يقينا، وكما يبدو للمتابع، فإن المحاكمة التي يلاحق بها وزير الداخلية الأخ و الصديق عبد الله البقالي، تأتي في سياق العداء التاريخي الذي يكنه "الحزب السري بالمغرب" لجريدة "العلم" الغراء، والتي ما فتأت على مر العقود تدين ممارسات أعضائه داخل رداهات محكمة الشعب و ترافع ضدهم باسم الأمة لينتهي بهم الدهر بيننا يائسين منبوذين. ولعل التاريخ الذي ينتصر مدى سنواته لهذا الصرح الإعلامي "العلم الشامخة " و يصيب مناوئي خطها التحريري بالاكتئاب، خير شاهد على محاولاتهم اليائسة لترويض صحافييها و مدراء تحريرها ،إذ تؤكد دلائله الدامغة، وحقائقه الثابتة الموثقة، ما يؤصل لعدالة النوازل التي اختارت أم الجرائد بالمغرب الانحياز لها، بالفطرة، لا بحثا عن المجد المزيف أو التهافت وراء جلبة العناوين الخداعة. ولم تكن رسالة أولى بواكير الإرهاب الفكري في بلادنا، تحتاج إلى تشفير إذ وقعت سنة 1963 على وثيقة متابعة جريدة العلم بأيدي باغية تسلطت بعد بزوغ الاستقلال، محاولة تطويع كل من الهرم الصحافي و الأديب عبد الكريم غلاب أطال الله عمره، و الراحل الشامخ الصحافي و الأديب عبد الجبار السحيمي رحمة الله عليه، فيما عرف آنذاك بقضية حد كورت أو بقضية الألف شاهد. واستمرت مناوشات من لف لفهم من عناصر الشر طيلة سنوات الرصاص، تارة يتم فيها الضغط بفرض الرقابة على مقالات صحافيي جريدتنا،و تارة أخرى ينهج ضدهم أسلوب التضييق و التهديد، لكن الأقلام الحرة الممانعة ظلت تقاوم تلك الأفعال المنكرة و تواجهها بشموخ، إلى أن دقت ساعة جمع الحساب سنة 1991، لتشهد إحدى محاكم المملكة أطوار متابعة غريبة ل"العلم " التي نقلت بكل مهنية تفاصيل أحداث "فاس دجنبر 1991" . وتبقى شهادة أيقونة جريدة العلم الصحافي و الديبلوماسي الرحل العربي المساري خير موثق لما عاشته هذه اليومية التي كان فيما مضى مديرا لها،من حرب غير منتهية بينها و بين بعض وزراء الداخلية حيث جاء على لسانه بمناسبة تكريم الأستاذ عبد الكريم غلاب سنة 2008 أن " تطور الحقل الإعلامي في المغرب يرجع، في جزء منه، إلى التضحيات التي بذلها الجيل المؤسس لمهنة صاحبة الجلالة في الوقت الذي كان فيه ناب الداخلية بارزا، ليس من التبسم طبعا كما قال الشاعر"، وحكى الرحل تغمده الله برحمته تفاصيل محاكمة العلم في الستينيات من القرن الماضي، وكيف أن عمودا في ذلك الوقت كان يقود صاحبه إلى السجن وختم قوله مخاطبا مديره ورفيق دربه «اطمئن غلاب، إننا لن نحرق في البحر»، في إشارة مبطنة منه إلى البيئة الطاردة سياسيا وإعلاميا وثقافيا، والتي يعيش المغرب تفاصيلها الأشد عتوا في الوقت الحاضر، كما عاشها في سنوات الرصاص. إن المتمعن، اليوم في متابعة نقيب الصحافيين و البرلماني عبد الله البقالي سيخلص إلى ثلاث مسلمات: المسلمة الأولى : أن الأستاذ عبد الله البقالي هو استمرار لتدفق حبر الحق على صفحات جريد العلم ضد الطغيان و التحكم، و هنا لابد أن أدلي بشهادة، بصفتي صحافي اشتغل تحت إدارته، تتجلى في كونه تعرض في مرات لمحاولة تركيع بعدما أزعج بحديثه اليومي أصحاب" الأحوال "، لكنه كان عصيا على كل تجربة. المسلمة الثانية : تؤكد أن صك الاتهام الذي تجابه به جريدة العلم لم يتغير و أن تهمة "إزعاج السلطات" ستظل جاهزة تشهرها وزارة الداخلية في وجه صحافييها كلما ذاقت ذرعا من كتاباتهم، و الدليل على هذا كله هو أن كل من محاكمة 1963 و 1991 ومتابعة الأستاذ عبد الله البقالي 2016 أبرز عنصر فيها هو (شرف) رجال "السلطة" الترابية . المسلمة الثالثة: و هي الأخطر من نوعها كونها تعبر عن الردة و النكوص الحقوقي، فقد كان مستساغا أن نسمع أو نقرأ في صفحات الزمن الأسود الذي تصالحنا معه في إطار " الإنصاف و المصالحة " أن يطالب وزير للداخلية بحبس صحافي و إغلاق جريدة، أما أن تدفعنا الأيام إلى الوقوف أمام "مسخة" المطالبة بإغلاق جريدة العلم ، و متى ؟؟!! سنة 2016 بعد مضي أكثر من عقد من الزمن على المصالحة، فذاك مالا يقبله العقل .. خلاصة المسلمة الثالثة، وباختصار هي أن حراس المعبد لا يروق لهم حال و لا تهدأ لهم نفوس و يطمئن لهم بال إلا بسجن صحافيي جريدة العلم و إخراس كلماتها إلى الأبد. ختاما سأعود لأقتبس من الأستاذ العربي المساري عبارته الحكيمة الممانعة و أقول: حاكموا البقالي، اسجنوه، اغلقوا جريدة العلم، أثقلوا صحافييها المناضلين بالغرامات المالية .."إننا لن نحرق في البحر " ختاما أيضا ، دعوني أهمس في آذانكم بكلمات للشاعر و الروائي بابلو نيرودا "تستطيعون قطف الزهور ، لكنّكم أبداً لن توقفوا زحف الربيع..."