعود ليراجع صفحات ذكرياته، ويتفقد حنينه الذي يكبر في كل وداع، حالة من التشتت العاطفي، تطرح بين بقائه ببلده الذي يهواه ولو أنه لم يوفر له عمل، ولم يصن كرامته، ولم يثنيه ويثبطه عن الرحيل، ورغم كل ذلك يحبه لأن فيه ما هو أغلى من الوظيفة و... فيه الإحساس بسنوات العيش مع الأهل، فيه ما يعجز اللسان عن قوله، والفكر عن تصوره، والعقل عن استيعابه، باختصار فيه العيش دونما صفة مهاجر. صفة مهاجر تحمل من السلب أكثر منها من الإيجاب، غير أنه مهما حملت من دلالة لن تكون أحد من صفة لاجئ، لاجئ رحل دون مقدمات، رحل كرها لا اختيارا، رحل خوفا من معانقة الموت قتلا لمعانقته غرقا، أو لمعانقة موت الضمير العربي، لاجئ أنا في بلد وصَلْتٌه قبل غيري ممن انتهى قدرهم قبل الحلول به، لاجئ أنا بضفة لفظتني حيا لا ميتا، لاجئ أنا على حياة أناس انتميت لهم بقدر فكنت عربي، لاجئ أنا بقلب منكسر على ضفاف واد خامل مطل على ضمائر ميتة، لاجئ أنا في صفحات جرائدكم ونشرات أخباركم، لاجئ أنا أنظر حالكم ممدين بشواطئكم مبخسين للحظة إنسانية توقف عندها الزمن، ونطقت فيها الصورة باللونين الأحمر والأزرق المبللين بأمواج بحر يعري واقعكم الذي لا نعنيه بقدر ما تعنيه أكلة "الشوارما". يستقبلك الألمان وقبلهم السويد، يخصصون لك قطارات ويحملون لك فواكه لا ورود، يحملون لعبا لأطفالك لا كتب، بابتسامة شفقة ينظرون إليك، يصورونك وأنت تحمل أطفالك بين ذراعيك، يصورونك وأنت تخترق السياج الحديدي لأن طعناته على الجسد ألطف من طعنات الأبواب الموصدة للعرب، ومنهم من يعرقل جريك ليأخذ لك صورة، لاجئ أنا في بلد لم أكن أعرف عنه إلا الاسم، لم أطمح يوما في الذهاب إليه حتى سياحة فكيف بي قاطنا، تحل ببلد تاركا وراءك كل شيء، ترحل دون موعد للعودة تهرب من أرض احتضنتك وعانقتك بالأمس وضمتك بأرحب أذرع، هي نفسها الأرض التي فتحت اليوم رصاصاتها في وجهك، ليس لأنك اخترت بل لأن إمكانية الاختيار لم تعد مطروحة، فإما الهروب أو الموت. لقد شكلت شيكاغو خلال القرن 19 قطبا جاذبا للمهاجرين من مختلف القارات ومن مختلف الثقافات، مدرسة حاكت الصراع الفكري والثقافي والإيديولوجي الذي احتدم بتنوع فارط في أشكال بشرية مختلفة ومتباينة لدرجة التناقض، وقليلة هي تلك التي الفئة التي حققت الاندماج بعبورها محطات القبول والانفتاح وتمثل ثقافة جديدة والتكيف لدرجة الانصهار أحيانا، اندماج كان ثمنه العيش بين بين، أو العيش عيشة الآخر دون الأنا، انسلاخ من المعترف به هنا حتى يعترف بي هناك. بالأمس شيكاغو واليوم ألمانياوالسويد وبلدان أوربية أخرى فتحت ذراعيها للاجئين من جنسية واحدة، سوريا بلاد الشام، بعدما هدمت أبواب الحارات، وتشتت السوريين في كل بقاع الأرض نتساءل عن سوريا غدا وعن غد سوريا، عن أجيال سوريا، كيف العيش وكيف المآل أبالانصهار؟ فلسطين لم تحرر وأجيال وراء أجيال عاشت على حلمهم ولا تزال، وكثيرا ما غنينا وقلنا القدس لنا، وستعزفون وترقصون وتبدعون لأبقى أنا كما أنا لاجئ أنا على الحياة حتى إشعار آخر.