لا يختلف الأفارقة في كون مشاعر الثقة بين فرنسا وقارتهم آخذة في الاهتزاز منذ تولي فرانسوا هولاند الرئاسة، وأن الدبلوماسية الفرنسية بصدد فقدان أهم معاقلها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، كما تدل على ذلك التقارير الاستخباراتية المرفوعة إلى الإليزيه من سفارات فرنسا في البلدان الإفريقية والتي تؤكد في معظمها على أن صورة فرنسا فقدت كثيرا من بريقها في القارة الإفريقية بسبب "الإهمال" الذي ميز أداء الدبلوماسية الفرنسية منذ السنوات الخمس الأخيرة. وتتأرجح صورة فرنسا اليوم بين النفور والامتعاض من سياسة هولاند الإفريقية، حيث لم تعد فرنسا المرجع الهام ولا الرئيسي في إفريقيا بسبب توجه الرئيس الفرنسي نحو القطيعة مع ماضي وحاضر الجمهورية في السياسة الخارجية. فقد جعل من مقاطعة السياسة الديجولية ورقة أساسية في فترته الرئاسية قبل أن ينبهه خصومه وحتى بعض المحسوبين على التيار الاشتراكي إلى حاجة فرنسا الماسة للتصالح مع التيار الديجولي، والأخذ بسياسة جاك شيراك الخارجية، وصواب قراراته بعدم السير وراء أخطاء الولاياتالمتحدة في الكثير من مناطق العالم وخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا. فالرئيس هولاند وإن كان يدرك أن الأفارقة قد حققوا اليوم من شروط التنمية ما يؤهلهم إلى اقتحام العولمة الاقتصادية بوتيرة سريعة، لم يفعل شيئا لمغازلة القارة والتقرب منها تاركا المجال مفتوحا لدول كبرى مثل الصين والهند والبرازيل وأيضا الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي أخذت لها منذ فترة موطنا متقدما في القارة قد يعصف بكل الأحلام والتطلعات الفرنسية في المنطقة. ومن بين أسباب انطفاء شعلة العشق الإفريقي لفرنسا، الدعم الصريح الذي تقدمه باريس لبعض القادة المستبدين حيث تواجد القواعد العسكرية الفرنسية يقوي الشعور لدى المواطن الإفريقي بأن فرنسا لا تتحرك سوى لحماية الحكومات المتسلطة تحت ذرائع واهية. ومن بواعث السخط الإفريقي أيضا نهب فرنسا للثروات الطبيعية للأفارقة الذين ينتابهم الشعور اليوم بأن فرنسا تخلت عنهم في مجالات عديدة مثل الهجرة والتأشيرات وإنصاف قدماء المحاربين وتراجع المساعدة من أجل التنمية. غير أن المشكلة كما تشرحها الدبلوماسية الفرنسية، هي أن فرنسا لم تعد لها لا الطموحات ولا الوسائل للإبقاء على المساعدة بالوتيرة المعهودة. ذلك أن شبكة الدعم الاقتصادي والثقافي التي كانت ذات فعالية قبل عقود، تفككت بالمرة ولم تعد فرنسا تتحكم سوى في نسبة الثلث من حجم المساعدات، والباقي موزع بين تقليص الديون الإفريقية والمساعدات الموزعة عبر الاتحاد الأوربي، ومن ثم فإن الإنجازات الفرنسية بإفريقيا تبدو شبه منعدمة أمام الملاعب وقصور المؤتمرات التي يشيدها الصينيون. وإلى جانب المؤاخذات السياسية التي تصب في اتجاه "استعلاء" فرنسا في تناولها لبعض الملفات الإفريقية ومعاملتها الدونية للفرد الإفريقي، يعاب على فرنسا استهتارها بحقوق المهاجرين حيث كلما ازداد فتيل الضواحي اشتعالا، تقوى الشعور لدى الشباب الإفريقي بأنه مستهدف. ويرى الكثيرون من العارفين بالشأن الإفريقي من إعلاميين وخبراء واقتصاديين أن إهمال فرنسا للقارة الإفريقية ناجم عن الواقع الإفريقي بمكوناته السياسية والاجتماعية التي لا تشجع كثيرا على رسم شراكة إستراتيجية مع البلدان الإفريقية بسبب الفساد وسوء الحكامة التي تميز سياستها. فقارتنا الفتية تتفوق عالميا في الكثير من المجالات. فهي الأولى فقرا (33 دولة إفريقية تحتل الصدارة من بين 44 دولة صنفها البنك الدولي الأكثر فقرا في العالم)، والأولى من حيث ضعف معدل الدخل الفردي وسوء التغذية، والأولى من حيث نسبة الأمية التي تفوق 46 في المئة، وكذلك الأولى عالميا من حيث تفشي الأمراض والأوبئة، والأولى في الكثير من الآفات التي قد نجد لها مبررات مرتبطة بشكل خاص بالسياسات الاستعمارية، وما نتج عنها منذ قرن ونصف من إقصاء للإنسان الإفريقي ونفي لمكوناته الثقافية. وليس من الجائز أن تتخذ إفريقيا من الاستعمار الذي ارتحل منذ ما يزيد عن نصف قرن، ذريعة لتبرر تخلفها وفسادها السياسي والإداري حيث هي الأولى أيضا عالميا من حيث سوء الحكامة والمحسوبية والارتشاء واستغلال النفوذ، والأولى من حيث اغتيال الحريات العامة والاستهتار بحقوق الإنسان، والأولى أيضا ضمن الأنظمة التسلطية التي حكم قادتها بمعدل 23 سنة للواحد (ست سنوات في الدول الغربية)، تقاسم رقمها القياسي إلى وقت قريب كل من الرئيس عمر بونغو والعقيد القذافي، الأول مات موتا طبيعيا ونقل الإرث الرئاسي لابنه علي والثاني قتلته الثورة الليبية بشكل شنيع. وليس من الصواب في شيء أن تُحمل إفريقيا أيضا الاستعمار مسئولية كونها الأولى عالميا من حيث تهريب الأموال، والأولى أيضا في عدد اللاجئين الذي تجاوز الأربعة ملاين أي ما يمثل 35 في المئة من عدد اللاجئين في العالم، وذلك بسبب الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية حتى إن الصورة الذهنية التي كرستها وسائل الإعلام الدولية والمحلية أصبحت ترادف بين إفريقيا وبين حالة العنف والصراع الداخلي على السلطة في ظل واقع يائس وميئوس. وإلى حين أن تستفيق الشعوب الإفريقية من سبات التخدير الذي مورس عليها طوال عقود، وتدرك أن قارتها مؤهلة لأن تكون فضاء كبيرا ومتكاملا يحولها إلى قوة كبرى معاصرة، ويجنبها صراعات ومنافسات القوى الكبرى الراهنة، وتحديدا الصراع الخفي بين والولاياتالمتحدةوالصين حول نفطها وثرواتها المعدنية والطبيعية، يبقى على الحكام الأفارقة أن يهنئوا أنفسهم على المراتب المتقدمة التي أودت إليها تحالفاتهم وولاءاتهم المسكونة بهاجس السلطة والتسلط البغيضين.