دخلت يوما معرضا للفن التشكيلي، منذ حوالي أربعا وأربعين سنة، ووقفت أتأمل لوحة جذبتني، وأذهلتني. وكانت عبارة عن إخطبوط ضخم يسيطر على كامل اللوحة، يدور حول نفسه، وأذرُعُهُ، أو مِجسّاتُه، تتلَوّى حوله، عيناه تحدقان في الرائي. وكأنّ الإخطبوط يقول للرائي : إنني أعرفك.. وعندما حاذاني الرسام صاحب العرض، وهو صديق، كتبت مرارا عن فنه الذي يميل إلى الصوفية، سألته : ماذا تعني هاته اللوحة؟ رفع الفنان راحته اليمنى وأدارها في الهواء، في اتجاه عقارب الساعة، وقال : إنها تمثل حركة الله في الكون وحصلت على اللوحةَ المستقرة الآن على أحد جدران بيتي، لأن الفنان أضاف لها بعدا جديدا بالوصف بالكلمات. بعد عقود من اقتنائها، ما زلتُ، كلما ألقيتُ عليها نظرة، أرى فيها حركة المطلق في الكون.. لقد أصبحتْ صورةُ الكلمات وصورة الفرشاة تتضافران لإيصال المعنى. أصبح الرائي والناشئ، مشاركان في إضفاء المعنى على الأثر الجمالي، الفرشاة بالنسبة للشِّعْر هي خيال الشاعر، وخيال قارئ الشعر، معا. هكذا أصبح وَضع الشعر في زمان الصيرورة، الذي ينبغي ألا يغصب حق أحد، في المشاركة، ولا يعترف بالإستفراد والطغيان. الشعرُ، لايشرح الشاعرُ معناه؛ لأن كل مقطوعة شعرية، تَلُفُّ إزارَها على معانيها، وإلا تحولتْ من التّورِيّةِ إلى التّعْرِيّة. أي إنها لم ترق إلى المستوى الأعلى للمعني، أي معنى المعنى، كما سيرد أدناه. ثم إن الشرح من طرف الشاعر، أو الرسام، هو تفتيت وإتلاف. أما عندما تتدخل مخيلة القارئ، وتنخرط إيجابيا في المضمون، يصبح الشعر، كما الرسم، ثريا، بما أضفاه عليه القارئ، أو المشاهد، من خياله. يصبح للمقطوعة الشعرية، أو اللوحة الفنية، أبعادٌ متعددة لا تَحُدُّها إكراهات الشّرْح، وما يَفْرِض عليها الشرح من حدود.. وعليه، فإنني أتقدم بمطلبٍ، إلى صاحب المَرْسَمِ العريض الواسع، والذي لاجُدران له ولا سقف، إلا السماء، والأفق الأرحب، مَرْسَمُ الخيال الذي يملكه كل قارئ للشعر، وكل مشاهد للفن، وهو من صفوة الأصفياء، مازالت تُقِرّ بمكانٍ للشعر، والفن التشكيلي، في مناخٍ مزدخمٍ خانق، مطلبي لقارئ المقطوعات التي أنشر على هذه الصفحات، إذا شاء أن يُضفي عليها معنىً، أو معاني، من عنده، ومن وحي خياله، أن يأخذ بالإعتبار، وهو يرسم لها لوحته، أنها مخبولةُ اللّفَتات، تَفْكيك شَفْرَتِها يكاد أن يقول : (خذوني)) إنها تسكن، كنفس الشاعر، في الحَيِّ البوهيمي. هو حي يقع بين الواقع والخيال، أهرب إلى أزقته حين يداهمني ما يداهمني، وعندي قناعة لا أحيد عنها، أوجزها من تحليلات معمقة، ليس هنا مجال بسطها، لعبد القاهر الجرجاني: الإستمتاع بالمعاني، أو بتشكيل ألوان المعاني، هو فرع تصور عقلي، وتركيب خيالي. والإبداع الأدبي، والفني عامة، يعرض على المتلقي، درجة أرقى من المعاني، تظهر في براعة التركيب، أو في ما يسميه الجرجاني بالنظم. الأمر الامتوقع أنني إلتقيت اليوم : (الجمعة 03 06 2016 ) بصديقي الفنان التشكيلي عمر بوركبة، في مقهى اسمه طاولة القهوة بمراكش وهو من الجيل الأول للفنانين التشكيليين، وتشعب بنا الحديث إلى أن سألني : ألى زلت تحتفظ باللوحة؟ وحين أجبت بالإيجاب، طلب مني أن أصورها له وأبعثها ب ألإيميل، لأنه يريد أن يضمنها في كتاب سيصدره قريبا، عن حركات الله في الكون، وعن لقاء الإنسان بنفسه الأخرى، التي تلامس المطلق، التي تدوم عقودا وعقودا، إما في نقرات شعرية، أو في ضربات ملهمة، من الفرشاة.