باختصار شديد، عشت الأسبوع الأول من شهر غشت الباريسي في عالمين اثنين : عالم الثقافة وعالم الموسيقى. وبين العالمين، استمتاع لا حدود له بالإرث الفرنسي الغزير الذي يوثق لهذا الارتباط الفريد لدى الفرنسيين بذاكرتهم الجماعية وتراثهم...ارتباط اتسع مداه ليجعل من فرنسا القلب النابض للتراث الثقافي الإنساني. مبعث انشغالي بهذين العالمين مرده إلى الجمود السياسي والاقتصادي الذي يميز المدينة في مثل هذا الشهر. فساسة البلد في عطلة ينعمون بحصيلة سنة من المقالب والدسائس والمناورات المألوفة في عالم السياسة..بعضهم يزهو بمكاسبه وإنجازاته، والبعض الآخر يخطط لضربة موجعة تربك الخصم فور الدخول السياسي المنذر بصراعات قوية قد تؤججها الأوضاع الاجتماعية المتدهورة..المؤسسات الإدارية والاقتصادية فارغة إلا من بعض المداومين.. باريس اللاتينية كما باريس العتيقة المعروفتان، الأولى بصخبها وحركتيها التجارية، والثانية بحمولتها الفنية والثقافية، غارقتان في أجواء مسترسلة من الكآبة التي حولتهما من فضاءات نابضة بالحياة على امتداد السنة، إلى مواقع شبه ميتة.. وحتى الضواحي والأحياء الهامشية التي أقام فيها أبناء الجالية المغربية "وطنهم" المغربي في عقر الوطن الفرنسي، تبدو مثقلة بالرتابة وقد أغلقت محلاتها التجارية من مطاعم حلال، ومجزرات إسلامية، ودكاكين أمازيغية وغيرها، بعد أن هجرها أصحابها للتخلص، ولو شهرا واحدا، من حالات التقوقع والانحصار المفروضة عليهم في دنيا الاغتراب، وتلقي اللقاح المغربي اللازم لمزيد من التأصل وترسيخ ثقافة الانتماء والهوية..تأصل ناتج في معظم الأحيان عن النظرة الدونية والكليشيهات السلبية التي يرسمها المجتمع المضيف عنهم. أي انشغال بقي لي سوى أن أعيش شهر غشت في أحضان "عاصمة الكون"، كما سماها أحمد أمين، "مدينة الجن والملائكة" كما وصفها طه حسين، "مدينة الأنوار" كما لقبت في عصر التنوير في القرن السابع عشر..وكيف لي أن أفوت فرصة هذا الشهر الميت سياسيا واقتصاديا، وأنا الذي عشت بباريس عقدا ونصف من دون أن أسبر أغوارها وكنوزها وأغوص في عمق أنماطها الثقافية والفنية.. هكذا قررت التجانس ميدانيا وبشكل ملموس مع باريس نازعا من ذاكرتي كل ما قرأت عنها من أنها مركز المعارف والفنون والصناعة، وعاصمة العطور والحلي الثمينة والموضة بمختلف تصاميمها، يقصدها سنويا ما لا يقل عن خمسين مليون سائح منهم من تستهويه كنوزها الأثرية الثمينة بمتاحفها ومسارحها ومطاعمها، ومنهم من يعشق حدائقها ومنتزهاتها التي يتعرجها نهر السين بمجراه الهادئ وقد أضفت الأضواء على الأشجار المحيطة به بريقا جذابا جعل المدينة توصف بالمرأة التي زينت شعرها بالورود. وضعت مستعينا بالأنترنيت خارطة طريق لتجوالي داخل المدينة التي تأكدت مكانتها منذ زمن طويل كمركز عالمي لمعظم مذاهب العلوم والسياسة والرسم والنحت والمسرح والآداب...وكنت كل يوم أتأبط محفظتي وبها دفتر صغير أدون فيه ما لا تطيق ذاكرتي تخزينه، وقنينة من الماء، وكسرة خبز محشوة بقليل من اللحم أو الدجاج (الحلال) مع شيء من الخضروات الطرية. انصرفت في أول رحلة للقاء برج إيفيل المأخوذة تسميته من المهندس أليكسندر غوستاف إيفيل، وهو حاليا من أكثر المعالم السياحية (قرابة عشرة ملايين زائر سنويا). هيكل البرج يتكون من 15 ألف قطعة من الصلب، ويزن قرابة ال 7000 طن. وبه ثلاثة طوابق تضم المتحف السمعى البصرى المخصص لقصة تشييده ومكتب المهندس إيفيل وعدد من المطاعم ومحلات بيع التحف التذكارية. وقد استمتعت من هذا الطابق بإلقاء نظرة