شهدت فرنسا قبل أسبوعين حدثين في قمة الأهمية بالنسبة للقارة الإفريقية. الأول يتمثل في قرار السلطات القضائية بفتح تحقيقات مع رؤساء الغابون وغينيا الاستوائية والكونغو بتهمة نهب أموال عمومية وتبييضها في أملاك عقارية بباريس، والثاني دعوة زعيم الحركة الديمقراطية، فرانسوا بايرو، الشخصية الثالثة من حيث التأهل لرئاسة الجمهورية حسب استطلاعات الرأي، الرئيس هولاند إلى الكف عن نهب ثروات إفريقيا. "من واجب فرنسا الكف عن السياسات الاستعمارية القاضية بنهب ثروات إفريقيا وفي مقدمتها اليورانيوم، وتحويلها إلى مواد مصنعة تبيعها بعد ذلك بأضعاف الأثمان إلى أصحابها، لتساهم بشكل منهجي في عملية لصوصية تستنزف القارة وأهاليها"، يقول فرانسوا بايرو في مقال نشرته صحيفة "لوفيغارو" في عددها الأخير. دعوة بايرو لقيت بالطبع تأييدا واسعا في الأوساط المناهضة للاستعمار الثقافي والاقتصادي الجديد القائم على صناعة وإنتاج طبقات حاكمة في إفريقيا تدور في فلك الحكومات الغربية وتنفذ رغباتها. ولكن الدعوة فضحت أيضا الواقع الإفريقي بمكوناته السياسية والاجتماعية حيث قارتنا الفتية تتفوق عالميا في الكثير من المجالات. فهي الأولى فقرا (33 دولة إفريقية تحتل الصدارة من بين 44 دولة صنفها البنك الدولي الأكثر فقرا في العالم)، والأولى من حيث ضعف معدل الدخل الفردي وسوء التغذية، والأولى من حيث نسبة الأمية التي تفوق 46 في المئة، وكذلك الأولى عالميا من حيث تفشي الأمراض والأوبئة، والأولى في الكثير من الآفات التي قد نجد لها مبررات مرتبطة بشكل خاص بالسياسات الاستعمارية، وما نتج عنها منذ قرن ونصف من إقصاء للإنسان الإفريقي ونفي لمكوناته الثقافية. وهل يجوز أن تتخذ إفريقيا ومعها بلدان المغرب العربي من الاستعمار الذي ارتحل منذ ما يزيد عن نصف قرن، ذريعة لتبرر تخلفها وفسادها السياسي والإداري حيث هي الأولى عالميا من حيث سوء الحكامة والمحسوبية والارتشاء واستغلال النفوذ، والأولى من حيث اغتيال الحريات العامة والاستهتار بحقوق الإنسان، والأولى أيضا ضمن الأنظمة التسلطية التي حكم قادتها بمعدل 23 سنة للواحد (ست سنوات في الدول الغربية)، تقاسم رقمها القياسي إلى وقت قريب كل من الرئيس عمر بونغو والعقيد القذافي، الأول مات موتا طبيعيا ونقل الإرث الرئاسي لابنه علي والثاني قتلته الثورة الليبية بشكل شنيع, وهل يحق لإفريقيا أيضا أن تُحمّل الاستعمار مسئولية كونها الأولى عالميا من حيث تهريب الأموال، والأولى أيضا في عدد اللاجئين الذي تجاوز الأربعة ملايين أي ما يمثل 35 في المئة من عدد اللاجئين في العالم، وذلك بسبب الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية حتى إن الصورة الذهنية التي كرستها وسائل الإعلام الدولية والمحلية أصبحت ترادف بين إفريقيا وبين حالة العنف والصراع الداخلي على السلطة في ظل واقع يائس وميئوس. لقد استنزفت الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية ما يفوق 284 مليار دولار، وفق ما ورد في الدراسة التي نشرتها المنظمة الإنسانية "أوكسفام" و"شبكة العمل الدولي حول الأسلحة" في 11 نونبر الماضي. ويمثل هذا المبلغ مجموع المعونات التي تلقتها القارة منذ عقد ونصف. وعددت الدراسة 23 نزاعا كلفوا سنة 2010 ما يزيد عن 18 مليار دولار، مع استثناء الحرب الأهلية التي تدور رحاها بالصومال منذ 1991. والحال نفسه بالنسبة لتهريب الأموال، إذ كشف تقرير نشرته مؤخرا منظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية، أنه في الفترة ما بين 2000 و2010، تم تهريب ما يزيد عن 13 مليار دولار كمعدل سنوي من القارة الإفريقية. ويمثل النزيف المالي المتراكم منذ سنوات الاستقلال، حسب المنظمة الأممية، أزيد من 278 مليار دولار، أي ضعف مديونية القارة، وهي المديونية التي تدفع فوائدها بما يعادل ربع عائداتها من الصادرات أي أكثر من 30 مليار دولار سنويا. ومقابل هذه الميداليات الذهبية التي حصدتها ولا تزال في الألعاب السياسية الدولية، تنتصب القارة أيضا في المراتب الأولى عالميا من حيث إمكانياتها وثرواتها الطبيعية حيث يمر بها أطول نهر في العالم هو النيل، وبها أكبر وأهم البحيرات الطبيعية في العالم، كما تحوي حوالي 30 في المئة من الاحتياطي العالمي للنفط والغاز، فضلا عن ثرواتها الهائلة من الخشب والفوسفاط والماس والذهب والأورانيوم وغير ذلك من الموارد التي تتعرض لنهب منتظم من قبل الحكومات الغربية والحكام الأفارقة الفاسدين، وكأن القارة مرغمة على أداء ضريبة ثروتها للطرفين. وإلى حين أن تستفيق الشعوب الإفريقية من سبات التخدير الذي مورس عليها طوال عقود، وتدرك أن قارتها مؤهلة لأن تكون فضاء كبيرا ومتكاملا يحولها إلى قوة كبرى معاصرة، ويجنبها صراعات ومنافسات القوى الكبرى الراهنة، وتحديدا الصراع الخفي بين فرنسا والولايات المتحدة والصين حول نفطها وثرواتها المعدنية والطبيعية، يبقى على الحكام الأفارقة أن يهنئوا أنفسهم على المراتب المتقدمة التي أودت إليها تحالفاتهم وولاءاتهم المسكونة بهاجس السلطة والتسلط البغيضين.