بانورامية على باريس، بعد أن استعملت المصاعد الكهربائية لأن صعوده على الأقدام قد يكلفني ركوب ال 1653 درجة، وهو ما لا تتحمله طاقتي الجسدية. وقد أثار بناء البرج الذي انتهى العمل به عام 1889 حينها كثيرا من الجدل، إذ اعتبره عدد من الكتاب والفنانين تشويها لتناسقية وجمال العاصمة. ولأن وزنه قد أثار بعض المخاوف في أوساط المعماريين، فقد خضع في الثمانينات لعملية ترميم فقد من خلالها أربعة أطنان. وغير بعيد عن البرج الذي شيد في ميدان تروكاديرو الشهير، وقفت على قصر شايو الذي هو مجمع لعدد من المتاحف أهمها متحف البحرية وبه نماذج مصغرة عديدة لسفن ومراكب شهيرة ومتحف الإنسان الذي يحتوي على مجموعات من التحف الفنية لكثير من الحضارات الأوربية والآسيوية، وكذا متحف السينما، ويشمل آلات التصوير القديمة وأزياء وديكور وبلاتوهات عدد من الأفلام الفرنسية الشهيرة، وهو يتكون من قرابة ستين قاعة مخصصة لصناعة السينما فى فرنسا ولتاريخ تلك الصناعة. ولأنها بلد نادار و دواسنو وبروسون وغيرهم من الأسماء المتأصلة في عالم التصوير والسينما، فإن فرنسا لايمكن أن تهمل هذين القطاعين. وقد وقفت في حصن سان سير قرب قصر فرساي، على خزانة بها أكثر من خمسة ملايين صورة سلبية تعود لكبار المصورين، ومجموعات من تقارير مصورة حول العالم، بين 1910 و 1931، ومجموعات من 3000 لوحة (بورتريه) لشخصيات سينمائية و موسيقية و غنائية و أدبية و فنية و سياسية... كما تم إنشاء مكتبة الصور الثابتة والمتحركة بهدف الحفاظ عليها من التأثير الزمني، وهي تضم في أرشيفها 72000 صورة بالأبيض و الأسود و 170.000 مترا من الأفلام. وللسينما أيضا تراثها المحمي حيث أنشئت المكتبة السينمائية للحفاظ على ذاكرة الفن السابع. وتواصلت رحلاتي يوميا بقلب باريس العتيقة، فمن أول متحف في العالم، متحف اللوفر وعدد تحفه المعروضة 30 ألف تحفة، وهو يستقبل سنويا أكثر من عشرة ملايين زائر، إلى أوبرا غارنييه وهي أكبر مسرح موسيقي فى العالم، إذ تبلغ مساحتها 11 ألف متر مربع، وتستقبل قاعتها 2000 متفرج وخشبتها المسرحية 400 ممثل فى نفس الوقت، ثم مركز جورج بومبيدو للفنون والثقافة الذي يعتبر واحدة من أبهى المعالم الباريسية الحديثة التي شيدت على شكل معمار مدني تقليدي نهل من أهم الأعمال الفنية البارزة لبعض مدارس وفناني القرن العشرين ( بيكاسو، ماتيس، كاندنسكى وغيرهم). وقبالة كاتدرئية نوتردام وساحة محمد الخامس، وقفت على أهم واجهة ثقافية للحضارة العربية خارج الحدود الجغرافية للوطن العربي. إنه معهد العالم العربي الذي شيد سنة 1987 بهندسة تلاقي بين الحضارتين العربية والفرنسية. فالواجهة الشمالية تشبه مرآة تعكس منظر الأبنية المواجهة له، فى حين تمتزج التقنية بالتراث من خلال الواجهة الجنوبية المحلاة ب 240 مشربية تفتح وتغلق حسب كمية الضوء الساقط عليها بفضل عدد من الخلايا المتأثرة بالضوء. لم أكن لأستثني في متعتي التجوالية الحدائق الباريسية وخاصة حدائق التويلري وأحواضها المختلفة، ثم حدائق لوكسمبورج التي توفر للباريسيين والزوار مكانا للراحة والهدوء وسط المناطق المزروعة صفوفا من الورود متعددة الألوان. وخلفها قصر لوكسمبورج الذي يطل على حدائق لوكسمبورج، ويرجع تاريخه إلى السنوات الأولى من القرن السابع عشر الميلادي. تلك هي باريس بمنتزهاتها وحدائقها وبمراكزها الثقافية والفكرية وبمعالمها وكنوزها التاريخية التي انصهرت فيها حضارات عريقة ومتنوعة. تلك هي باريس مركز الثقافة والعلوم والسياسة ومركز الأعمال والموضة والعطور أيضا.